د. محمود عباس
سقطنا نحن الكرد، والعديد من الشعوب الأخرى، ولأسباب، وعلى مدى قرون عديدة، تحت نير ثقافتين مشوهتين، ثقافة السلطات المحتلة العنصرية، والتبعية للإسلام السياسي على مبدأ الموالي، فأرضخنا لاقتناع بعدمية التحرر الذاتي، ومنعنا من العيش في كيان ننتمي إليه ويعكس ذاتنا وثقافتنا. استمرت هذه الجدلية الشاذة وبشكل مخطط حتى هذه اللحظة، لذلك فلا يستغرب عندما يهاجم الأعداء وبشراسة مشروع الاستفتاء المحدد إجراءه في 20-9-2019م، والذي في عمقه السياسي يعكس طموح كلية الشعب الكردستاني، وبه يعرض مصير أمة بكاملها على المحك، وعلى قدر أهميتها تتصاعد أصوات الأعداء، والمعارضين، لأنهم لا يتوقعون من شعب تم تدميره اجتماعيا وعزل عن البشرية سياسيا، وشوهت ثقافته القومية، وطمر أو فبرك تاريخه، يعيد كل ما دمر إلى الحياة في ظرف عقد ونيف، وتصبح قضيته إحدى أهم القضايا المطروحة على طاولات الحوارات في الشرق الأوسط.
خلال السنوات الماضية، أصبحنا نصارع لنثبت بأنه كان لنا تاريخ، ونعيش على جغرافية هي ملكنا، وأننا ديمغرافية قائمة بذاتها، واليوم بلغنا بأن نقول لجميع الأنظمة المحتلة لكردستان وللعالم أننا نود أن نقرر مصيرنا وباستفتاء ديمقراطي.
ولأن التدمير الذي تم كان هائلا، فلربما نحتاج إلى عقود أخرى من عمل متواصل، إعادة البناء وبأقل ما يمكن من الأخطاء، ومن إحدى أوائل مهماتنا هي إعادة تركيب كلية نظامنا الكردي الثقافي والاجتماعي والسياسي، المبني والمصان من قبل الأعداء وعلى مدى قرون متتالية، فما نقدمه كحركة ثقافية حتى اللحظة لا تتعدى ترميم زوايا مهترئة من هذا الصرح الرهيب، ولنتمكن من تغيير النظام الحالي، وبناء يمثل روح الأمة، لا بد من تنوير الذات قبل المجتمع، والتكاتف بروح ديمقراطية لمواجهة القضايا المصيرية.
لا شك الهيئة الإدارية للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، وأعضاؤه ليسوا على سوية رواد الجيل الأول للتنوير في أوروبا كفولتير ومونتسيكيو وروسو وغيرهم، أو الجيل الثاني أمثال كانت ولسنج وسبينوزا والأخرين، لكنهم لا يقلون أهمية وتأثيرا وحراكا عن الذين وصفوا تجاوزا وجدلاً برواد الحركة التنويرية العربية، ونطمح بأن تظهر الشريحة المقارنة بالأوربيين، رغم الظروف الاقتصادية القاسية، والسياسية المتضاربة التي تنعكس على كلية المجتمع الكردي ومثله على الاتحاد العام للكتاب والصحفيين.
فما قدمه ويقدمه الاتحاد العام، سابقاً (رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا) للحركتين الثقافية والسياسية، وللمجتمع الكردي عامة يجعلنا بأن نقيمها كأحد أهم الحركات التنويرية الكردية المبتدئة في سوريا، وبناءً على ما تقوم به من خدمات في المجالات الإعلامية والاجتماعية والفكرية والسياسية، والتطرق بين فينة وأخرى على تشذيب الثقافة السائدة قدر المستطاع والإمكانيات المتوفرة، تستطيع أن تضع ذاتها كحركة نضالية في مواجهة التحديات التي تعترض مسيرة المجتمع الكردي.
وهنا، وفي هذه العجالة، لن نبحث في المواضيع التي يجب أن نتناولها كحركة ثقافية لتنوير المجتمع، رغم إنها من أهم المواضيع الواجب تناولها، والتي تطرقنا إلى بعضها سابقا وقد نضع مواضيع أخرى مستقبلاً على طاولة البحث والنقاش بين الأخوة في الحركة الثقافية، ونأمل ألا نفشل نحن والإخوة الأخرين، إن كانوا في الهيئة الإدارية للاتحاد أو النخبة في الحركة الثقافية الكردية، في منتصف الطريق، مثلما فشل التنويريون العرب والذين معظمهم كانوا من خارج العنصر العربي، وإخفاقاتهم أمام الإصلاحيين والانتهازيين اللاحقين أدت إلى ظهور هذا الكم من السلطات الاستبدادية والشمولية والمنظمات التكفيرية والقومية العنصرية في شرقنا، وبالتالي تخلف المجتمع عن ركب الحضارة، في الوقت الذي أدت نتائج الشريحة التنويرية الأوروبية إلى بناء حضارة.
