إن المتانة الفكرية ، والتعمق المعرفي ، والتوسع في مجالات العلوم المختلفة ، تحتل مكانة رائدة في حياة الدول والمجتمعات ، وهنا لا يفوتنا من التذكير من أن التوسع المعرفي لابد له أن يترافق مع التراكم المالي، ليشكل هذه وذاك ـ المعرفة والمال ـ قوة تفضي بالضرورة إلى السيادة .
من هنا تأتي فرضية وجوب إبلاء الأهمية اللازمة للتنمية البشرية ، وإتاحة المجال أمام الإنسان ، بل توفير المستلزمات التي تمكن الجماعات البشرية من الإقبال والاستزادة من مناهل العلوم المختلفة .
يقول بيتر آبيلار أحد رواد النهضة الأوربية الأوائل : ” المعرفة تعني فهم حقيقة الأشياء ” أي أن المعرفة تقودنا إلى تلمس طريق الحقيقة أي الطريق الصحيح ؛ لهذا نرى أن كثيرا من الناس يخططون لمستقبلهم ويهدفون لتطلعاتهم على هدي أفكارهم.
إن الفكر كنشاط ذهني، يواكب التحولات المختلفة ، ويتميز المفكر عادة بالقدرة الذهنية على التفكير واستكشاف رؤى وحقول بائرة ، وسبر مجاهل غير مطروقة أو غير مذللة ، وصوغ الأفكار ورسم خريطة الطريق في ضوء ذلك .
لقد كان للنهضة الأوربية شأن كبير ، فالنهضة الفكرية والثقافية ، استحوذت على عقول ملايين البشر، أثمرت فيما أثمرت عن حركة الإصلاح الديني، فكان تحجيم دور الكنيسة ، وصار بمقدور الإنسان العادي بعد اكتشاف الطباعة، من تأويل النص حسب رؤيته الفكرية وقناعا ته دون مرجعية الكنيسة المحتكرة للتأويل ، والمحتكرة ـ بالتالي ـ للحقيقة ، هذا ما حدا مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي من القول في الطباعة : ” إنها أسمى فضائل الرب على عباده ” أي أنها قضت على الحكر ، فلم تقتصر الحقيقة والتأويل على فئة براغماية وحدها ، وعلى أثر هذه النهضة ، صار ينظر إلى الإنسان بوصفه كائنا حيا مستقلا له كيانه ، وبمقدوره أن يتجاوز عجزه فيما لو دخل في تحالف مع الآخرين …
تصوروا العالم اليوم بدون أوربا ، دون نهضتها ، لا شك ، لكنا فرائس سهلة في براثن المشعوذين ، يتحكمون فينا بشرائعهم البدائية ، ونركن بالتالي صاغرين لمشيئتهم ، لننوء تحت كلكل التاريخ من جديد ، لكن المعروف عن التاريخ ، وهذا الذي يحيي فينا الأمل ؛ فالتاريخ ـ رغم ذلك ـ يتلمس طريقه الصاعد أبدا ..
إن الفكر النقدي العقلاني المرتكز على العلم أساسا هو الذي يحرض على الانكباب على العلم بمختلف فروعه ، كما إن الفكر يغتني بالاكتشافات العلمية ، ويتسلح به لأن الفكر مع ثمراته من الإنجازات العلمية تشكل عناصر فعالة في عملية التحويل الاجتماعي كونها تشكل قوى ثورية ، إن المعرفة بمنجزاتها العلمية تقود إلى الثورة ، إنها تثور الناس ، وسبق أن استشهدنا في مقالات سابقة كيف أن ماركس كان يقارن المنجز العلمي بقادة ثوريين من حيث تأثيرهم في الحركات السياسية ، والتحولات الاجتماعية ، إن المعرفة تقود إلى الثورة ، تثّور الناس لأنها تنشد الحقيقة العلمية ، والحقيقة دوما ثورية بتعبير ماركس، ولنهرو تعبير وجيه بهذا المنحى في وصفه للعلم حيث يقول : ” على امتداد التاريخ كله ما من شيء ثور الحياة البشرية كما فعل العلم ” وتفسير ذلك ، لما كانت التكنولوجيا هي ثمرة العلم وتجسيدا له ، فإن تطور الآلات والمكائن يقضي على بعثرة الأعمال الحرفية ، ويفسح المجال أمام تجمع العاملين في المشاغل والمصانع الكبيرة ، فتدفعهم غريزتهم ، واحتكاكهم بالآلة المتطورة ، وإحساسهم بتلاقي مصالحهم ، يدفعهم هذا إلى التوحـد والتلاقي في تنظيمات وروابط ليشكلوا بالتالي قوة مؤثرة فاعلة تنزع إلى تغيير العلاقات الاجتماعية القائمــة والجائرة بحقهم .
