إبراهيم اليوسف
إذا كان رحيل الرئيس العراقي السابق المام جلال الطالباني”1933-2017″ قد جاء في وقت جد حرج، بعيد أيام قليلة من صعود مؤشر التهديدات بالحصار أو الغزو العسكري لإقليم كردستان، إلى أقصى درجاته الهستيرية، إثر قرار الاستفتاء التاريخي لهذا المكان، فإن ذلك جاء بعد أيام- فحسب، من عمله على حسم موقف حزبه من الاستفتاء. لاسيما بعد أن تداولت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لقطة له وهو يرفع سبابته، وهي مضمخة بحبر الاستفتاء الأزرق، دليلاً على حماسه في ممارسته لحقه في المشاركة في الاستفتاء، وكانت التصريحات التي نقلت عنه- من قبل- تؤكد وقوفه اللامحدود إلى جانب خيار الاستفتاء، سواء أكان ذلك إعلاناً عن خصوصية حق إنسانه في إبداء رأيه في موضوعة تقرير مصيره، أو في ممارسته العملية لحق تقريره لمصيره، وكلاهما متساويان، في ميزان الموقف.
لا يخفى على أحد، أن موقف الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الذي تأسس في العام 1975 وكان يرأسه المام جلال، من الاستفتاء، تأخر، عن البلورة، والإعلان، حتى عشية الاستفتاء، نتيجة وجود بعض الرؤوس المعرقلة ذات الطبيعة الخاصة فيه، إلى أن حسمه الطالباني، ببراعته، وثقل موقفه. مواقف هذه الرؤوس التي كانت تحاول أن تلكىء قرار وقوف الاتحاد الوطني إلى جانب قرارالاستفتاء، كانت تتم لأسباب عديدة، مطلعها تأثير بعض القوى الإقليمية في قرار أبعاض هؤلاء، أو نتيجة أحقاد مبيتة لدى غيرهم، بحق من ارتبط قرار الاستفتاء باسمه، وهو الرئيس مسعود البارزاني الذي نسق معه، ومع حزبه، المام جلال، منذ قرار المصالحة بين الحزبين الكبيرين” الحزب الديمقراطي الكردستاني-العراق الذي تأسس1946- الاتحاد الوطني الكردستاني” على يدي مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية 1998 وذلك بعد الخلاف الكبير الدموي المؤلم الذي تم بينهما، وكانت وراءه جهات إقليمية، لما تزل تريد النفخ في أوار الفرقة والفتنة الكرديتين، إلا أن الرئيس العراقي السابق المام جلال، العضو في الاشتراكية الدولية، وصاحب الكاريزما الشخصية: كردستانياً، وشرق أوسطياً، ظلَّ إلى جانب نظيره البارزاني أحد عوامل- ضبط إيقاع الأمان العالية- في كردستان، كما فعل ذلك عراقياً، لما كان يتمتع به من سمات وخصال عبقرية، أهلته ليلعب دوراً كبيراً في مكانه، وكأنه يريد التكفير عما ارتكب من أخطاء غابرة، تمت في فضاء مرحلة التحولات الحساسة، بسبب ضلوع ونفوذ أعداء الكرد الذي بات الآن، يتجدد، وللأسف، وبوتائر أعلى، بعد أن وجد الأعداء التقليديون، سواء أكانوا حكام البلدان التي تقتسم كردستان، أو هؤلاء الذين يعاضدونهم، نتيجة مصالحهم: دولاً كبرى، وصغرى ميكروسكوبية، لا ترى بالعين المجردة، ولا بالمجاهر..!
يخيل إليَّ أن المام جلال الطالباني الذي تعرض لأزمة صحية، أدخلته مرحلة- الغيبوبة- نتيجة التآمر الذي تم، وكان أداته المنفذة نوري المالكي، واستمرت أزمته الصحية إلى لحظة وفاته في أحد مشافي برلين، العاصمة الألمانية، في مطلع أكتوبر2017 وظل يقاوم هذه الأزمة، وشوهد كما أشرت وهو يدلي بصوته في امتحان الاستفتاء، إلا أن وضعه الصحي تردى، بعد أن تابع المواقف المتخاذلة من دول الأسرة الدولية التي باتت كل طروحاتها، في ما يخص بمبدأ”حق تقرير المصير للأمم والشعوب” الذي يتشدق به جميعهم، غير أنهم يستثنون أبناء شعبه، ما أدى إلى أن يتبجح، ويتجاسر، الدخلاء على السياسة، والفاسدون، والطغم المجرمة، مع أشباههم من النخب التابعة، سواء في البلدان المحتلة لخريطة الكرد، أو خارجها، للإساءة إلى الكردي، وتشويه صورته، وتهديده، بالرغم من أن أحداً منهم لا يمتلك قراره السياسي، بل هم برمتهم مهزومون في قرارتهم، وجبناء، كما بينت ذلك امتحانات جد قريبة، كما تلك البعيدة القريبة..!.
