وقد بلغت هذه التعبئة الشوفينية ضد الشعب الكردي في سوريا ودوره الوطني المشرف ، ذروتها مطلع الستينيات من القرن العشرين ، عندما قام ضابط الامن محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية في محافظة الحسكة (الجزيرة) باعداد دراسة خطيرة انذاك عن الجزيرة من النواحي (القومية والسياسية والاجتماعية) تفوح منها روح الحقد والكراهية تجاه الاكراد ، وتهدف الى بناء حاجز بشري عربي بين ابناء الشعب الكردي الذين فصلهم حدود سايكس بيكو عن بعضهم البعض ، وتهجيرهم من مناطقهم الاصلية واسكان العرب مكانهم بهدف تغيير التركيب الديمغرافي لهذه المناطق ذي الاغلبية الكردية الساحقة ، فهو يحذر فيه من سعيهم الى الانفصال وتشكيل اسرائيل ثانية ، وما الى ذلك من اكاذيب واضاليل لتعبئة الجماهير العربية ضد اخوتهم الكرد من جهة ومن جهة اخرى توفير الذرائع للسلطات الشوفينية للمبادرة الى ضربات استباقية استئصالية للخطر الكردي المزعوم وبالفعل فقد قدم لقيادته في هذا الاتجاه جملة من المقترحات الخطيرة التي من شانها ان تجتث ذاك الخطر ، فهو يقول بالحرف : (ليست المشكلة الكردية الآن ، وقد أخذت في تنظيم نفسها ، إلا إنتفاخ وَرَميّ خبيث، نشأ ، أو أنشيء في ناحية من جسم هذه الأمة العربية ، وليس له أي علاج ، سوى بتره ..) .
ومن بين ما قدمه السئ الصيت محمد طلب هلال من مقترحات الى قيادته ، كانت الفقرة ( 8 ) والتي تضمنت مايلي بالحرف : (إسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود ، فهم حصن المستقبل ورقابة بنفس الوقت على الأكراد ، ريثما يتم تهجيرهم ..) .
ومع الاسف الشديد فقد اُخِذَتْ تلك المقترحات من جانب السلطات الشوفينية المتعاقبة في البلاد كـ( برنامج عمل) ، وعملت على تطبيقها على ارض الواقع عبر سلسلة من المشاريع والسياسات المنافية لابسط الحقوق والقوانين التي تقرها لائحة حقوق الانسان ومختلف المواثيق الدولية والموقعة من جانب الدولة السورية ايضا ، وكان الـ( احصاء الاستثنائي لعام 1962) والـ(حزام العربي) من افظع تلك المشاريع واخطرها على الهوية القومية للشعب الكردي ..
فقد جاء الـ(حزام العربي) تنفيذا حرفيا لمقترحات محمد طلب هلال المشؤومة تلك ، اذ بدأت السلطات السورية بتنفيذه منذ عام 1966 عندما قامت كمرحلة أولى بالاستيلاء على اخصب الاراضي الزراعية العائدة ملكيتها للفلاحين الكرد في الجزيرة على طول الشريط الحدودي مع تركيا والعراق ، ويمتد هذا الشريط من (عين ديوار) على نهر دجلة شرقا وحتى (سري كانييه) غربا ، بعرض ( 10- 15 ) كم وبطول ( 375 ) كم بحجة اقامة ما يسمى بـ(مزارع الدولة) على غرار السوفخوزات والكولخوزات السوفيتية ، والتي روج لها المعسكر الاشتراكي الذي وقف بحزم الى جانب الحكومة السورية ضد ضحايا الـ( الحزام العربي ) ومعارضيه الذين وصفتهم المانيا الشرقية انذاك عبر اذاعتها بالرجعيين وعملاء الصهوينية الذين يقفون بحسب زعمها ضد التحول الاشتراكي في سوريا .
هذا واستنادا الى قرار القيادة القطرية لحزب البعث المرقم ( 521 / تاريخ 24/6/1974 ) ، فقد استكملت السلطات عام 1975 المرحلة الثانية لـ( الحزام العربي ) باستقدام ( 4500 ) عائلة عربية من خارج المحافظة ، من ريف محافظتي ( حلب ، رقة ) وتوطينها في ( 39 ) قرية نموذجية شيدتها لهم الدولة في ذلك الشريط ، ووزعت عليها تلك الاراضي التي تزيد مساحتها على ( 800000 ) دونم ، اي بمعدل ( 150-300 ) دونم لكل عائلة ، موفرة لهم كافة مستلزمات الحياة وشروطها .
