د. محمود عباس
لا نحكم على معاملة الشعوب المجاورة، بل على سلطاتها المحتلة لكردستان، وعلى مواقف شرائح معينة تسود لأمر واقع، ولا نبتذل ثقافاتهم، بل نبحث عن البؤر الفاسدة الملائمة لنمو هذا الكم من التكفيريين والقوميين العنصريين والملغيين للأخر، وننقب عن شروخها التي تخلق البيئة الملائمة لصعود الأنظمة الإجرامية، والتي تعادي بعضها وشعوبها من جهة، وتدفع بمجتمعاتها على كراهية مطالب الشعب الكردي من جهة أخرى.
الثقافة التي يجب أن تعالج، لإيقاف نمو الأحقاد في بعض حقولها بأسرع من المبادئ الإنسانية، وخاصة الزوايا التي تستمد الأنظمة الإقليمية أفكارها لترسيخ الصور النمطية المعادية للكرد في أذهان شريحة واسعة من شعوبها، وتفرض عليهم نسيان القرون الطويلة من العيش المشترك!
نبحث، وبأمل في تنقيتها من المفاهيم التي فرضت بعضها بشكل أو آخر على شريحة من المجتمع الكردي، وغيبت عنهم الثقافة الكردية الأصيلة، وجعلتهم لا يميزون بين الحرية والتبعية، بين النقد المستند على الفكر الحر، والتهجم تحت الإملاءات غير المباشرة، الشريحة التي تقدم حجج القوى الإقليمية المعادية للكرد كتأويلات ذاتية ليس فقط لا تخدم الوطنية، والشعب الكردي، بل تؤثر سلبا على قادم الشعوب المجاورة، وتخدم السلطات الإقليمية، المحتلة لكردستان والمستبدة على شعوبها.
كما ونتحدث عن البؤر الفاسدة التي تتشرب منها الحركات العنصرية الإقليمية، وتجدها من صلب ثقافتها، وهي التي رسخت فيها نزعة إلغاء الأخر، ومعادة الكرد، ومعارضة حقهم في تقرير مصيرهم، وتحفزهم ليقفوا اليوم ضد الاستفتاء القادم في الإقليم الكردستاني الجنوبي بتاريخ 25-9-2017م، ويعادون قيام نظام فيدرالي في سوريا القادمة، والفيدرالية الكردية في جنوب غربي كردستان.
لا علاقة لهؤلاء بالثقافة الوطنية، والتي يرفعونها كشعار لتمرير معاداتهم لمطالب الكرد، فالثقافة الوطنية هي التي يتحلى بها الشعب الكردي، وتتبين من خلال محاور عديدة:
1- كتقبلهم للأعداد الغفيرة من المهاجرين في مناطقهم مقارنة بديمغرافية الكرد ومساحة المنطقة، وإمكانياتهم الاقتصادية المدمرة من قبل السلطات الإقليمية، والتي بلغت أعدادهم قرابة مليوني شخص في جنوب كردستان، ومليون في المدن الكردية في جنوب غربي كردستان، دون أن تحصل إدارتي الإقليمين على أية مساعدات خارجية، وإن حصلت فقد كانت شحيحة وبطرق ملتوية، وذلك مقارنة بدولة أئمة ولاية الفقيه التي لم تستقبل سوى مجموعات من قادة الإرهاب والتكفيريين من سوريا أو العراق وكانت تلك لاستخدامهم في تسعير الحروب، ومثلها دول الخليج وعلى رأسهم السعودية، علما بأنهم قادة الفتن في الدولتين، ومن مسببي الهجرة الكارثية من سوريا والعراق، ومثلهم تركيا المستقبلة قرابة ثلاثة ملايين سوري، لكنها استخدمتهم أدوات لفرض إملاءاتها على الدول الأوروبية، وجعلتهم المطرقة الدائمة الحضور، وبها حصلت على المليارات من الدول العالمية، تحت تهديد تهجيرهم إلى أوربا، وهذه المعاملة الفجة مع العالم الأوروبي ومع المهاجرين بحد ذاتهم، وممانعة دول المجموعة الأولى، نابعة من البؤر الثقافية الإلغائية العدائية المستندة عليها أنظمة هذه الدول، ولا تؤمن بغيرها.
2- الثقافة الوطنية هي التي يستفيد منها الشعوب قبل السلطات والأنظمة، وتساعد المجتمعات المظلومة، ولا تعادي إرادة الشعوب الأخرى لإقامة كيانهم السياسي كما يريدونه، وهي الثقافة التي ستكون ركيزة كردستان القادمة، لأنها ثقافة الكرد الحقيقية، والمؤدية إلى خلق الحضارة في الشرق، لأن كردستان ستكون الدولة الأولى في الشرق تؤمن بالأخر، وخير مثال ما ذكره السيد (مسعود برزاني) رئيس الإقليم الفيدرالي الكردستاني قبل بدء عملية الاستفتاء، بأنه لا يستبعد احتمالية التعديل في النشيد القومي الكردستاني وحتى في العلم ليمثلا كلية الشعوب المتواجدة ضمن كردستان القادمة. هذه المفاهيم والاحتمالات لم تضعها أية دولة في تاريخ الشرق الأوسط، ولم يتطرق إليها أية مجموعة سياسية أو ثقافية باستثناء الكرد، وهي تبين مدى تقبل ثقافة الكرد للأخرين وتحترم حقوقهم وحرية الرأي الآخر.
