رودوس خليل
في العهد الإسلامي كان العراق يعرف باسمين الأول العراق العربي الممتد من الخليج العربي إلى حدود مدينة تكريت والثاني العراق العجمي في شماله ولو رجعنا إلى التاريخ فأن العراق الحالي لم يكن كياناً سياسياً مستقلاً بل كان إقليماً ومصطلحاً جغرافياً يطلق عليه اسامي متعددة من بينها موزوبوتاميا التي سميت بها الحملة البريطانية على العراق.وكان من نتائج الحرب العالمية الأولى ظهور العراق الحالي بحدوده المعروفة الآن وهذا الوضع جاء بعد اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الهلال الخصيب وكردستان حيث أضاف الاستعمار البريطاني جزء من كردستان إلى العراق الجديد لكن الأكراد قاوموا هذه الخطوة ولم يدخلوا إلى الاتحاد بحريتهم بل قمعتهم الطائرات البريطانية كي يصبحوا عراقيين.
جميع الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق عملت على قمع الكرد وإنهاء نضالهم من أجل الحرية وأخرى أطلقت مبادرات مشكوكة فيها للسلام ولكن جميعها فشلت في إيجاد صيغة جيدة للعيش المشترك مع الكرد ومسلسل القمع بدأ من العهد الملكي إلى عبد الكريم قاسم الذي توصل إلى تفاهمات جيدة مع الملا مصطفى البارزاني انتهت بهجوم القوات الحكومية على كردستان وعراق عبد السلام عارف عام 1963 حين استعين بالجيش السوري لإخضاع الشمال الكردي إلى حين عقد الاتفاق الذي أنهار عام 1964 وكذلك محاولات رئيس الوزراء العراقي عبد الرحمن البزاز ولا ننسى الرئيس أحمد حسن البكر الذي توصل إلى اتفاق أنهار سريعاً عام 1970 والعراق الأشهر مع صدام حسين واتفاقية آذار عام 1975 التي انهارت في الجزائر وليبداً بعدها مرحلة الأنفال والأسلحة الكيميائي وحلبجة الشهيدة وللأسف هناك تجربة مريرة بعد تحرير العراق من النظام السابق وهي تجربة نوري المالكي التي وصفها السيد مسعود البارزاني بأنها أشد وطئه من عمليات الأنفال نفسها.إن جميع تلك الأنظمة ورغم الخلاف الشديد بينها وإزاحة كل منها الآخر بالانقلاب العسكري وارتكاب فظاعات كانت متفقة على شيء واحد وهو إخضاع الكرد. وعلى الرغم من أن كردستان العراق كانت تعيش قرابة الأربعة عشر سنة كإقليم منفصل عن العراق ألا أنها اختارت العودة إلى العراق الجديد بعد 2003 وصوتت كردستان بأغلبية ساحقة للدستور العراقي الجديد الذي يحول العراق إلى دولة اتحادية فيدرالية ولكن العملية السياسية الجديدة خرجت عن مسارها وتحولت إلى نظام سياسي كرس الهيمنة الطائفية للأحزاب الشيعية الموالية لإيران وتزعزع التحالف الاستراتيجي مع الكرد وتعاملت مع العراقيين بأحقاد الماضي وخاصة المحافظات السنية الذين تحولوا إلى العصيان والتطرف وتحولت مجتمعاتهم إلى حاضنات للإرهاب أملاً بالخلاص فهذا هو نهج الأحزاب الطائفية فهي تعمل على تكريس الاختلاف والفوضى إلى حد استخدام العنف والسلاح فالعراق الجديد بعد 2003 والدستور الجديد ومبدأ الفيدرالية لم تنجح في أيجاد شراكة حقيقية مع الكرد بل حتى مع المكون السني العربي .جميع المحاولات الكردية التي عملت على إعادة العملية السياسة إلى مسارها الصحيح وتطبيق الدستور فشلت بل أن هذه المحاولات كشفت عن عارض طبيعي في قلوب وعقول الشيعة ألا وهو صدام حسين هذا الرجل الذي ما ذال يسكن في وعي هذه الأحزاب في معارضة الكرد وتصفيتهم فهذه الأحزاب لا تملك إلا اللغة الصدامية القمعية في التعامل مع كردستان وكأنها قانون حمو رابي الحقيقي وإلى أبد الآبدين في العراق.
