عفرين.. بين الانعزال الجغرافي والانتصار السياسي

إدريس سالم
مع التمدّد الكوردي «المخيف» إقليمياً، واللا كوردي كوردياً، ذلك أن تركيا والعراق وإيران تعدّ المعارك التي يحققها وحدات حماية الشعب والمعروفة اليوم باسم “قوّات سوريا الديمقراطية“ بأنها تمدّد كوردي خطير، قد يهدّد حدودها (الكوردية المحتلة) في المستقبل، فيما الشريك الكوردي المعارض يعتبر كل المكتسبات التي حققها حزب الاتحاد الديمقراطي ليست مكتسبات كوردية، ولا تخدم المشروع الكوردي القومي، لارتباطات سرّية وثيقة مع كل من دمشق وطهران. 
أمريكا التي لا تزال تستغلّ كل الأزمات الفاعلة في مستنقعات الشرق الأوسط المعقّدة، لصالحها مصالحها ومصالح إسرائيل، فهي التي تدعم الطغاة بكل عنتريتها وعنجهيتها، وتتباهى بضحاياها، وتطالب المجتمع الدولي بمحاسبتهم في محكمة الجنايات الدولية. كتحويل سوريا والعراق إلى فيدراليات مقسّمة (كوردياً وسنّياً وشيعيّاً وعلوياً)، وإنشاء مناطق آمنة في الجنوب السوري بتفاهم مع روسيا، عبر اتفاقية سرية، كانت إسرائيل طرفها الخفيّ والمنتصر، التي استطاعت من وراء الكواليس تأمين حدودها، بحيث أبعدت عنها حزب الله اللبناني والميليشيات التابعة لإيران، والحرب الأهلية اليمنية التي تدور بين جماعة الحوثيين والقوات الحكومية، والنزيف المفتوح في فلسطين، والفوضى الكبيرة والصراع الطائفي في لبنان، وأزمة دول الخليج العربي، وخاصة قطر، والتي كانت لها اليد الكبرى في تفاقمها واشتعالها، من خلال ممارسة الدور الكبير في قطع كل العلاقات عنها، وخنقها في حصار دبلوماسي واقتصادي وبتنفيذ عربي، واليوم نرى توافقاً أمريكياً أوروبياً على رفض عزلها والاكتفاء بمعاقبتها، وذلك بفرض عقوبات اقتصادية عليها.
عند شرح التفاصيل الخفية والمخيفة لسؤال “لماذا عفرين على وجه التحديد؟“، علينا أن نسأل أيضاً “لماذا دعمت تركيا داعش في حربها على كوباني في أواخر 2014، وقبلها حركة أحرار الشام في 2013؟“. هذا يعني أن تركيا ستحارب الكورد بكل إمكانياتها التي خصّصتها عسكرياً وإعلامياً، سواء عن طريق الائتلاف السوري، أو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، أو تنظيم داعش. فرغم انعزال عفرين جغرافياً عن باقي المدن الكوردية في الغرب الكوردستاني، إلا إنها تحتلّ أهمية استراتيجية كبيرة في المشروع الكوردي، الذي يعمل عليه كل من الشريكين الكورديين المتصارعين، نظراً لأنها تشكّل الجسر الجغرافي لوصل هذا المشروع بالبحر الأبيض المتوسط، والقريب من مناطق النفوذ الروسي، كما صرّح بذلك العديد من المسؤولين الكورد، ومن الطرفين. 
إذ أن تحقيق هذا المشروع، مقابل التفاوض على مدينة الرقة، ستخرج الأمور عن سيطرة تركيا، وسيصبح الوجود الكوردي واقعاً مفروضاً على الأرض، وربّما تصبح الفيدرالية الكوردية ملفاً ساخناً على طاولة تسوية الأزمة السورية بين النظام والمعارضة وبين أمريكا وروسيا، فإمكانية ربط عفرين «التابعة لمناطق النفوذ الروسي» بشرقي نهر الفرات «التابع لمناطق النفوذ الأمريكي» لا تزال قائمة، طالما أن مثلث “منبج، الشيخ عيسى، تل رفعت“ تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتطّلع الأخيرة إلى ربط هذه المناطق بمشروع موحّد، مع مدينتي كوباني وقامشلو.
