جان كورد
على الطريق الشاق والصعب لبعض الشعوب إلى قمة السيادة الوطنية، ومنها الشعبان الكتالوني والكوردستاني، يتم طرح مخارج للخروج مما يحلو للبعض تسميتها ب”الأزمة”، وفي الحقيقة نسأل أين تكمن الأزمة عندما يؤكّد شعبُ من الشعوب على حقه في الحرية والاستقلال والسيادة على أرض وطنه والتمتّع بثرواته؟ الأزمة هنا مفتعلة من جانبٍ واحد، هو جانب النظم المستبدة بالشعوب المغلوبة على أمرها والتي تم امتصاص خيرات بلادها من قبل الحكام الغرباء عنه، لغةً وثقافةً وفي بعض الأحيان قوميةً وعنصراً، إذ لا يُعقل أن يطالب جزءٌ من شعبٍ ما بالانفصال عن جزءٍ آخر إن كان الطرفان من ذات الطينة والدم، ولكن في بعض الأحيان يحدث هذا أيضاً، أو لا يتمكن جزآن من شعب واحد من الوحدة، مثل الشعبين السوري واللبناني، أو الأردني والسعودي، وسواها.
والمخرج الأسهل والأعقل من “الأزمة!” يكمن ببساطة في اعتراف الحاكم بحق المحكوم في نيل حقه، وفي حال الزعم بأن هناك “شراكة” بين شعبين، كما يردد حكام بغداد حيال رغبة الشعب الكوردي في الاستقلال، فإن “الشراكة” لا تستمر بقوة السلاح أو تحت الضغوط والتهديد والإكراه، فالعراق “دولة اتحادية!” كما ينص دستوره، فإذا طالب العرب أو الكورد الخروج من “الاتحاد” فهذا حق مشروع، وثمة علماء يقولون ((الافتراق على عدل وإنصاف وفي سلام أفضل من الاتحاد على ظلم وإكراه وفي نزاع)). وتراجع الشعبين الكتالوني والكوردستاني عن القرار التاريخي الذي أخذاه عن طريق استفتاءٍ ديموقراطي رغم كل التهديدات الحكومية، في كلٍ من العراق واسبانيا، بالتأكيد سيكون خطيراً وصعباً للغاية في آنٍ واحد، رغم إلحاح الحكومتين المركزيتين في هاتين الدولتين، إضافة إلى تهديدات دول الجوار بالنسبة لإقليم جنوب كوردستان بالتهديد وباستخدام القوة.
(1921-2006) موراي بوكتشين
هناك من يطرح كمخرج فكرة “الفيدرالية الديموقراطية” كبديل عن الاستمرار في الطريق صوب “الاستقلال”، وكأن هؤلاء يستخفون بإرادة شعبٍ أعطى حكومته وقيادته توكيلاً وتكليفاً بإعلان الاستقلال بنسبة تزيد عن 92% من السكان، وبنسبة تزيد عن 72% من الذين صوتوا بالفعل، وعجيبٌ كيف يتهاون هؤلاء في هكذا موضوعٍ يمس كرامة وإرادة شعبٍ بأسره، وهذه الفكرة هي في الأساس من طرح الكاتب والمؤرخ اليساري المتطرف موراي بوكتشين (1921-2006)، المولود في نيويورك والمتوفي في بورلينغتون – فيرمونت، والمعروف عنه بأنه كان “شيوعياً فوضوياً” من أصول روسية يهودية، تبنى مشاريع فكرية وسياسية عدة، منها فكرة “الحركة الخضراء” و “وجهاً لوجه” و”الفيدرالية الديموقراطية” التي أخذها عنه الزعيم العمالي، السيد عبد الله أوجالان، بعد اختطافه واعادته إلى تركيا التي حاربها حزبه سنين طويلة، ثم عندما وجد نفسه في قبضة الأتراك، شرع يمجّد “ديموقراطية مؤسس الجمهورية التركية” مصطفى كمال، ويدعو لأفكارٍ عديدة بعد إعلانه التخلي عن مشروع حزيه (الاستقلال الكوردي)، منها مشروع “الفيدرالية الديموقراطية” الذي يعتقد معظم أتباعه بأنه “مشروع أوجالان” بينما هو في الحقيقة للفوضوي المعروف عالمياً موراي بوكتشين، حيث يدعو إلى هدم الفكرة القومية والوطنية، وتسليم السلطة إلى “كومونات و كانتونات شعبية”، وهذا يذكّرنا بتعاليم “الكتاب الأخضر” للزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي، الذي يبدو أنه أخذ أيضاً من موراي بوكتشين أفكاره عن “الجماهيرية الخضراء”. هذا جميل فيما إذا تخلت كل السلطات الحاكمة عن ممارسة سلطاتها وسلّمتها للشعوب، إلاّ أن هذه الفيدرالية خيالية، وأنصارها يحاولون فرضها أو تطبيقها على الشعب الكوردي وحده، هذا الشعب الذي قدم مئات الألوف من الضحايا ودمرت بلاده خلال العقود القليلة الماضية من التاريخ وتعرّض إلى شتى أنواع المآسي والمجازر، بسبب مطالبته بحريته واستقلاله، ورغم ذلك تفرض عليه حكومات الدول التي تقتسم أرض وطنه أن يظل تحت قبضتهم وفي ظل فسادهم الذي لا مثيل له وتبعيتهم لنظامٍ من خارج العراق، بعيدٍ كل البعد عن الديموقراطية واستهتارهم بكل القيم والمبادئ الإنسانية.