القناعة الزلزالية التي توصلت إليها كردستان العراق والسيد مسعود البارزاني هو أجراء استفتاء على تقرير المصير وتحكيم الشعب الكردستاني بجميع أطيافه وفي المناطق المتنازعة وفي مقدمتها كركوك وفق المادة 140من الدستور العراقي المخرق وإنها ساعة الحصاد بعد أثبات الكرد للعالم أجمع من خلال مقارعة الإرهاب أنهم قوة خيرة وإنسانية تستحق العيش في وطن آمن وأنهم دفعوا الكثير من الدماء لذا فقد حان الوقت لاستثمار هذا الرصيد بإعلان الدولة ولا سيما أن الحرب مع داعش تقترب من نهايتها ومما يعني انتهاء المهمة وتراجع أهميتهم وبالتالي عدم استغلال الفرصة التي ربما لن تتكرر ومن هنا جاء الإصرار على أجراء الاستفتاء رغم التحفظات والرفض من قبل الحكومة العراقية والولايات المتحدة وتركية وإيران والأمم المتحدة وهؤلاء هم المعنيون بوحدة العراق هذه الدول تعتبر أن القضية الكردية قضية إقليمية وليست عراقية وهي تتعلق بالأمن القومي للدول المجاورة للعراق .
أعتقد أن ثمة شيء متفق عليه وأضواء خضراء من الولايات المتحدة وبالتحديد في اجتماعات مايو الماضي من خلال بعض التسريبات المؤكدة وأن الكرد مسلحين به بدليل هذا الإصرار على الموعد المذكور للاستفتاء رغم كل التهديدات ولكن يبقى الجانب الأمريكي غامضاً في تصريحاته الرافضة للاستفتاء من خلال المتحدث باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية فالواضح هنا أن الولايات المتحدة ترفض الاستفتاء من خلال التصريحات ولكنها في نفس الوقت تدعو فقط إلى تأجيله فهي لا تعارض الفكرة أنما التحفظ هو الموعد وليس على المبدأ وهنا لا بد من الحزر وعدم غلق الأبواب جميعها فالجانب الأمريكي لا يؤتمن وللكورد تجارب مريرة مع الإدارات الأمريكية وهذا يذكرني بالضوء الأخضر الأمريكي للرئيس العراقي صدام حسين بغزو دولة الكويت ومن ثم محاربته وإخراجه بالقوة رغم الكثير من المبادرات لحل الأزمة . رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قال إنه لن يعترف بنتيجة الاستفتاء لأنه غير دستوري كما هدد بالتدخل العسكري في حال رافقت العملية أي فوضى.
التصريحات والرفض تأتي من جميع الاتجاهات بأن هذا القرار سيترتب عليه تطورات خطيرة ستصل نيرانها إلى دول الجار وتحولت أربيل وأخبارها ولقاءاتها الحدث الأبرز حول العالم وأخرها كان الاجتماع الذي عقد بين ممثل الأمم المتحدة والدول الغربية والسيد البارزاني قدمت خلاله وثيقة تقضي أن تبدأ بغداد وأربيل وعلى الفور مفاوضات مكثفة لسنتين وتناقش جميع الملفات العالقة وبشكل منتظم وترسيم العلاقة والحدود مع تمديد رئاسة البارزاني لسنتين.
أعتقد هنا أن الوثيقة جيدة أذا كانت النوايا جيدة ولكنها لا تحل الخلاف لأنها تهدف إلى تعليق عملية الاستفتاء وشراء الوقت والهاء الطرفين في مفاوضات يعرف الجميع أنها لن تصل إلى نتيجة.القيادة الكردية تعرف جيداً أنه لا حل مع بغداد لذلك طلب الرئيس بارزاني ضمانات مكتوبة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة قبل إعلان التأجيل وهذا ثمن معقول.