فضلا عن ذلك فإن غاية المعرفة هي تحسين حياة الناس ماديا وروحيا ..
إن التطور المضطرد للتكنولوجيا يساعد على راحة الإنسان ، وتنوب عنه في كثير من الأعمال ، فيختزل المنجز العلمي أعماله ليبقي لديه متسعا من أوقات الفراغ ، يمكن له أن يغني نفسه روحيا وعاطفيا وجماليا ..كما أن التكنولوجيا تساعد المرأة كثيرا في التحرر ” من عبودية الأعباء المنزلية ” ..
إن العلم هو العدو الدائم والمثابر للمنظومات الفكرية المغلقة ، مهما أجمعت على صحتها العقول الغابرة ، لأن الشك هو طبيعة المنهج العلمي المثابر أبدا ، من هنا تأتي عداوة العلم للأنظمة الاستبدادية التقليدية المحافظة ، أو بمعنى آخر إن الأنظمة التسلطية ترى في العلم عدوا لها ، لأن شر ما يفزع تلك الأنظمة ما يتركه العلم من تأثير في وعي الناس وبالتالي في أي حراك اجتماعي يهدد كيان الدولة النمطية المحافظة وبالتالي تفردها في الهيمنة .
لهذا تسعى تلك الأنظمة للحد من الحريات لاسيما في الفكر والتعبير الحر ، دون أن ننسى أنه في ظل الحريات الديمقراطية ينشط الفكر العقلاني ويندار نحو العلمانية بعيدا عن الغيبيات وأساطير الأولين ..
لقد غدا اليوم من بين مقاييس التطور لأي بلد هو درجة التنمية البشرية ، لهذا تبرز أهمية العلم كعدو تقليدي للطبقات الاستغلالية ، فإن أي نظام ينشد التطور والتنمية لا بد له من استثمار الطاقات الفكرية لدى أبناء البلاد لمواجهة التحديات ، وعلى الدولة ألا تقسر هؤلاء على العمل السياسي في إطار ضيق محدد ومرسوم له تحت خيمة الدولة، بل على العكس على الدولة أن تفسح له المتسع كله في حرية التفكير حتى لو كانت في حالة من التغاير والمعارضة ، لما في ذلك من غنى للفكر، وقربا للصواب والحقيقة المنشودة …
من نافل القول وعلى سبيل المفارقة ، التذكير بابن رشد والتنويه بأن فلسفته عدت رافدا قويا في إغناء وتطوير الفلسفة الأوربية، في حين كان العرب يحرقون كتبه ، واعتبار الاشتغال بالفلسفة إثما عظيما ، فقد أمر الخليفة المنصور في القرن الثاني عشر بالابتعاد عن الفلسفة ، وإحراق كتب الفلاسفة ، تجاوبا مع العقلية السائدة ، ونزولا عند دعوة الفقهاء المتنفذين ذوي السلطة الروحية ، الذين أوغروا صدر الخليفة ضد فلسفة ابن رشد ويبدو أن الفكرة أعجبت أو استطابت لأصحاب الشأن فامتدت الحالة نحو سبعة قرون ، ليفيقوا من غيهم وسباتهم بعد هذه الحقبة الطويلة تحت ضربات مدافع نابليون بونابرت ..
لقد تبين أن العرب أو من يتكلمون بالعربية ويكتبون من شعوب الشرق الأوسط ، هم الذين استحوذوا على التراث العلمي اليوناني ، وكانوا في الفترة ما بين القرن الثامن حتى نهاية القرن الرابع عشر يتقدمون على ما يرجح على الغرب والصين في مختلف العلوم ، لكن لا العرب ولا تلك الشعوب التي كتبت بالعربية ، أو تكلمت بالعربية ، استطاعت أن تنجب العلم الحديث ، وبدأ تراجع الفكر العلمي عند شعوب المنطقة الإسلامية والعربية بعد القرن الثالث عشر …
هكذا لعب العرب دورهم ، نجحوا في البداية ، وخسروا في النهاية ، أليس حريا بالنظم العربية أن تعتبر؟