3- الثقافة الوطنية هي التي دفعت بالاتحاد السوفيتي الاشتراكية والولايات المتحدة وبريطانيا الرأسماليتين بالاشتراك في الدفاع عن شعوبها أثناء الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية واليابان وإيطاليا. وللأسف ليست لها وجود في واقع سلطات الشرق الأوسط الحالية، الفارسية والتركية والعربية، لأن جدلية مفاهيمهم تستند على الفساد والشرور، تضر بشعوبها قبل الشعوب المحتلة كالكرد والأمازيغ والقبط في الشرق.
4- ولأن الكرد يستندون على ثقافة حضارية، قادمة من العمق التاريخي، وستؤدي في حال قيام كردستان إلى خلق علاقات حضارية بين شعوب المنطقة، وزوال السلطات الشمولية، لذلك فالأنظمة المحتلة لكردستان وفي أقصى درجات صراعاتهم المذهبية والقومية، لا ينسون كردستان، ولا تغيب عنهم كوابيسها، تعكس حقول ثقافاتهم التي نتحدث عنها، حيث منابع الأحقاد والكراهية، والتي تفرز بين فينة وأخرى سلطات وأحزاب ومنظمات تكفيرية عنصرية أبشع من سابقاتها.
إلى جانب ما تم ذكره، توجد العديد من الأمثلة التي تعكس البنية الثقافية الحضارية للشعب الكردي، وستظهر جلية أكثر فيما إذا تمكن المجتمع التخلص من الأوبئة التي زرعتها الأنظمة الاستبدادية بينهم. فحتى المكتسبات الكردية الحالية، ومطالب حركتهم السياسية والثقافية للمستقبل، ومن خلال أدبياتهم تبين بأنها ليست محصورة بالكرد ومنطقتهم، بل تهم جميع شعوب المنطقة، وتشمل كل الأطراف، وهي ستجلب الفائدة والأمان للشرق الأوسط. وصعود الكرد بحد ذاته عامل فعال لإزالة الهوة بين القوى الإقليمية السنية والشيعية، وتخفيف الضغينة بينهم.
والتاريخ يشهد للكرد خدماتهم الجليلة لشعوب المنطقة، بدءً من تحريرهم لأرض الشرق من الاجتياحات الأوروبية، وصونهم لكرامة المسلمين، إلى اليوم وهم يتبوؤون جبهات الصراع ضد الإرهاب، وخير مثال هي حروبهم ضد داعش. مع ذلك فالسلطات الإقليمية بأنظمتها الشمولية الاستبدادية، تقف بالضد من الصعود الكردي، وهي بالتالي ضد نهضة شعوبها، وعليه تبقى على عاتق الحركة الكردستانية، والحركات الوطنية للشعوب الأخرى تنقية الثقافة السائدة من البؤر الفاسدة التي تتغذى منها هذه الأنظمة، ولا بد من العمل معا على إسقاطها، ومساعدة الشعب الكردي في حقه بتقرير مصيره، لأنها ستكون بداية الدرب لحرية الشعوب الأخرى في المنطقة، وتحررها من أنظمتها الاستبدادية.
ومثلما كان للكرد دورهم الإيجابي في المجالات الإنسانية بين شعوب المنطقة، كتشذيب الأحقاد بين الفرق والملل الإسلامية، والوقوف في وجه المارقة منها في الماضي، ومحاربتها حاضراً، كانت لهم الريادة، إن لم نقل كانوا الوحيدون، في رفع شعار الإخوة بينهم وبين شعوب المنطقة، في الفترة التي كانت السلطات الإقليمية المحتلة لكردستان تقوم بأبشع الجرائم بحقهم. وللعلم، فالمناداة بالإخوة لم تكن من رهبة، فقد رفعوها في قمة مراحل الصراع والحروب ضد الأنظمة الاستبدادية، ولم يتخلوا عنها في فترات السلام، وعلى مدى نصف القرن الماضي، رغم مناهج الكراهية لمعظم الأحزاب العنصرية، كحزب الشعب والبعث والناصرية والأحزاب القومية التركية، وحزب أئمة ولاية الفقيه، والإخوان المسلمين وغيرهم والمنظمات التكفيرية وسلطاتهم! لأن السلام، وقبول الأخر، جزء رئيس من بنيان ثقافة الكرد، وعليه واستناد على معطيات عديدة لا يستبعد أن تقود كردستان القادمة شعوب المنطقة إلى الحضارة، وعلى الأغلب ستلعب دورا رياديا في خلق سلام دائم في المنطقة.
مع ذلك ويظل السؤال التالي فارضا ذاته: هل على الكرد أن يبحثوا مثلهم عن مصطلحات للكراهية والعداوة ليفرض احترامه عليهم، ويغير من الصور النمطية المشوهة في أذهانهم عن الكرد وقضيته؟ وهل العلة في الكرد، أم في الأنظمة السائدة؟
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/10/2017م