حسين جلبي
تعتبر الإهانة والتخوين وتشويه السمعة، والإفتراء والكذب والشتم، وإختلاق قصص وتسويقها على أنها حقائق، في محاولة للطعن بالكرامة الشخصية للمختلف، والحط من شأنه وتقزيمه، وكذلك النشكيك بشرعية الجهة السياسية وتمثيلها للمجتمع أو لشريحة ما فيه، من الظواهر الطارئة على المجتمع الكُردي السوري. ويعيد البعض نشأة هذه الظاهرة إلى فترة بدء حزب العمال الكُردستاني نشاطه التنظيمي والجماهيري في سوريا أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأن هذه الظاهرة تفاقمت في التسعينات، لتصل إلى الذروة بعد اندلاع الثورة السورية.
والمتابع لأداء الحزب المذكور على الصعيدين السياسي والاعلامي يخلص الى نتيجة مفادها؛ أن الحزب اتخذ من هذا الأسلوب وسيلة ليس فقط لعدم الاعتراف بوجود الآخر المختلف، أو بكونه عبئاً أو عديم القيمة وحسب، بل لإزاحته وإغتياله معنوياً، وربما مادياً فيما بعد، من أجل البقاء “خياراً” قسرياً وحيداً، وساعد على ذلك إستعانة الحزب بماكنة إعلامية ضخمة، يدعمها في مسعاها ذاك أنصار ومريدون، وحتى الخائفون الذين لا يكتفون بترديد ما يقوله، بل يضيفون إليه من خيالهم، ويزايدون عليه أيضاً.
بدأ حزب العمال الكُردستاني نشاطه في سوريا على أرضية الطعن بالأحزاب الكُردية السورية، التي كانت تتعرض لقمعٍ غير مسبوق من نظام الأسد، في محاولةً لإرغامها على التخلي عن الأهداف التي وضعتها لنفسها، والتي تتمثل بالإعتراف الدستوري بحقوق الشعب الكُردي في سوريا والتوقف عن المشاريع العنصرية البعثية الهادفة إلى تصفية هذا الشعب، حيث إتهم الكُردستاني تلك الأحزاب بأنها برجوازية تارةً وإصلاحية، تطالب بحقوق متواضعة ضمن الدولة السورية تارةً أُخرى، في الوقت الذي قدم فيه نفسه حزباً يسارياً علمانياً يحمل السلاح، وينادي بهدفٍ عريض هو تحرير وتوحيد كُردستان، محاولاً بذلك إبتلاع تلك الأحزاب بشعاره الكبير، وصرف الناس عن حقيقة أن تلك الاحزاب أكثر شرعيةً منه، وأكثر إلتصاقاً بحاضنتها الإجتماعية وتمثيلاً لها، كونها لم تغادر ساحتها، ولم تدر ظهرها لأرضها رغم القمع الذي تتعرض له، هذا في الوقت الذي لم يصمد حزب العمال الكُردستاني في تركيا سوى أشهر قليلة بعد تأسيسه، وغادر قادته البلاد عند أول فرصة فراراً من المواجهة، لا بل وضعوا أيديهم في أيدي نظام قمعي يحارب بدوره الكُرد في سوريا، وذلك على حساب القضية الكُردية فيها، تحت شعار مناصرته لهم في مكانٍ آخر، وهو ما لم تفعله الأحزاب الكُردية السورية. وربما يقول قائل: تركيا حدث فيها انقلاب ايلول 1980، وشهدت البلاد حملة قمع شرسة طالت كل الاحزاب الكردية والتركية المعارضة. هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً ان اوجلان غادر تركيا قبل الانقلاب سنة 1979!. ثم أنه كلن يفترض بالانقلاب العسكري، وحملات الاعتقال التي طالت قيادات الحزب أن تدفعه إلى التواضع واحترام الاحزاب الكُردية السورية، التي قدمت لحزب اوجلان كل أنواع المساعدة المعنوية والمادية مطلع الثمانينات. وهذا ما لم يكن موجوداً في سلوك الحزب، لا سابقاً ولا حالياً، لدرجة لم يكن ممكناً معها إعتبار طعنه المذكور “نقداً سياسياً” حاداً ومشروع، كونه لم يبقى تحت سقف الاختلاف الفكري والسياسي، بل انزلق نحو استخدام العنف الجسدي، مطلع التسعينات من القرن المنصرم.
لقد أراد حزب العمال الكُردستاني تزوير التاريخ، البعيد منه وحتى القريب، الذي يشكل المستهدفون بالتزوير جزءاً منه، وحاول أن يهين ذاكرة الكُردي ويشككه بمداركه العقلية ومعارفه، وما شهده بعينيه وسمعه بأذنيه، وحاول الطعن بالوقائع، وتسويق رواياته على أنها الحقائق التي لا يأتيها الباطل من قبل ومن بعد، من قبيل: الكُرد لم يكن لهم وجود قبل الحزب، حسب رؤيته، والتاريخ الكُردي يبدأ منذ ظهور حزب العمال الكُردستاني، وميلاد زعيم الحزب هو ميلاد الشعب الكُردي، حسب رسالة أرسلها السيد اوجلان من السجن بمناسبة عيد ميلاده، والمظاهرة الكُردية التي خرجت احتجاجاً على منع عيد نوروز في دمشق عام 1986، والتي قتل خلالها أحد المتظاهرين برصاص عناصر في النظام السوري، وعمد رئيس النظام بسببها إلى جعل 21 من آذار عطلة رسمية، خرجت متأثرةً بأفكار حزب العمال الكُردستاني، حسب صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي في لقائه مع صحيفة “الحياة” قبل أشهر قليلة، رغم أن الكُردستاني وزعيمه كانا يحظيان وقتها بحماية النظام السوري ورعايته، ويطلبان رضاه بأية وسيلة لدرجة إدانتهم وقتها للمظاهرة ووصف المتظاهرين بالمخربين، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الذي فجر الانتفاضة الكُردية 2004، وهو الذي حمى المتظاهرين الكُرد خلالها حسب لقاء مسلم المشار إليه، لا بل أن وحدات حماية الشعب نفذت عمليات إغتيال بحق ضباط من نظام الأسد بعدها، انتقاماً من قتلهم متظاهرين كُرد خلال تلك الانتفاضة، حسب الناطق باسم تلك الوحدات ريدور خليل في لقاء له مع صحيفة العرب اللندنية قبل سنتين. رغم أن الحزب لم يكن له وجود يذكر في ذلك الوقت، وقد انفض أنصاره عنه، وأخذ كُلٌ منهم يبحث عن وسيلة يغسل بها نفسه منه. كما أن أحداً لم يسمع بوقوع أي إعتداء على عناصر تابعين للنظام وقتهاـ، ولم يسمع أحد باسم تلك الوحدات، حتى بعد مرور أشهر على إنطلاقة الثورة السورية.