اللافت في الأمر أن أنقرة ما زالت حريصة في تصريحاتها وأنها تنتقي الكلمات بدقة شديدة أرضاءً للداخل التركي وأظهار نفسها أنها تعارض عملية الاستفتاء خارجياً فهي تملك علاقات اقتصادية جيدة مع كردستان العراق والرئيس بارزاني الذي وقف إلى جانب الرئيس التركي في مناسبتين أولها المحاولة الانقلابية الفاشلة حيث كان أول المتصلين به للتنديد بها والثانية أزمة معسكر بعشيقة والوجود التركي وإلى حين اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في 22 من الجاري تبقى المناورات التركية قرب الحدود العراقية مجرد مسرحية ينبغي مشاهدتها.
وبالنظر إلى الموقف الإيراني نجد أنها تتخذ موقفاً مشابهاً للموقف التركي ولكنها تعمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع كردستان بعيداً عن الصخب وأنها متأكدة أن نتيجة الاستفتاء ستكون إيجابية وستفرز واقعاً جديداً وهي عملت مؤخراً على تعين وزيراً كردياً على رأس وزارة النفط الإيرانية لتعزيز التعاون في مجال النفط والغاز والسوق الواعدة لكردستان وهناك إشارات مؤكدة من الاقتصاديين الأتراك إلى الحكومة التركية بأن إيران تحاول سحب البساط من تحت أقدام الأتراك وأنها تعمل على تطوير العلاقة الاقتصادية مع كردستان التي دخلت في العد التنازلي للاستقلال.
من المؤكد أن خروج كردستان من الإطار العام للعراق سيترتب عليه تغيراً في التوازنات الحالية فالنظام العراقي نظام برلماني وخروج الكرد سيخل بالمعادلة حتى أن الرئيس فؤاد معصوم سيتحول إلى رجل أجنبي بعد يوم الاستفتاء نقلاً عن سياسي عراقي أي أنه لا بد من تأهيل العراق ليعيش دون إقليمه الكردي وحتى في حال تم الانفصال فهناك الكثير من التفاصيل بفك الارتباط كالاقتصاد والجنسية والديون والمياه وأملاك تخص الكرد في المحافظات العراقية وأخرى للعراقيين في كردستان وأن تجربة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي ومفاوضاتها تشبه كثيراً هذه الحالة ولكن لا بد من الإشارة إلى نقطة هامة هل الانفصال عن العراق هو الحل الأنسب لكردستان ؟ أعتقد أن الكرد يجب أن يكون لديهم رؤية واضحة بعد الاستفتاء بحل جميع المسائل السياسة العالقة بين الأحزاب والاتفاق على شكل النظام في الجمهورية الوليدة وتوحيد قوات البيشمركة وشفافية واضحة لموارد الدولة وصادرات النفط فالتجارب مريرة وخاصة في منتصف التسعينات والحرب الأهلية وكذلك هناك تجارب خارجية ينبغي الاستفادة منها كانفصال الباكستان عن الهند عام 1947 وفشل باكستان في الحفاظ على كيانها الجديد مما أدى إلى انسلاخ بانغلادش عنها عام 1971 فكردستان لا تتحمل انسلاخ أي محافظة عنها وخاصة السليمانية إذا لم تكن الاستراتيجية واضحة وكذلك هناك تجربة جنوب السودان واندلاع الحرب الأهلية بعد الاستقلال.
وفي حال بقي موعد إجراء الاستفتاء ثابتاً ولم يتم تأجيله على ضوء متغيرات جديدة وقبول كردستان به لا بد من الحرص الشديد والاستنفار لأي طارئ إلى أن يصل العراقيون إلى قناعة والقبول بالواقع الجديد والاعتراف بانهم فشلوا وينبغي ألا نمسك بالكورد من أعناقهم ليبقوا مع الدماء والفشل الذي لا نهاية له في العراق وهذه الخطوة التاريخية للرئيس بارزاني رسالة إلى دول الجوار ليعيدوا النظر في سياساتهم تجاه الكورد وانهاء مأساتهم.