المخرج الآخر هو تطبيق نظام “الكونفدرالية” على غرار ما تم الأخذ به لدى بناء الاتحاد الأوربي، وهذا يعني أن كل الدول المنضمة للاتحاد تتمتّع بالحق ذاته، وقد تكون هناك اختلافات في حجم ومستوى الحقوق بنسبة للحجم السكاني والقوة الاقتصادية والعسكرية والإنتاج وما تمتلكه كل دولة من احتاطي الذهب والثروات، في بعض المسائل المتعلقة بالحياة المشتركة للاتحاد، والخروج من الاتحاد، كما فعلت إنجلترا أو كما هددت اليونان من قبل بالخروج منه بسبب افلاسها المالي، فهو أمر طبيعي لأنه ما من شراكةٍ واتحادٍ يمكن الاستمرار به أو فيه بالقوة، ويهدف هذا النوع من أسلوب التعايش الحضاري بين الأمم والدول إلى التعاون والتضامن في محاربة ما هو ضارٌ وسيء للجميع والعيش في سلامٍ وأمنٍ واستقرار كجيرانٍ ورفع الحدود الجمركية وتسهيل انتقال ومرور الأفراد وافساح المجال أمام التنافس الاقتصادي والتعاون في صد العدوان الخارجي وحل المشاكل العالقة بين الأعضاء في إطار برلمانٍ اتحادي، وتوحيد العملات الوطنية في عملة واحدة تمنح القوة للاقتصاد المشترك، وما إلى هنالك من مسائل وموضوعات وتحديات لأعضاء الاتحاد على انفراد أو لجميع الدول معاً. طبعاً هذا لا يغلق باب الخروج منه لأي دولةٍ من دول الاتحاد، إلاّ أن اتحاداً قائماً على العدل والانصاف سيمنح القوة للجميع، وفي تلك الحال تفضل الشعوب على البقاء والعيش مع بعضها بعضاً، ونرى الآن في إنجلترا تياراً يدين خروج الانجليز (البركسيت) من الاتحاد الأوربي ويسعى للعودة والانضمام إليه مجدداً، لأن المتضرر الأكبر في انسحاب بريطانيا من الاتحاد هم البريطانيون أنفسهم.
أعتقد أن طرحاً كهذا، يجب أن تكون له ضمانات وطنية ودولية أيضاً وأن يتم من خلال الاستفادة من خبرات الاتحاد الأوربي، وكذلك الدول الفيدرالية مثل ألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة وسواهما، كما يمكن الاستفادة من تجربة الفيدرالية التي تمتع لها إقليم جنوب كوردستان، رغم أنها كانت شبه مينة منذ البداية، والجميع يعلم أن العودة إلى نقطة الصفر في هذه المسألة ستضر بالعرب والكورد وسائر المكونات الأخرى في العراق، والكورد لن يقبلوا أبداً بالنظام المركزي الفاشل، والكونفدرالية القائمة على أساسٍ متين قد تغلق الباب في وجه النزاعات التي تسعى إلى اثارتها في العراق بعض الدول الإقليمية ذات المصلحة الكبيرة في تردي الأوضاع في العراق عامةً وفي كوردستان خاصةً. وسيكون ثمة حديثٍ آخر لشعبنا الكوردي في حال فشل مشروع “الاتحاد الكونفدرالي” أيضاً.
http//:cankurd.wordpress.com
kurdaxi@live.com