ماجد ع محمد
لا مراء أن من يتابع مواقف الدول الأوربية بين حينٍ وآخر سيتذكر من ضمن ما سيتذكره دعواتهم المتكررة ومطالبهم من الدولة التركية للاعتراف بالإبادة الجماعية التي اقترفها حكام تركيا بحق الأرمن ابان الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، ولكن مقابل ذلك هل ثمة قوى غربية اعتذرت لشعوب المنطقة ممن كانوا من أبرز ضحايا تقسيماتهم السياسية الممثلة بسايكس بيكو؟ وحيث لا يزال الكرد يتجرعون ويلات اتفاقياتهم التي قامت على أساس تقسيم مغانم شعوب الشرق بين الدول الغربية.
وحتى إذا ما وضعنا سايكس بيكو جانباً وقلنا بأننا من أبناء الوقت الراهن، ولكن عادةً وبخلاف الكثير من أترابي المطبلين لكل شيء مثير وبهي لدى الآخر الممسك بشعلة الحضارة المعاصرة اليوم،
أراني في شكٍ دائم بنوايا وما وراء مواقف هذا الآخر، بما أن هذا الآخر الغربي لم يكن بريئاً في يومٍ من الأيام من ويلات المنطقة لا ماضياً ولا راهناً، على الأقل بالنسبة للكرد كقومية وليس كحالة متعلقة بي كفرد من البشر، باعتبار أني كشخص لم أتلقى الأذى يوماً من أي إنسان غربي، بينما قد أكون ممن اكتوى ولعشرات المرات في علاقتي اليومية مع اخواني الشرقيين، ولكن هذا لا يدفعني البتة لا إلى شتم الشرق ككل، ولا إلى تمجيد الغرب برمته كما يفعل الكثير من الشرقيين إما بدافع الانبهار أو التشبه أو التقرب، إنما المنطق السليم يقول بأن في إطلاق أي حكم على الآخر ينبغي للمرء أن ينحي ذاتيته جانباً حتى لا يقوم تقييمه على أعمدة الميول والعاطفة والشخصنة، وأرى بأن المقارنات عادةً ما تجعل الشخص أقرب إلى الإنصاف عند إطلاق الأحكام أو حين التعبير عن رأيه حيال قضيةٍ أو موضوعٍ ما.
ومن هذا المنطلق فإن مهرجان كولن كان بالنسبة لي مقياساً لمعرفة مدى جدية الآخر في تبني قضايا الشعوب، وتعامله مع حقوق الإنسان ككل والشعب الكردي بوجهٍ خاص، إذ قد يكون هناك مبرر لدى النخب الفنية والثقافية والسياسية للدول المقتسمة لكردستان في الغياب عن المهرجان، كما أن غياب النخب العربية والإسلامية عن مهرجان الاستقلال في كولن ربما هو عائد لاحتقانات السنين، ولأسباب أيديولجية صرفة، باعتبار أن جلهم نهلوا معارفهم عن الآخر، إما من عيون الفكر العنصري لدى العفالقة أو من التيارات الإخوانية المشبعة بالأفكار التفضيلية والقائمة على إلغاء الخصوصيات المحلية وطمس الهويات القومية بحجة أن الأممية الإسلامية تقتضي ذوبان الكرد والأمازيغ والأقباط في بوتقة القوميات الحاكمة باسم الدين، وبكون أن هذه المشارب المذكورة لم تستطع أن تكون منصفة مع أيٍّ من شعوب وملل المنطقة من غير العرب والمسلمين، لذا لا عتب على تجاهلهم لمشرع الاستقلال الكردي.
ولكن مقابل ذلك وباعتبار أن الدول الأوربية هي التي ترفع لواء الحرية وحقوق الشعوب والأفراد في العالم، وتدعو ليل نهار للتعاطف مع قضايا حقوق الإنسان، فيا ترى أين هو الحضور الأوروبي الرسمي أو الجماهيري في مهرجان كولن؟ أين كانت نخبهم الثقافية والفنية والسياسية؟ أين منظمات المجتمع المدني في تلك الدول من هذه المناسبة؟ وأين الشخصيات الفاعلة في تلك الأمم التي تنشد الليبرالية العالمية؟ وحيث أننا لم نشاهد غير صوَر الباحث والبروفيسور التركي اسماعيل بيشكجي، وربما وجِدَ بعض الأخوة الأمازيغ ممكن يقيمون في ألمانيا، أما الغربيين الفاعلين فلماذا لم يحضروا المهرجان تضامناً مع حق هذا الشعب بالاستقلال؟ طالما أنهم من مروجي تلك القيم (قيم الحرية والعدالة)، وهل كل مهرجان كولن الذي يمثل ضمير أمة بأكملها أقل قيمةً من مسيرات الشاذين جنسياً لدى السياسي الأوروبي الذي يتنطع بالدفاع عن حقوق المثليين وحتى حقوق الحيوانات؟ بينما شعبٍ بأكمله لا يراه الأوربيّ وكأن حقوق هذا الشعب لا تشكل أية أولوية لدى المنظمات المعنية بحقوق الأوادم والبهائم في الغرب الحر والذي يصدّر نظريات الحرية للعالم أجمع!