لقد عرف الرئيس الطالباني بأنه أحد المثقفين الكبار، فقد عمل في الإعلام الحزبي، وكان في بداية عمله النضالي محرراً صحفياً في جريدة حزبه البارتي الديمقراطي- خبات” أي: النضال”- قبل أن ينشق عنه مع حميه الكاتب الراحل إبراهيم أحمد، وقد كانت بينه وعدد كبير من الأدباء والكتاب والشعراء والإعلاميين العراقيين علاقات صداقة وثيقة، وعلى رأس هذه القائمة الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي كتب عن الرئيس الطالباني، كما أنه كتب عن كردستان، أكثرمن قصيدة. فقدجاء في مطلع ميميته المؤثرة التي عنونها ب ع” كردستان موطن الأبطال”:
قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ولقد يجودُ بأصغريه المُعدمُ
ودمي، وإن لم يُبقِ في جسمي دماً غرثى جراح من دمائي تطعمُ
تلكم هديةُ مستميت مغرم أنا المضحى، والضحية مغرمُ
أنا صورةُ الألم الذبيحِ، أصوغه كلما عن القلب الجريح يترجم
ولرُبّ آهاتٍ حيارى شَرِدٍ راحتْ على فم الشاعر تنتظم
ذوَّبتْ آلامي، فكانت قطرةً في كأس من بنوا الحياة، ورمموا
ووهمتُ أني في الصبابة منهمُ ولقد يُعين على اليقين توّهمُ
ومن قصيدته في الرئيس طالباني:
شوقاً “جلالُ” كشوق ِ العين ِ للوسن ِ، كشوقِ ناءٍ غريبِ الدار للوطن ِ
شوقاً إليك وان ألوت بنا محنٌ ، لم تدر ِ أنا كفاءُ الضُّرِّ والمحن ِ
يا ابن الذرى من عُقاب غير مصعدةٍ شمُّ النسور به ، إلا على وهن ِ
وحسبُ شعريّ فخراً ان يحوزَ على … راو ٍ كمثلك ندب ٍ ، مُلهمٍ فطن ِ
“جلالُ” صنتُ عهوداً بيننا وثقتْ ، فما تَوثقتَ من عهدٍ بها ، فصُن ِ
لا تبغني بوق “حربٍ” غير طاحنةٍ ، بها تزيا كذوبٌ ، زيّ مُطحَّن ِ
ولا تردني لحال ٍ لستُ صاحبها … وما تردني لحال ٍ غيرها ، أكنَو
كانت قبعة الشاعر الكبير الجواهري التي يعتمرها على رأسه، منقشة بعبارة كردستان باللاتيتية، أو الكردية، قد أهداه إياها الرئيس طالباني ولم يخلعها حتى ساعة رحيله.
