ماجد ع محمد
“حب لغيرك ماتحب لنفسك”
مثل انكليزي
منذ أن أعلنت حكومة إقليم كردستان العراق عن رغبتها في إجراء الاستفتاء في 25 من شهر أيلول، وموجة الانتقادات والاتهامات مستمرة من تاريخ اتخاذ القرار، كما أنه بالإضافة إلى الموقف السلبي المسبق للدول المحاطة بالإقليم فلم تتوقف الاتهامات والتخوينات من قبل الكثير من مثقفي ملل المنطقة وسياسييها، وهم لا يكفون عن تبشيع صوَر الاستقلال ومحاولة إقناع الكرد بعدم التورط بهذا ألمشروع الضار حسب وصفهم من جهة، ومن جهة أخرى محاولات البعض منهم تخويف الكرد من عواقب الاشستقلال، وهم ينهالون عليهم عبر وسائل الإعلام بمزامير تعِدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما أقدموا على اقتراف تلك الخطيئة التاريخية التي لا تُغتفر، إذ يرون في نيل الاستقلال بُشرى وحسنة لشعوبهم ولكنها لعنة ورذيلة بالنسبة للكردي.
وبعيداً عن الآراء المسبقة لكل من يغضب إذا ما انتُزع أحدهم حقه منه بعد قرونٍ من التبعية والاستغلال، فإذا آمنا بأن الاستقلال كتعريف هو التخلص من أي تبعية مباشرة للآخر، وبالتالي التحرر من المؤثرات الخارجية مع القدرة على اتخاذ القرارات بدون الرجوع إلى المركز، أو القيام بأعمال نابعة من قناعات القادة السياسيين أو مسؤولي الحكومة، والسعي لتحقيق الطموحات والأهداف كفردٍ أو ملة، فما هي المقابح والمساوئ الظاهرة للاستقلال إذن؟ ” ولماذا مقابح الاستقلال خاصة بالكرد دون غيرهم من شعوب المعمورة؟ وطالما أنهم يخشون على الكرد من المستقبل المشؤوم إذا ما خاضوا تلك التجربة المستقبحة أمّا كان على اخوة الدين والجغرافيا أن يقاسموا اخوانهم العناء ويعاملونهم بالمثل؟ أم هم حريصون فقط على نيل كل ما يبتغونه لأنفسهم بخلاف الآخر؟ وأمّا كان على واحدهم أن يتذكر ما قاله نبي المسلمين “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” فلماذا يا ترى يكرهون للآخرين ما يحبونه لأنفسهم؟ أم أن أقوال النبي وفلسفته هي للمتاجرة فحسب ولا يُعمل بها أصلاً إن كانوا سيخسرون شيئاً ملموساً من وراء تمثلها أو الإلتزام بمضمونها؟
وكملاحظة بسيطة وظاهرة للعيان، فباعتبار أن الاستقلال هو السيادة على كامل تراب وموجودات الوطن، والذي ينتج عنه الحرية في اتخاذ القرار الوطني، ومن ثم يفضي إلى التحكم بتلابيب الدولة ومقاليد الحكم، وبالتالي السيطرة التامة على الثروات الطبيعية واستثمارها بأفضل السبل وأكثرها فائدة للناس، وبعيداً عن التوقعات وبث الأوهام فثمة مثال ساطع وقريب، إذ أن حكومة إقليم كردستان بالرغم من صلاحياتها المحدودة وعدم سيطرتها على كامل خيرات الإقليم إلا أنها رغم ذلك ففيما يتعلق باستثمار الموارد والاستفادة منها فحسب الخبراء والعارفين بالشؤون الاقتصادية في الإقليم فإن حكومتها استطاعت منذ عام 2003 ولغاية 2014 إنجاز ما لم تنجزه كل الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد منذ إسقاط نظام البعث إلى تاريخ اليوم، وذلك من خلال أخذ حكومة الاقليم فقط نسبة أقل من 17% من مجمل الميزانية، فكيف إذن لو كانت النسبة أكثر من ذلك؟ وماذا لو كان الإقليم يدير ويسيطر على كافة موارده؟
