ماذا قال حكيم الكورد

زاكروس عثمان
أثار حديث السيد مسعود البارزاني رئيس كوردستان الجنوب حول تغيير علم  كوردستان و النشيد القومي الكوردي  جدلا واسعا بين الكورد على  شبكات التواصل الاجتماعي وقد  اتسمت غالبية التعليقات بردود أفعال سطحية  تنم  عن عدم  دراية  بمغزى حديث يصدر عن قائد كوردي يدرك تماما ما يقول ويتحمل مسؤولية أقواله وأفعاله وقد خبرناه  على مدى عشرات السنين أنه لا ينطق عن هوى ولا يقدم على خطوة فيها مضرة بالكورد، وعلينا التريث والتفكر بكلامه مليا قبل اصدار الاحكام، لم  يتسنى  لي الاطلاع على  تصريحات السيد  البارزاني حول العلم والنشيد ولكن لنعتبرها  أكيدة، ونسأل لماذا أدلى  سيادته بهذا التصريح؟
و لعلنا نحصل على اجابة أن وقفنا على اللغط الكبير الذي  يدور بين الكورد حول ماهية الدولة التي يتطلعون إلى بنائها هل تكون دولة قومية أم دولة ما فوق قومية  أم دولة مواطنة.
ويعود الجدل الدائر إلى الفهم الخاطئ لمفهوم القومية ومفهوم الدولة ما يؤدي إلى التباس الأمر لدى شريحة كبيرة  من عامة الكورد الذين يجهلون الأسس التي تقام عليها الدولة الحديثة أو أنهم يتصورون بأن الدولة تعبير عن قومية واحدة لا مكان فيها لباقي  القوميات والمكونات التي تعيش على أرض الدولة، وقد ساهمت تنظيمات كوردية متنافسة في تكريس انطباعات خاطئة عن القومية وعن الدولة حيث يدعي التيار اللاقومي  بأن القومية شر مطلق يجب مكافحته فيما التيار القومي لم يبذل أي جهد لبيان الوجه الإنساني الجميل للفكر القومي الكوردي ما دفع بالمتعصبين للتيار الأول إلى إنكار قوميتهم  والبحث عن دولة لا وجود لها حتى في الخيال فيما كانت ردة فعل المتعصبين للتيار الثاني هي التمسك بالهوية القومية والمطالبة بدولة معالمها كوردية صرفة، ولا غرابة  في ذلك حيث أن انتشار الجهل بين شعوب المنطقة وضعف مستوى التثقيف والوعي لدى الفئات المتعلمة وتخلف تنظيماتها السياسية لم يساعد على تطور الفكر السياسي في مجتمعات دول السيطرة”التركية والعربية والفارسية” وفي المجتمع المسيطر عليه ” الكوردي”  حيث نهل الضحية من ثقافة الجلاد  خاصة أن نماذج  الدول المسيطرة على كوردستان هي نموذج الدولة العرقية – الشوفينية التي تحتكر الدولة للقومية الغالبة وتلغي باقي القوميات، في سوريا والعراق الدولة للعرق العربي وفي تركيا ليس في البلاد  مكان سوى للسلالة التركية وفي ايران ما من شعب يملك الدولة غير الجنس الفارسي، ادى ذلك الى تشكل انطباع لدى  قلة من الكورد بان تكون لهم دولة على نمط النماذج سالفة الذكر اي البحث عن دولة خاصة بالعنصر الكوردي اما البعض الاخر وجد الحل في دولة عابرة للقومية، ولكن لم يكن كلا التيارين على صواب، اذ ليس مقبولا من التيار اللاقومي ان يتنكر لقوميته ويفرط بجزأ مهم من حقوقه الطبيعية وقضايا مصيرية تتعلق بالارض والشعب، كما انه ليس من الحكمة ان يؤسس التيار القومي دولة كوردية شوفينية تلغي المكونات الاخرى من ابناء الوطن الكوردستاني اذ كما هو معروف ان كوردستان غنية بتنوعها العرقي والديني وليس من الحكمة طمس هذا الموزاييك البشري الثمين الذي يعتبر نعمة  وليس نقمة.
