الحمولة السياسية والبعد التغييري لاستفتاء إقليم كوردستان العراق على الاستقلال

د. آزاد أحمد علي
مجموع التصريحات الأخيرة للعديد من القادة والدبلوماسيين في حكومات الغرب الرسمالي والحكومات الأربعة للدول ما (تحت الكولونيالية) التي تقتسم كوردستان وتنشر منذ أمد بعيد الإرهاب والفوضى والفساء في الشرق الأوسط، تذكر وتستعيد أجواء معاهدة لوزان، الذي يصادف هذه الأيام مرور (94) عاما على توقيعها في (24/7/1923)، المعاهدة – الصفقة التي تم التنكر بموجبها لحقوق الشعب الكوردي، خاصة حقه في تقرير مصيره السياسي وبالتالي طويت صفحة استقلال كوردستان منذ ذلك الحين. حاليا تتم استرجاع مناخات صفقة لوزان التي  رسمت عمليا حدود سورية والعراق، شرعنت ورسخت حكم الجمهورية الأتاتوركية على معظم مناطق كوردستان.
التجربة الكوردية المريرة مع الغرب توحي بأن القوى الرأسمالية قد تعيد  تكرار نفس الصفقات، فسلوك الدول العظمى في السنوات الأخيرة تؤكد بأنهم غير جادون في تغيير أنظمة الحكم المستبدة ولا يسعون لعمليات تغيير جوهرية لبنى الدول التي ترسخت بعد الحرب العالمية الأولى، على الرغم من ارتجالية القرارت التي أوجدتها والمظالم التي نتجت عن تشكيلها، بل باتوا حماة لهياكل الدول وأنظمة الحكم اللاديمقراطية القائمة.
 فحزمة الخطابات الدبلوماسية وجملة كتابات أزلامهم ومؤسساتهم بخصوص عملية الاستفتاء المزمع إجراؤه يوم (25) أيلول القادم على استقلال اقليم كوردستان عن حكومة بغداد وفك الارتباط معها، أو إعادة ترتيب الشراكة، كل هذا الكم من المواقف والتصريحات فضلا عن التحليلات لا تثير التفاؤل من جهة، كما ينبغي أن تشجع القوى المطالبة بالتغيير والديمقراطية على المضي في مشروعها حتى النهايات القصوى.
 من منظور عقلاني التوجه العام في هذه المرحلة سواء للقوى الفاعلة دوليا أو للقوى الإقليمية  يميل وينحدر نحو تثبيت الواقع السياسي والاجتماعي الراهن لعموم الشرق الأوسط، بمعنى تهدف هذه القوى بصيغة ما لإعادة الأوضاع السياسية الى ما قبل فعاليات الربيع العربي (2011) وكذلك إلى ما قبل ظهور (داعش) وما نجم عن ظهوره من خراب سياسي واقتصادي، فضلا عن الخسائر البشرية والتضحيات الجسام التي قدمتها شعوب المنطقة وخاصة شعوب سورية والعراق.
 السمة العامة لهذه المرحلة تتصف بعدم تقبل مراكز القرار الدولي والإقليمي متغيرات جذرية على الساحة الشرق أوسطية. بناء على هذا الافتراض تطرح جملة من الأسئلة المصيرية نفسها، فلماذا إذن أعلنت الحرب على الإرهاب؟ لماذا تم تخريب الكثير مما هو قائم في أغلب دول المنطقة خاصة سورية والعراق؟! إن لم تكن الظروف الراهنة مواتية على اجراء عملية تغيير سياسي وبالتالي اقتصادي – اجتماعي في الشرق الأوسط عموما، العراق وسورية خصوصا فمتى ستتوفر تلك الظروف وتتهيأ شروط التغيير إذن؟! ينبغي الإجابة عليها أولا من قبل النخب الثورية وناشطي حقوق الانسان، كما أن أبناء الشعوب التي عانت من ويلات هذه الحرب معنيون بالإجابة وعدم انتظار مواقف الآخرين.