على كل حال فإذا ما أودعنا التهويل والتخوين جانباً، فإن الاستقلال بين الشعوب هو بصورة مصغرة أشبه باستقلال الأسرة الواحدة عن بعضها لأسبابٍ ما، ولا يعنى الاستقلال بأنه إعلان المقاطعة مع كل البشر، والمكوث في كهوف منعزلة عن العالم، بل العكس يعني أن يكون هنالك حدود وقواعد وشروط تحض على الإقرار بحق الغير، ويمنع أي طرف من الاعتداء على الطرف الآخر، كما يعني الاستقلال عدم استغلال شعبٍ لشعبٍ آخر، والتخلص من التبعية والخضوع القسري للملة من قبل ملة أخرى، والاستقلال بناءً على البروتوكولات والقوانين الدولية يدفع كل شعبٍ لاحترام جغرافية وسماء الشعوب المجاورة، وعدم تطاول بلدٍ ما على سيادة بلدٍ آخر، أي هو ضمان احترام الأمم لبعضها، فعلى مستوى العائلات فإن الأسر التي يسود بين أفرادها العدل والاحترام المتبادَل والمساواة فلا يفكرون بالاعتزال والاستقلال عن بعضهم إلا إذا ظهر خلل ما يستدعي فك ذلك الارتباط الودي، والشعوب كذلك الأمر قد تعيش سوية وتتنازل عن بعض امتيازاتها إذا ما ساد بينهم سلطان الحق والعدل والمساواة، وحقاً لو كان هنالك عدلٌ حقيقي بينهم ولم تستغل أمة أمةً أخرى أو تستغل الملل بعضها بعضا لعاشوا مع بعضهم بكل ود، وبدون الحاجة إلى الابتعاد والافتراق كما هو الحال لدى بعض الملل في الدول الغربية المعاصرة.
ولكن الغريب لدى مفكري ومثقفي وساسة ونشطاء الشعوب المجاورة للكرد أن الاستقلال يكون قبيحاً ومضراً وغير نافع وسيء وقميء كوصفة علاجية بالنسبة للكردي، بينما هو بالنسبة لباقي شعوب المنطقة يمثل الإباء والشموخ والكبرياء والعزة والفخار، والمثير للاستهجان أن الاستقلال يُعزّز من حضور الأنا لدى نفس الذي يستقبح ويستبشع الاستقلال بعيون الكردي حتى لا يقترب من تخومه، علماً أن من يبخلون بالاستقلال ويستبشعونه للكرد، فقد أراقت شعوبهم مع معظم شعوب العالم سيولاً من الدماء من أجل الحصول على الاستقلال! وإذا كان الاستقلال فعلاً قبيحاً إلى هذه الدرجة فلماذا ضحوا بالغالي والنفيس من أجل نيله؟ وإذا كان للاستقلال كل هذه العيوب والمساوئ فلماذا لا يتنازلون عن استقلالاتهم الوطنية ولا يسلمون زمام دولهم وحكوماتهم إلى أناس آخرين أو دول أخرى حتى يتخلصوا من كوابيس الاستقلال ويتنعموا مجدداً بالراحة والأمان في ظلال الخضوع والتبعية للدول أو الشعوب الأخرى؟
وفي الختام فإن المحاولات المستمرة لمثقي وسياسيي الدول الاقليمية وسعيهم الدؤوب لاستبشاع صور وتبعات الاستقلال على الكردي، لا يذكرنا إلا ببعض القصص التراثية الطريفة والغريبة، منها ما جاء في كتاب البخلاء للجاحظ حيث يذكر الجاحظ عن طفل مرو البخيل أنه: “عندما سمع أحمد بن رشيد حديث ديكة مرو البخيلة من ثمامة قال: كنت عند شيخ من أهل مرو، وصبي له صغير يلعب بين يديه، فقلت له: إما عابثاً وإما مُمتحناً: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده هو مر، فقلت: فاسقني من مائكم، قال: لا تريده هو مالح. قلت: هات لي من كذا وكذا قال: لا تريده هو كذا وكذا، إلى أن أعددت أصنافاً كثيرة كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إليّ فضحك أبوه وقال: ما ديننا؟ هذا من علمه ما تسمع؟ يعني: أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم”، وبناءً عليه فيبدو جلياً أن حال مستبشعي الاستقلال للكردي يكشف أولاً عن ثقافة ممعنة في استخدام المكاييل والاستئثار وتفضيل الأنا على العالمين بخلاف حديث الرسول عن الحب للآخرين، وثانياً حالهم في الاعتصام بما يكرهونه لللآخرين يماثل تماماً حال الطفل البخيل المتمسك بالزاد حباً حتى التدله، والذي على غرار مستبشعي الاستقلال للكردي لم يوفر أي عذرٍ يقوله في الخبز إلا وأورده حتى لا يفرط بكسرةٍ منه، وكله لكي لا ينال الطالبُ أي شيءٍ مما أراد.