ولهذا ليس بالضرورة أن نلقي بالا على اللغط الحاصل حول الموضوع  بين جماعات شبكات التواصل الاجتماعي- مع احترامي للجميع – بين منسلخ عن كرديته وبين متعصب لها إذ جلهم ليس لديهم أدنى اطلاع  على حيثيات مسائل كبرى تتعلق بتأسيس أمة وبناء دولة، بل يجب التوجه إلى ذروة  النخب السياسية  والثقافية ممن لهم اطلاع واسع على  الفكر السياسي  الحديث  ومعرفة بتجارب الأمم الأخرى التي أسست دول ناجحة وعلى دراية عميقة بالظروف الذاتية والموضوعية وتمتلك شبكة علاقات  مع العواصم العالمية والإقليمية، بعبارة أخرى تلزمنا  كاريزما  تمتلك قدرات أسطورية  تستطيع تحويل حلم ملايين الكورد الى واقع يتجسد في بناء دولة رحبة لا تفرط  بحقوق القومية الكوردية وبذات الوقت تحفظ حقوق المكونات الاخرى من ابناء هذه الدولة، وهذا هو جوهر الفكر القومي الكوردي الأصيل انه فكر انساني تحرري يقبل العيش المشترك مع  الآخر في دولة المواطنة بموجب دستور عصري ينبذ التمييز والعنصرية والشوفينية، لا شك أن الظروف المحيطة  خاصة حجم المحاولات التي تبذلها قوى ودول مناوئة لاجهاض الحلم الكوردي لن تسمح ببناء نموذج دولة مثالية في كوردستان ولكنها سوف تكون النموذج الأفضل  بين دول المنطقة، وعلينا الأخذ في الحسبان بأن النضال السياسي والمسلح لحركة تحرر وطني وحدهما قلما يكفيان لبناء دولة  بل اغلب دول العالم تأسست وفق تفاهمات وتوافقات دولية وفي هذه النقطة تلعب الكاريزما  دورا  محوريا  في اقناع صناع القرار الدولي  بدعم  حق شعبه في تقرير المصير او على اقل تقدير الحصول على تعهدات منها تضمن عدم مناهضتها  لحركة شعب تواق الى الحرية وحتى يضمن الدعم الدولي فلا مانع من ان يستمع الى صناع القرار ويأخذ ملاحظاتهم   واقتراحاتهم ومطالبهم بعين الاعتبار ويقدم ضمانات بان هذه الدولة سوف تلتزم بالمعايير  والاعراف الدولية  لتكون عضوا نافعا في الاسرة الدولية تساهم في توطيد الامن والاستقرار الدولي  وهذا حال جميع مؤسسي دول المنطقة الذين مقابل حصولهم على استقلال بلدانهم وافقوا على شروط الدول الكبرى ووقعوا معها اتفاقيات طويلة المدى اذ يتطلب احيانا من اجل الحصول على دولة ان يقدم الكاريزما على  تنازلات مؤلمة  فالسياسة في النهاية صفقات وتبادل مصالح ولا يمكن  الحصول على سلة مطالب كاملة دفعة واحدة.
في هذا الصدد  ربما  يمكن إدراك  أبعاد  حديث الرئيس البارزاني صحيح  انه قائد أمة  ولكنه أيضا  رجل دولة  وبحكم  موقعه  كرئيس للإقليم  عليه  بموجب العلاقات الدولية والقانون الدولي مسؤوليات  والتزامات تجاه  شعب كوردستان  الجنوب بكل مكوناته  وكذلك تجاه  دول الجوار – الغير ودودة – ومسؤوليات جسام تجاه أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي وليس هناك زعيم في العالم  يكون حر التصرف في علاقاته الدولية ما معناه  إن طريق البارزاني ليس مفروشا بالورود  بل هو يتحرك في حقل ألغام  ويواجه ضغوطات كبيرة  من تركيا وإيران حيث  تلقي الدولتان بثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي   وعلاقاتها الدولية بهدف إفشال مساعي البارزاني للحصول على دعم  الدول الكبرى لمشروع استقلال جنوب كوردستان في الوقت لا تبدي هذه الدول حماسا كبيرا لعملية الاستفتاء ليقرر شعب الإقليم مصيره، ولهذا لا يدخر البارزاني وسعا  كي  يقنع  صناع القرار بأهمية  إجراء الاستفتاء وإعلان  الدولة  وفي هذا السياق فإنه  يسعى إلى تقديم صورة جيدة عن الدولة الكوردستانية  المرتقبة  التي  لن تكون دولة لقومية واحدة  بل دولة مواطنة تستوعب كافة المكونات من شعب الإقليم وتضمن حقوق متساوية للجميع  ولن  يكون في هذه الدولة سادة  وعبيد وبذلك  يسحب  الذرائع من يد  الدول التي تعارض  الاستفتاء والاستقلال بحجة أن الدولة الكوردستانية سوف تضطهد المكونات القومية  من  عرب وتركمان واشوريين  ودينية  من مسيحيين وشيعة  وايزيديين  ما يهدد بتفجير نزاع جديد  في منطقة  مشتعلة اصلا، فيما يسعى  الرئيس البارزاني الى تبديد مخاوف  العواصم     الكبرى من احتمالات اضطهاد الكورد لشركائهم في الدولة الكوردستانية  بهذا  الخصوص من الطبيعي ان يقدم  الطرف  الكوردي  ضمانات الى المجتمع الدولي وكذلك الى المكونات الكوردستانية،  وهذه  خطوة بالغة الاهمية في كسب ثقة ودعم المجتمع الدولي وكذلك ثقة  المكونات الاخرى في الاقليم   ما يزيد من نسبة التصويت بنعم  على الاستفتاء المرتقب  خاصة  بين تلك  المكونات  وهذا يزيد  من شرعية الاستفتاء  ومصداقيته  ومن ولاء سكان الاقليم من غير الكورد”  العرب والتركمان والاشوريين”  وغيرهم  للدولة الوليدة بدلا من الولاء لدول اخرى  تكرس كل جهودها لافشال العملية السياسية في الاقليم، وحتى يثبت الكورد ان دولتهم  لن تكون على غرار دول المنطقة  دولة  لعرق واحد  فلا بأس ان تعبر رموز الدولة الكوردستانية “العلم، النشيد الوطني، الشعار” عن كافة مكونات المجتمع في كوردستان الجنوب، هنا علينا ان لا ننظر إلى المسألة نظرة عاطفية.