يبدو أن أحد أهم الإجابات على هذا التساؤل، بل أحد أبرز الردود على مساعي تثبيت الواقع السياسي لما قبل انتفاضات التغيير التي انطلقت مطلع عام 2011 تمظهرت في أكثر من شكل ومسار، وأحد أهم المسارات المؤدية للتغيير يكمن في دعم النهج السياسي التي حملت لواءه القوى الكوردستانية، العراقية والسورية، الهادفة إلى تغير بنية نظامي الحكم في سورية والعراق، عبر التأسيس لشراكات سياسية جديدة، تغيير الدستور وبالتالي بنية الدولتين الاستبداديتين.
 لكن الدعوات التي تتحجج بأن الوقت لم يحن بعد، أو أن الاستفتاء سيؤدي الى الاستقلال فتفتيت العراق وباقي دول المنطقة، مبالغ فيها وتهدف أساسا إلى المحافظة على الوضع الراهن، بل تخدم بقاء وتغول أنظمة الحكم المستبدة في الدول الأربعة المعنية بالملف الكوردي، نحن نفترض أن دعوات المحافظة على الوضع القائم تلتقي مع دعوات تجميد الصراعات وترحيلها للمرحلة القادمة وهي تهدف إلى الاستثمار من جديد في حالة عدم الاستقرار والصراعات القادمة، بل توفر المناخ لها. فلا يمكن لكل هذه التضحيات أن تذهب سدى، لا يمكن أن تحافظ هذه الحرب على مرتكبيها ويتم ترسخيهم في السلطة، نفترض أن عدم تقبل التغيير الحقيقي يفسح الطريق للانتقال إلى المرحلة الثانية من الصراعات القومية والطائفية المركبة والمعقدة. لذلك نجد أنه على كل القوى المحبة للسلم والداعية للديمقراطية والمساواة أن تؤيد عملية الاستفتاء على حق تقرير المصير السياسي لشعب كوردستان العراق، الذي هو في الوقت نفسه ممارسة  بالوكالة لحق كل شعوب ومواطني المنطقة في تقرير مستقبلهم السياسي وخطوة عملية لرفض الواقع السياسي المفروض قسرا عليهم جميعا. 
 لأنه في الواقع لم يبقى من هذا الحراك الفاعل سوى جهود القيادة الكوردستانية في أربيل الساعية إلى إجراء استفتاء على استقلال إقليم كوردستان العراق، وهو تعبير عن الرفض التام للنظام السياسي القائم في بغداد من جهة، وبالتالي مقاومة لعملية تجميد  سيرورة التغيير الشرق أوسطية من جهة أخرى.
 ان أخطر ما تواجهه شعوب المنطقة في المرحلة القادمة هي ليست المنظمات المتطرفة ولا الخطاب المنتج له بقدر ما هو المحافظة على الوضع السابق لبروز هذه المنظمات، الكارثة تكمن في الإعلان عن أن الشرق الأوسط غير قابل للتغيير وأن سرديات حكومتي بغداد ودمشق صحيحة في مواجهتها للإرهاب.
الخطر يكمن أيضا في اختزال أماني شعوب المنطقة بالعودة الى العهد (الآمن) تحت حكم نفس العقليات، نفس الحكومات، نفس المؤسسات الاستخبارية التي تضافرت جهودها لإنتاج وتسويق وتوجيه القوى المتطرفة ودفعها نحو ممارسة المزيد من الإرهاب.
 ما يمكن أن يفهمه المراقب من سعي إقليم كوردستان العراق نحو الاستفتاء على الاستقلال هو الإعلان عن أن عملية التغيير لا بد أن تستمر وأن الحكومات القائمة لا تلبي طموحات شعوب المنطقة، فعملية التغيير مرهونة بنشاط جماهيري كبير لإعادة التأسيس لشكل وحدود، فضلا عن بنية ووظيفة الدول القائمة. لأنه من الخطأ الاستسلام للخطاب الذي يروج أن الوقت لم يحن للتغيير، وأن الظروف غير ملائمة لتغيير جذري في البنى السلطوية القائمة. فالاستسلام لهذه الفرضية تشجع هذه الحكومات مستقبلا للتآمر من جديد على مصير هذا الجيل الذي طالب بالتغيير والعدالة، هذا الجيل الذي ناضل وضحى من أجل بناء شرق أوسط جديد، مدني وديمقراطي. حيث ان الديمقراطية وليدة الاستقلال، سواء على المستوى الاجتماعي – الفردي أو المستوى القومي.