إذن فهل الحرية بالنسبة للغرب هي فقط تلك التي تتوافق مع مصالح دولهم وأهواء فرادهم؟ وهل 25 ألف شخص ممن اجتمعوا في كولن وهم يعبّرون عن آمال وطموحات مجمل الكرد في العالم كانوا أقل قيمةً من بضع مثليين لدى القيادي الغربي؟ حيث وبعد مهرجان كولن بيومٍ واحدٍ فقط شارك رئيس الأركان الكندي جوناثان فانس للمرة الأولى في تاريخ بلاده على رأس وفد عسكري في المسيرة السنوية للمثليين في أوتاوا، وسار رئيس الأركان في مسيرة المثليين على رأس وفد من كبار الجنرالات بزيهم العسكري في هذه التظاهرة التي جابت شوارع العاصمة الفدرالية!.
حقيقةً فإن هذا الموقف الذي نعاينه اليوم والممثل بتجاهل الساسة الغربيين لفعالية كولن التي تخص مستقبل أمة بأكملها، وفي الطرف الآخر الاحتفاء بالمثليين والمبالغة في الدفاع عن حقوق البهائم، ذكّرني بنفاق رواد الفكر الغربي الذين قام بتشريح أكاذيبهم وازدواجيتهم الكاتب البريطاني بول جونسون في كتابه السمى بـ: (المثقفون) والذي يقول فيه عن النخب الثقافية والفنية والأدبية الغربية، إن الكثير من المثقفين الكبار الذين يعتقد الناس بأنهم أثروا فى مسيرة الإنسانية جمعاء بإنتاجهم الثقافي والفني، ليسوا سوى منافقين ومدّعين وكذابين ومخادعين وانتهازيين، بل وكانوا لصوص وعالات على غيرهم، وأن هؤلاء المثقفون كانوا قد أسقطوا الإنسان الفرد من حساباتهم بزعم انحيازهم للأفكار العظيمة ومجد البشرية ككل، ويضيف جونسون بأنهم داسوا على القيم النبيلة التى هم أول من بشروا بها، سعياً وراء أمراض أناهم ونرجسيتهم ومجدهم الشخصى، ويرى جونسون بأنهم سقطوا فى فخ الإدعاء والكذب والخداع والتناقض بين ما ينثرونه على صفحات مؤلفاتهم من أفكار عظيمة وقيم نبيلة، وبين ما يصدر منهم من سلوكيات منحطة لا علاقة لها بتلك الأفكار والقيم التي نادوا بها، حيث أنهم كانوا ينادون بشيء ولكنهم سرعان ما يتملصون مما كانوا يدّعون الدفاع عنه والإيمان به، وأنهم كانوا يناضلون من أجل قضية في العلن، ولكن ما أسرعهم في التهرب عما كانوا يروجون له، وذلك لانقضاء حاجتهم إلى ما يلوكون به، ولتصورهم بأن ما ينادون به لم يعد مفيداً لهم كأشخاصٍ كانت مهمتهم الرئيس التربع على ظهور مجتمعاتهم باسم القضايا الفكرية والفنية، وذلك لأهدافٍ شخصية نرجسية صرفة لا علاقة للقيم وأوجاع وآلام الآخرين من أبناء المجتمع بها.
إذ ورغم انقضاء زمنٍ لا بأس به على رحيل أولئك الكتاب والمفكرين، إلا أن الغريب في الأمر أن سياسيو الدول الغربية المعاصرة لا يزالون قيد التبجح مثل أولئك المثقفين، أي يوحون بأنهم يمثلون قيم الحرية والديمقراطية والعدالة في الوقت الراهن، ويبدو واضحاً أن هذه الدول بمواقفها القائمة على المصالح الصرفة، غالباً ما تناهض مبادئها وإيمانها الفعلي، ولا تختلف عمن ذكرهم جونسون من أساطين الفكر الذين لا يزال العالم أجمع يتصور بأنهم لعبوا دوراً ريادياً في تطور الثقافة الإنسانية، وذلك من خلال كتاباتهم ومواقفهم المنشورة في وسائل الإعلام، ممن صوروا بأنهم كانوا من المدافعين المتحمسين عن قيم التقدم والحرية والعدالة والمساواة بين البشر، وعن الأخوة بين الشعوب والأمم، إلا أن بول جونسون خرج من بينهم رافضاً أسطرة الشعب لمن كانوا منافقون ومدّعون، ورفع الغطاء عن الجانب المخفي من حيواتهم المعاشة، ونزع الأقنعة عن وجوه مثقفين علمانيين كبار عرفوا بدفاعهم المستميت عن الحرية وعن القضايا العادلة للشعوب، ليظهر حقيقتهم في كتابه وهم بدون براقع، فعرى زيف كلامهم، كاشفاً عن أمراضهم وأنانيتهم وضغائنهم وخداعهم للناس، كما يكشف الواقع الراهن ازدواجية ساسة ونخبة المجتمع الغربي، ليس من خلال شخص مثل بول جونسون، إنما من خلال سلوكهم وما يصدر عنهم من المواقف، وما يظهرونه عما يكنونه ويخالفونه بأنفسهم، ويكشفون بالتالي بذواتهم عن ثنائة خطابهم ومكاييلهم تجاه ما يدّعونه ويدعون إليه.