لا شك أن النشيد القومي  الكوردي  (آي رقيب)  و العلم  القومي الكوردي (آلا رگنگین) لهما رمزية كبيرة لدى الكورد  حيث ناضلوا سنين طويلة تحت راية هذه الرموز التي تجذرت في ذاكرة الشعب على مر الأجيال  وقد يصعب على البعض إدراك دواعي  إجراء تعديلات عليها ولكن هذه  التعديلات لن  تكون نهاية  الدنيا  ان   كانت ضرورية  لإزالة عقبات تعترض طريق الاستقلال فالرمز رغم مكانته  المعنوية  الرفيعة لا يضاهي  هدف بناء دولة كوردستانية مستقلة  يتمتع فيها الشعب بسيادة حقيقية،  وفي ذات المنحى ليس ثمة مبرر للقلق والخوف من تصريحات قيادة الإقليم  حول أن الدولة ستكون كوردستانية  وليست كوردية  بل بالعكس هذه  المواقف  تبعث على الاطمئنان لأنها مؤشر على أن البارزاني يسير بالاتجاه  الصحيح  لبناء دولة قابلة للحياة،  فالاحداث  والتطورات  التي تشهدها دول المنطقة  خاصة  العراق وسوريا  تبين أن عصر الدكتاتورية والدولة  الشوفينية  قد انتهى  ولم تعد  شعوب المنطقة بعد كل الكوارث التي تشهدها  تقبل بدكتاتورية القومية  الغالبة  التي تلغي المكونات الأخرى في الدولة، و لأن الكورد أكثر من عانوا من سياسة الاقصاء فإنهم  يدركون تماما  عواقب إلغاء الآخر  ولهذا  لن يحبذ رجل دولة حكيم مثل الرئيس البارزاني نموذج دولة  عرقية – طائفية  لم تجلب غير القتل والدمار بل هو يركز قدر الإمكان وحسب ما تسمح به الظروف على تأسيس دولة حديثة تلتزم اسس المواطنة،  فهل هذا يهدد المكون الكوردي وهو العنصر الرئيس في الدولة الكوردستانية  قطعا لن يهدد لسبب بسيط وهو ان النظام  الحاكم  فيها لن يحمل ايديولوجيا قوموية تركية او عروبية  او فارسية بل نظام دولة مدنية يسودها الكورد وليس منطقيا ان نتوقع غدا بان حكومة دولة كوردستان  سوف تنفذ عمليات الانفال واسلحة الابادة  الشاملة  ضد القومية  الكوردية، ولا داع للمتخوفين او المتشككين؟ الى  إثارة زوبعة القومية في فنجان  لأن الفكر  القومي الكوري فكر إنساني تقدمي قائم على قبول الآخر وهو أبعد ما يكون  عن الأيديولوجية العنصرية – الشوفينية، ولعل  الرئيس مسعود البارزاني خير من يمثل هذا الوجه المشرق للفكر القومي ولا أظنه  تحت أي  ظرف  يقبل التنازل عن الثوابت  القومية وحين يعطي الدولة المنشودة هوية كوردستانية  فهذا حتما لا يعني التفريط بالقومية الكوردية بل إنه  يمنحها فضاء أوسع
ان انجاز الدولة الكوردستانية يعني النجاح الباهر لحركة  التحرر الوطني الكوردستاني في الوصول إلى  الهدف الاستراتيجي  بمعنى اخر حصول الشعب الكوردي في  جنوب كوردستان على حقوقه القومية كاملة غير منقوصة وبقدر ما يطمئن الكورد على مصيرهم فإن باقي المكونات سوف تطمئن ايضا على مصيرها في دولة  رابطة  الانتماء فيها قائمة على الانتماء إلى أرض الوطن والدولة ذاتها  وليس إلى قومية معينة أو دين محدد، ومن يتطلع إلى دولة من لون واحد ويقفز فوق معطيات الواقع لن يكون مصير دولته أفضل من مصير العراق وسوريا.
     

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…