لا أريد أن أستعرض المحطات التاريخية البارزة في حياة هذا المناضل الكبير، لأنها تخضع للنقد، وهو شأن سواي، غير أنه يصنف- كما كل رجالات ثورات التحرر العظام في تاريخ الشعوب- باعتباره أحد الرموز الكردستانية الكبيرة، المؤثرة- بما له وما عليه- وقد سجلت له مواقف جد كثيرة في ذاكرة شعبه، لاسيما منذ قرار المصالحة التاريخي بين حزبه وحزب الرئيس بارزاني، المشار إليه، كما أن كثيرين من أبناء شعبه الكردي، خاصة، كما الكثيرون من العراقيين، عامة، لطالما رددوا وتناقلوا مواقف بارزة له، تمت في لحظات مفصلية، وحرجة، استطاع أن يمررها بحنكته، وحذقه، وبراعته، ودهائه، عبر الطرفة، الذكية، وهي أحد أسلحته، الشخصية، الفطرية، فقد روي بأن الطاغية صدام حسين الذي وقع على قرار إعدامه أثناء رئاسته- بينما لم يوقع هو على قراره حين غدا رئيساً- سأله قائلاً ذات لقاء بينهما: يابا جلال أشوفك مشيب؟ فأجابه: هل تعتقد أن يعيش أحد في زمنك ولايشيب؟. وقد روي عنه أنه أثناء المباحثات مع الحكومة العراقية، في زمن صدام نفسه، تأزم الحوار بين الوفدين الكردي والعراقي اللذين تفاوضا حول كردستانية كركوك، في إحدى الجلسات التي حضرها ضمن وفد إقليم كردستان وكان من ضمن وفد حكومة المركز – في المقابل-علي حسن المجيد، فدعا المام جلال إلى استراحة قصيرة، وأثناء شرب الشاي قال:
سأروي لكم طرفة عن الملا نصرالدين وهو جحا الكردي الذي نعتز به..
وهنا، احتجَّ عليه الوفد العراقي، وارتفعت أصوات بعضهم مستنكرة أن يكون جحا أيضاً كردياً، فبادر علي الكيماوي قائلاً:
يبا، جلال، هم ْ تريدون تأخذون جحا منا مثل كركوك؟!!. إن جحا عربي، ومقبرته في المكان الفلاني في العراق، فرد عليه الطالباني بهدوء:
خذوا جحا لكم واتركوا لنا كركوكنا..!
وإذا كان رحيل جلال الطالباني قد شكل خسارة كبيرة لكردستان، ولشعب كردستان، وللمنطقة كلها، باعتباره أحد أكبر ساسة العصر، فإن هناك مخاوف ما، تظهر، الآن، بعد رحيل الرئيس الطالباني، من موقف قلة من النافذين في حزبه الذين باتت أصواتهم ترتفع في ظل مقدمات الحصار الظالم، والمجرم، وليس لديهم الاستعداد في العودة إلى حياة المقاومة التي عرف بها الشعب الكردي في الإقليم، وهو يواجه طغم الاستبداد العنصري، من المتنكرين لحقوقه، إلا أن هؤلاء هم من سيندمون في النهاية، نتيجة قصور رؤاهم، وخذلانهم، إن هووا في هذا المنزلق العابر، وهوما لانريده لهم…..؟!.
إسن-ألمانيا
3-10-2017
سربت رسالة كتبت بخط الرئيس طالباني، كان قد وجهها في 19 آب 2012 إلى الرئيس مسعود البارزاني، يعاهده فيها على الالتزام، مدى الحياة، لاسيما بعد أن اكتشف لؤم نوري المالكي الذي تسببت صدمته به، في مابعد، وعلى نحو مباشر، بأزمة صحية، بزتها صدمته الأخيرة بخليفته حيدر العبادي، التي دفع حياته إثرها، وكان الطالباني قد أفشل مشروع إقالة المالكي، ومما قال في رسالته للرئيس البارزاني:
“أخي العزيز: القرار الاخير في حياتي هو أن أكون صديقا، وأخا، وشريكا في السراء والضراء لعائلة بارزاني طالما بقيت على قيد الحياة”، و “حين اسمع كلامك، فإنني أقول لمن حولي إن أعلن الأخ بارزاني انهيار الاتفاق الاستراتيجي بين حزبينا فإنني سأعلن أن الاتفاق بات أقوى، وأشد وأكثر تماسكا، وإن أغلق بارزاني الباب بوجهي فسأدخل اليه من النافذة”.واعترف قائلاً: “الشكوى التي قدمتها بحق المالكي كانت محقة، ومشروعة، وأدعوك كأخ لأن تصفح عني وأن تعود المياه الى مجاريها بيننا، وتعود الأوضاع نقية لا تشوبها الشوائب”
وسعت محاولات البارزاني في إفشال المالكي في توليه لرئاسة الحكومة للمرة الثالثة، بسبب جهود البارزاني وعدد آخرمن الكتل والشخصيات المناوئة لسلوكيات المالكي، وفساده..!
** ننشر الرسالة أدناه، وهي موجودة في كتاب مذكرات الطالباني التي دونها القيادي في الاتحاد الوطني صلاح رشيد.