لا نظن بأننا نتجاوز التقييم المنطقي للحركة الثقافية الكردية عندما نقارنها بغيرها في المنطقة، ونضعها في مقدمة الحركات الثقافية في الشرق الأوسط، من حيث موضوعية المفاهيم، وقلة الحيز العنصري والتعصب الفكري أو القومي أو الديني، والدور التنويري الذي يحملونه ويعرضونه على طاولات النقاش مع الأطراف تتجاوز الجغرافية الكردستانية، ولأن العلاقة عميقة مع الشعوب الأخرى، فهم يتناولون قضياهم ضمن القضايا التي تهم الكل، في الوقت الذي لا يزال فيه الأخرون يرزحون تحت هيمنة الاستعمار الفكري الإسلامي-القومي ونادرا ما يطرحون مفاهيم بدون المطلق الديني، وجل تنويرهم تنحصر في الليبروإسلامية.
وعليه لا نستبعد بأن تتصدر الحركة الكردية مستقبلاً الحركات التنويرية في الشرق الأوسط، فيما إذا كانت هناك حركة تنويرية بين شعوب السلطات المحتلة لكردستان، بالمفهوم الدقيق للمصطلح في الشرق، وذلك رغم كل الاختلافات، بدءً من الإمكانيات المادية، والمجالات المتوفرة من نشر مفاهيمهم وأفكارهم، إلى التفرغ التام الذي يحصل عليه أقرانهم، من أبناء الشعوب الأخرى، للعمل الثقافي، مقابل ثقل وضخامة تأثيرات العوامل الموضوعية، بدءً من الترهيب، والتفقير، والاستبداد السياسي، والتهجير القسري، لأغلبيتنا، من جغرافيتنا وبيئتنا، إلى غيرها من المشاكل التي تخلقها السلطات الإقليمية الشمولية الاستبدادية لمجمل الحركة الثقافية الكردية والكردستانية.
لا شك رافقت مسيرة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، منذ التكوين وحتى اللحظة بعض الأخطاء، والمصاعب كانت متنوعة ولا تزال، وكنا كهيئة إدارية على دراية بمعظمها، نبحث فيها ونناقشها، ولم تقف محاولات التقليل منها، رغم الظروف الذاتية والموضوعية القاسية، مع ذلك بعضها أعاقت نشاطات الاتحاد التنويرية، وفعالياته التنظيمية، ومنها ما أدت إلى تلكؤه، ومنها ما كان سببا في خلافات بين الداخل والخارج. وإحدى أهم تلك الأسباب كان العامل المادي، أو لربما نستطيع أن نصفها جدلاً، بالسلطة الاقتصادية ذات الوجهين المتناقضين، والمرتبط بالحضور والغياب: ففي الحالة الأولى، حيث الوفرة التي تعطي طاقة إضافية للتنوير. وفي الثانية شحته أو غيابه، ويمكن تسميتها بمعضلة الحاجة، والتي تعيق أو تبطئ نشاطات الحركة الثقافية، وعلى أثرها تختفي أو تتعتم الكثير من الطاقة التنويرية، وبالتالي يتأثر المجتمع قبل الحركتين الثقافية والسياسية.
ولا شك العامل الذاتي لا يقل ملامة عن الموضوعي، ونحن في الاتحاد العام حاملي راية التنوير نحمل الكثير من مسؤولية هذا النقص، وبعضه أو كثيره ناتج عن انعدام الدعم المادي، قبل الحراك الثقافي التنويري الذاتي أو الجمعي، ورغم أننا كنا أمام صراع لتوفيره على حساب استقلالية الرأي، أو عدميته مقابل حرية الرأي، وهذا ما يواجهنا حتى اللحظة، بل وفي الحقيقة فإن جميع أطراف الحركة الثقافية تعاني ما نعانيه وتواجه نفس المشاكل…
ملاحظة: تجاوزا طرحنا مصطلح (السلطة الاقتصادية) وجورها، لتأثيراتها السلبية المتعددة والهائلة على الحركة الكردية والتي فرضتها الأنظمة الشمولية وبشكل مخطط…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
25/7/2017م
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(63) الناطقة باسم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.