إن رغبة تركيا في المشاركة في معركة الرقة واستعادتها من داعش كان مهماً بالنسبة لها على المدى البعيد، حيث كانت ستدعم مشاركتها بجنود مدرّبين وبصفّ ضباط أيضاً، كي لا تؤدي استعادة الرقة بأيدٍ كوردية إلى توجيه الثقل الكوردي العسكري والاقتصادي وحتى الدولي نحو عفرين وربطها بالمدن الأخرى، وبالتالي فإن العملية العسكرية للسيطرة على عفرين، ستكون خطوة استباقية استراتيجية، لمنع تمدّد المشروع الكوردي، وقطع الطريق أمامه نهائياً، إلا أن أمريكا أبعدتها عن ذلك، وقطعت الطريق أمامها، لتعطيها درساً، وتعيد اعتبارها، خاصة وأن تركيا أخلفت بوعودها لأمريكا في عدّة محطات مهمة، وأبرزها الرفض التركي المشروط لاستخدام قاعدة إنجرليك العسكرية أمام طائرات التحالف الدولي.
إن الانتصار السياسي الكوردي الساحق في عفرين، مرهون على ضرورة أن ينسحب المجلس الوطني الكوردي من الائتلاف السوري المعارض، وينقل مركز نشاطه من اسطنبول إلى الداخل أو إلى هولير في إقليم كوردستان، وبتوقيع اتفاقية شراكة سياسية وعسكرية جدية بين الطرفين، تقتضي بضم عفرين إلى الإقليم الكوردي في غربي كوردستان، الذي سيتمخّض كأحد البنود المحورية، على طاولة توقيع الوثيقة النهائية على مستقبل سوريا الفيدرالي، أو أن عفرين ستكون تابعة لمناطق النفوذ الروسي، التي ستديرها السنّة ضمن إقليمهم السنّي، وسيختفي معها المجلس الوطني الكوردي، لأن المصالح المشتركة بين تركيا وروسيا اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعلمياً، وربّما عسكرياً كذلك تدعم فكرة التقارب والتحالف بينهما. ولا ننسى دور الأقلية المسلمة الكبيرة داخل روسيا، في دعمها لمثل هذا التقارب التركي الروسي المأمول، والذي يقلّل من عزلتهم ويعزّز اتصالهم بالعالم الإسلامي، خاصة وأن هذا التقارب سيتعزّز أكثر عندما تشعر روسيا، بأنه ليس من مصلحتها كسب عداوة الشعوب العربية الإسلامية السنية على خلاف أمريكا، والذي ينعكس سلباً على مكوّنها الإسلامي السنّي، وربما يذكّرها بهزيمتها في أفغانستان أمام المجاهدين المسلمين السنّة.
ويبقى القول أن تركيا لا تريد أن تتعرّض لأيّ خسارة استراتيجية في سوريا، وتخرج منها خالية الوفاض، إذ إن قطع كل أنواع الإمدادات أمام التمدد الكوردي في مرحلة ما بعد الانتصار في الرقة، ومواجهة الحد من التسليح الأميركي للكورد بتفاهمات علنية مع موسكو وأخرى سرّية مع طهران، يبقى في صلب الاستراتيجية التركية في المرحلة القادمة، طالما رأت أن أمنها القومي مهدّد، من توسّع مناطق النفوذ الكوردي، الذي لن يجد أمامه سوى خيار المقاومة في عفرين المنعزلة جغرافياً والتي قد تنتصر سياسياً عند توحيد الشريكين الكورديين، الأمر الذي من الممكن أن يجعلها عنواناً بخطوط عريضة ومخيفة في الحرب السورية الطائفية، التي ما زالت مفتوحة على كل السيناريوهات المجهولة. 
إدريس سالم
ميرسين 5 أغسطس 2017

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…