ومازال هذا المشروع مستمرا بدون توقف حتى يومنا هذا حيث بادرت السلطات مؤخرا باصدار قرارا يقضي بجلب ما يزيد على ( 150 ) عائلة عربية من جنوب مدينة الحسكة من مناطق ( الشدادي وجبل عبد العزيز ) ، لتوطينها في منطقة ديريك (المالكية) وتوزيع المساحات المتبقية من اراضي الاستيلاء عليها في وقت تعيش فيه عشرات الالاف من العوائل الكردية من اصحاب الارض الحقيقيين محرومة من اي شبر من الارض ، وقد جاءت هذه الخطوة بناء على كتاب صادر عن وزارة الزراعة والاصلاح الزراعي تحت رقم ( 1682/ م د – تاريخ 3/2/2007 م ) وبتوجيه من القيادة القطرية لحزب البعث ، وبناءعلى هذا القرار اقدمت مديرية الزراعة والاصلاح الزراعي بالحسكة بتاريخ ( 13/15/2007 ) على ابرام عقود منحت بموجبها تلك العوائل العربية ما يزيد على ( 5600 ) دونم من اراضي الاستيلاء في قرى منطقة ديريك (خراب رشك ، كري رش ، قديريك ، كركي ميرو ، قزر جبي) .
لابل تتعمد تلك السلطات بين الحين والاخر الى سلب الفلاحين الكرد في تلك المناطق حتى من تلك المساحات الصغيرة من الاراضي الحجرية التي تستصلحها بكدها وعرقها والتي لاتتجاوز امتارا ودونمات قليلة فقط ومنحها لفلاحي (الغمر) بحجة استكمال حيازاتهم ، كما حصل خلال العقدين المنصرمين في العشرات من القرى التابعة لمنطقة ديريك ( سرمساخ فوقاني وتحتاني ، توكل ، كيشك ، ديروني ، جيلكا ، مصطفاوية ..) ، وذلك بهدف المزيد من الضغط على المواطنين الكرد وحرمانهم من مصدر رزقهم الوحيد لارغامهم على ترك قراهم وتفريغها من سكانها كما اراد محمد طلب هلال .
الحقيقة ان سلسلة المشاريع الشوفينية هذه التي تستهدف الوجود الكردي لم تأت من فراغ ، وانما تفتقت عنها تلك العقلية الشوفينية البغيضة التي اسس لها منظرها العريق (ميشيل عفلق) الذي نهل من معين (هتلر) الكثير من افكاره ، تلك العقلية التي اعتمدت مع الاسف الشديد من قبل الانظمة المتعاقبة في سوريا والعراق ، فان ما جرى ويجري في المناطق الكردية في سوريا وخاصة في الجزيرة من مشاريع عنصرية تهدف الى تعريبها وتفريغها وبالتالي تغيير تركيبتها السكانية ، انما هي صورة منسوخة عما جرى في العديد من مناطق كردستان العراق (كركوك ، خانقين ، مندلي ، شنكال ، مخمور ، زمار..) والتي تشكل اليوم بمفرزاتها من اصعب العقد امام بناء النظام الفيدرالي التعددي في العراق ، مثلما تشكل قنبلة موقوتة تهدد العملية السياسية برمتها بالانهيار في اية لحظة ، وسوف لن يدفع ضريبتها الشعب الكردي فقط وانما العراق كله ، ناهيك عن ان آثارها المدمرة ستعم المنطقة عموما ..
واليوم ، حيث قطعت البشرية ما ينوف العقد من الزمن من رصيد القرن الحادي والعشرين الذي حمل معه الكثير من التطورات والمتغيرات والمفاهيم الداعية الى الديمقراطية وحماية حقوق الانسان والتي شكلت بمجملها ثورة جذرية ضد مفاهيم الاستبداد والانظمة الدكتاتورية والشمولية والتي تتوجت بالقصاص من طاغية العصر المقبور صدام حسين الذي طبق تلك العقلية بافظع صورها ضد الشعب الكردي في كردستان العراق والتي بلغت الابادة بالاسلحة الكيماوية المحرمة دوليا ، فانه بذلك لم يعد من الحكمة الاستمرار في هذه العقلية العفنة التي عفى عليها الزمن وباتت من مخلفات الماضي ، هذه العقلية التي اثبتت التجارب عقمها وفشلها في الغاء شعب عريق والشطب عليه بمثل هذه المشاريع التي لطالما انقلبت على اصحابها ، فهي الغام موقوتة تزرع بين جنبات الوحدة الوطنية ولابد لها ان تنفجر لولم يسارع العقلاء والحريصين على الوحدة الوطنية ومستقبل البلاد الى ادانتها واستنكارها من اجل ايقافها ولجمها والغاء آثار نهائيا ، فمثلما لاتقتصر ضحايا الاحزمة الناسفة على الخصوم المفترضين فقط ، وانما تقتل اصاحبها اولا كما تقتل الابرياء ايضا (اطفالا وشيوخا ونساءا ..) ، كذلك هي نتائج هذه المشاريع الشوفينية التي تشمل كل هؤلاء معا لانها تلد من نفس المنطق وتنبع من الذهنية نفسها ، فهلاّ بادر كل من موقعه (داخل السلطة وخارجها) الى شجب هذه السياسات ونبذ الذهنية التي تنتجها ، والعمل بدون تسويف من اجل حماية الوحدة الوطنية من شرورها وتفكيك هذا الـ(الحزام الناسف) الذي بات يهددها في الصميم ..
؟؟ .