باختصار لم يبق أما الطلائع الثورية والقوى الساعية لتحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي في دول المنطقة إلا التركز على الاستمرار في المطالبة بالتغيير وأن تنوعت الطرق والأساليب، كدعم الجهود الكوردستانية لترجمة هذا الحراك الشعبي إلى واقع دستوري وعملية تغيير كبرى على أرض الواقع، فبدون تغيير هيكلية دولة العراق  والتأسيس لشركات جديدة، ستذهب كل هذه التضحيات وتتناثر بدون ترجمتها الى حقوق وانجازات سياسية.
  بهذا المعنى يعد الاستفتاء في جوهره حراك سياسي يختزل جهود القوى المطالبة بالتغيير، يستجيب لطموحات كل المكونات التي ظلمت من سياسات الحكم السابق سواء في العراق أم في سورية، لذلك، إن لم تحصل كوردستان العراق على المزيد من الحقوق السياسية بما فيه الاستقلال، فإن الشعوب والمكونات الأخرى في سورية العراق ستحصل على الخيبة وسيتراجع موقعها السياسي إلى مرحلة ما قبل 2011 وخاصة العرب السنة والمسيحيين الذين دفعوا ضريبة باهظة لمجمل الحراك الشعبي الذي حصل وكذلك للحرب القائمة على الإرهاب.
 ينبغي لكل القوى السياسية والفعاليات الداعمة لعملية التغيير السياسي في الشرق الأوسط أن تدعم بقوة عملية الاستفاء على استقلال إقليم كوردستان العراق، ليس لأنه هدف مباشر من أهدافها ومدرج في برامجها،  بل لأن تجربة إقليم كوردستان العراق هي التجربة – المشروع الوحيد الذي يمكن أن تقدمه شعوب المنطقة كنموذج ودليل على قدرتها على إنجاز ما هو أفضل من أنظمة الحكم القائمة، إذ أنها العملية التغييرية الوحيدة الممكن أن تستمر ومعها يتم تأمين بيئة التغيير الديمقراطي في دولنا التي بدأ يخطط لها لتتحمل ما هو أسوأ، أي: (أن مجتمعاتها عاجزة أن تقدم أكثر مما قدمته في السنوات القليلة القادمة، وأن الفوضى والإرهاب مرافق لمطالب تغيير نظم الحكم المستبدة القائمة).
خلاصة القول إن الحمولة السياسية التي تحملها وتستجرها عملية الاستفتاء في إقليم كوردستان العراق متنوعة وكبيرة، فهي أكبر بكثير من المستقبل السياسي لكوردستان العراق وطبيعة العلاقة مع بغداد، لأنه مشروع يتوج مسار العملية السياسية للسنوات العشرون الماضية، سعي يختزل ويكثف نضال وتضحيات أبناء شعوب المنطقة جميعا في سبيل التعددية والديمقراطية والإصلاح، إنها آخر الخطوات المهمة والفعالة في مقاومة استبداد وكولونيالية أنظمة الحكم في الدول الأربعة المعنية بالملف الكوردي،  حيث بات الاستفتاء السبيل الوحيد والفعالية الممكنة للتأسيس لشرق أوسط جديد وعادل، يؤمن الديمقراطية، المساواة والرفاه لكل مكوناتها ومواطنيها. يشكل الاستفتاء ضمن الظروف المشخصة لطبيعة المرحلة آخر محاولات تغيير الواقع السياسي الظالم والفاسد، آخر خنادق مقاومة جور الحكام. وإلا ما معنى أن يعادي ويقف في وجه الاستفتاء عدد من العواصم الشرقأوسطية والغربية، وخاصة طهران وأنقرة، دمشق قبل بغداد؟
———————-
المصدر: رووداو

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…