أداء الحزب السياسي والإعلامي يشير إلى استباحته كرامات من ليس معه من الكُرد، وصنع “سير ذاتية” و”ملفات شخصية” لهم تحتوي على افتراءات، ونعوت بشعة، وقصص لم يسمع عنها حتى المعني بها، بالتوازي مع صنع تاريخ إيجابي لمناصريه، جعلهم من خلاله ملائكة ورفعهم به إلى السماء السابعة. من خلال هذا الأداء، يظهر أن الكُردي الذي يعارض سياسات حزب العمال الكُردستاني، والذي لا ينتمي لنسخته السورية (حزب الاتحاد الديمقراطي) هو حسب أدبيات الحزب، وإعلامه وحلقات مناصريه: داعشي، إرهابي، اردوغاني، عميل، خائن، جاسوس، مرتزق، سارق، فاشل، قرباطي، ليس كُردي أصلاً، معتدي على دماء الشهداء، “كلبٌ نابح” و”حمارٌ غبي”، “أُسرته مفككة وتاريخها أسود”، وألفاظ سوقية وشتائم لا حصر لها، وجميع أفراد عائلته او عشيرته (باستثناء أعضاء الحزب، أو المتعاطفين معه) ينتمون إلى العالم السفلي بكل ما فيه من قذارة. وإذا كان هذا المختلف والناقد للحزب يعيش في أوربا، فهو فار من جنة الحزب ومنجزاته، عاطل عن العمل، يقضي الكثير من وقته متسكعاً في الشوراع. ويمضي نهاره متسولاً على أبواب دوائر المساعدات الاجتماعية، ويمضي ليله سهراناً معربداً في خمارات أوربا ونواديها الليلية، متناولاً الكحول والمخدرات طوال الوقت حتى أدمن عليها. وهكذا، إذا دار الحديث حول أحد الذين لا يسكتون عن سياسات الحزب وينتقدونها، أو سأل أحدهم عنه، تطوّع أنصار الحزب للرد، وسرد المتوالية المذكورة آنفاً عنه، بادئين قولهم بثقة العارف ببواطن الأمور:”فلان؟ دعك منه، أنا أعرف تاريخه القذر كله، كل شئ عنه عندي في الأرشيف..”، ، إلى أن يصبح ذكر الشخص مقروناً بكل تلك النقائص ومثقلاً بها، وتصبح كل تلك النعوت حقيقة في ذاكرة هؤلاء، لكثرة التداول والترويج، يتعاملون معه على أساسها.
لقد بلغ التعامل مع المختلفين، من خلال هذا الأسلوب، المفتقر لأدنى درجات الأدب والإحترام، مبلغاً خطيراً، خاصةً مع ظهور وسائل التواصل الإجتماعي، والتي تحوّلت إلى مادة مخدرة وأصبحت قناعاً. وتحوّل الكثير منها إلى مستنقعات آسنة، يندر فيها مقابلة الرأي بالرأي الآخر. إذ بمجرد أن يدلي المرء برأي مختلف، حتى تنهال عليه الشتائم، ويتعرض للتهديد والوعيد الذي يصل أحياناً إلى التهديد بالقتل. حتى بات المرء مخيراً بين أمرين، أحلاهما مر: إما التورط بالرد على الكلمة السيئة بما يماثلها، أو ترك الأمر برمته، والترفع عن الخوض في الشأن العام الكُردي، حتى يطفو المستنقع بما فيه، فيلوث ما بقي من نقاء.
لقد تحولت ظاهرة الشخصنة، والشتم بسبب الرأي المخالف لسياسات وممارسات أي حزب، في الفترة الأخيرة، إلى أسلوب كُردي عام في التعامل مع المختلفين. ولم تعد مقتصرة على حزبٍ بعينه، وكأن هناك مدرسة واحدة تخرج منها الجميع، حيث تستعمل الألفاظ النابية ذاتها، من أنصار الأحزاب المختلفة عند التعرض بالنقد لزعيم الحزب وسياسة حزبه، وهذا مؤشر خطير، يكشف مدى فداحة وكارثية هذه الظاهرة بوصفها انحداراً سياسياً وإعلامياً وأخلاقياً في أساليب إدارة الخلاف أو الاختلاف السياسي والفكري في المجتمع الكردي. والشتم والتخوين، حين يصبح سلاحاً استراتيجياً في ايدي أحزاب سياسية، أبرز الضحايا سيكون المجتمع والقضية.
* الكاتب: أعتذر عن الألفاظ النابية الواردة ـ للضرورة ـ في المقال
المصدر: المركز الكُردي السويدي للدراسات