د. ولات ح محمد
أثار القرار الأمريكي الذي صدر الشهر الماضي والقاضي بتسليح وحدات حماية الشعب ypg ردود أفعال مختلفة، فأنصار حزب الاتحاد الديمقراطي pyd وجدوا فيه خطوة تاريخية واعترافاً بهم وبعملهم وترسيخاً لشؤون إدارتهم الذاتية، أما خصوم pyd السياسيون من الكورد فعدّوا ذلك القرار تشجيعاً للحزب على ارتكاب المزيد من القمع والإقصاء بحق المختلفين معه من الكورد تحديداً، وطالبوا الإدارة الأمريكية بإعادة النظر في قرارها. أما الحكومة التركية فاعتبرت هذا الإجراء “خطأ كبيراً” من الإدارة الأمريكية وطالبتها بتصحيحه. أما موسكو فقد رأت ألا مسوغ لهذه الخطوة الأمريكية.
وسط كل هذه الرؤى المتباينة هل يمكن النظر إلى قرار التسليح هذا من زاوية أخرى مختلفة عما يبدو للعيان؟. لمعرفة دوافع الإدارة الأمريكية لاتخاذ قرار التسليح المباشر والمعلن لـ ypg ينبغي البحث عما سيتحقق لها من مصالح وأهداف من وراء هذا القرار بداية، ثم البحث عما سيحدثه هذا القرار من أثر إيجابي في المشهد السياسي الكوردي لاحقاً.
مكاسب التسليح أمريكياً
بالنظر إلى قضايا المنطقة والأطراف الفاعلة فيها وما يمتلكه كل طرف من قوة على الأرض وإلى موقع أمريكا وسط كل ذلك وتطلعاتها يمكن القول إن الإدارة الأمريكية اتخذت ها القرار لحاجتها إلى تلك القوة راهناً ولاحقاً لاعتبارات عدة؛ فمن جهة ستلبي هذه الوحدات حاجة الأمريكان إلى القوة المطلوبة في حربهم على الإرهاب في سوريا، إذ تكاد تكون القوة الوحيدة التي تثق بها الإدارة وتتعاون معها بعد أن أثبتت جدارة قتالية وقدرة على مسك الأرض ورغبة في الذهاب حتى النهاية في محاربة داعش. ولذلك قد تتخذ واشنطن فيما بعد من هذه الوحدات القوة التي ستمكنها من تثبيت موطئ قدم لها في المنطقة، والتي من دونها ستجد صعوبة في تحقيق ذلك في ظل وجود مليشيات كثيرة تابعة للاعبين الآخرين الفاعلين في المشهد السوري.
إضافة إلى محاربة داعش قد تجعل واشنطن من تسليح ypg وتقويتها عامل ضغط على حليفتها تركيا؛ فهي من جهة ستعمل على دعم هذه الوحدات وتسليحها وحمايتها لتتمكن من كسب المزيد من الجغرافيا والاحتفاظ بها وإنشاء منطقة نفوذ وإدارتها بعد هزيمة داعش. ومن جهة ثانية ستجعل منها عامل قلق وضغط وتوتر بالنسبة إلى تركيا بغية إخضاعها لشروطها لا إيذائها؛ فغاية واشنطن هي تعزيز نفوذها في المنطقة دون عوائق من شروط واعتراضات أو مزاحمة من تركيا التي تريدها واشنطن إلى جانبها أو خلفها لا أن تقف في وجهها. وعملية التسليح في أحد جوانبها تخدم هذا الهدف.
على المحور الإيراني صرحت الإدارة الأمريكية بأنها ستعمل مع أصدقائها على إضعاف الدور الإيراني في المنطقة، وقد عبر مسؤولون أمريكيون وخليجيون صراحة عن ذلك، خصوصاً عقب القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي بالعاهل السعودي وبقادة أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية في الرياض، إذ قال ترامب إن عليهم جميعاً التعاون من أجل تقليص دور إيران في المنطقة متهماً إياها بدعم الإرهاب وإثارة المشاكل وزعزعة الاستقرار. ولتحقيق ذلك قامت واشنطن حتى الآن بمجموعة من الإجراءات منها مطالبتها روسيا بـ”كبح جماح حليفيها السوري والإيراني ووكلاء هذا الأخير في المنطقة”، وكذلك مطالبة بغداد بتسريح حوالي 800 ضابط من قوات الدفاع والداخلية العراقية والحشد الشعبي لأنهم “يعملون بأجندة إيرانية”. ومنها كذلك منع ميليشيات الحشد الشعبي العراقية الموالية لإيران من فتح ممر بري بين طهران والساحل السوري مروراً بالشريط الشمالي لسوريا عبر شنكال العراقية ثم مواجهة تلك المليشيات في معبر التنف للغاية ذاتها.
من هنا تساعد عملية التسليح واشنطن في مهمة تحجيم إيران؛ فحزب الاتحاد الديمقراطي (السوري) يوصف من قبل خصومه بأنه الفرع السوري لحزب العمال الكوردستاني (التركي) على الرغم من النفي المستمر من طرف قيادات الحزبين بهذا الخصوص. ويبدو أن الأمريكان مقتنعون بهذا وإن صرحوا بعكس ذلك؛ فقد ذهب الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز كايلي اورتن KYLE W. ORTON في مقال له إلى أنه “على الرغم من أن YPG ينكر وجود صلة تنظيمية له بـ PKK ، إلا أن الواقع هو أن PKK يمارس سلطته خلف الكواليس في المناطق التي يسيطر عليها PYD و YPG “. كما أن منظومة حزب العمال الكوردستاني (بما فيها pyd و ypg) متهمة بأنها على تنسيق مستمر مع دمشق وطهران. وبغية إضعاف إيران في المنطقة فإن واشنطن بحاجة إلى تجريدها من كل ما يمكن أن يكون لها عامل قوة ونفوذ.
في هذا السياق يمكن فهم عملية تسليح ypg في إحدى وظائفها بأنها إجراء أمريكي لإضعاف الدور الإيراني في المنطقة، إذ ستتحول تلك الوحدات من قوة كانت طهران تعول عليها في دور ما إلى قوة موالية بالمطلق لأمريكا ومتضادة مع الأجندة الإيرانية ومتصادمة معها، وفي ذلك مكسب أمريكي كبير. ولكن حتى تحقيق ذلك كان عليها توفير أمرين اثنين: الأول هو تزويد الحزب وقواته بالسلاح المطلوب (وهذا ما حصل)، والثاني هو توفير الحماية لتلك القوات ضد أي رد فعل انتقامي قد يفكر فيه النظامان الإيراني والسوري (كما حصل في الطبقة مؤخراً حينما حاول طيران النظام قصف قوات سوريا الديمقراطية فقامت قوات التحالف بإسقاط الطائرة السورية). وقد صدرت تصريحات في الآونة الأخيرة من قيادات في pyd و ypg قد تكون مؤشراً على هذا التحول في المواقف والمواقع بعد إعلان عملية التسليح. ويمكن إجمال المكاسب الأمريكية من هذه العملية في النقاط الآتية:
ـ القدرة على محاربة الإرهاب وهزيمته بوصفه ملفاً أساسياً لواشنطن في المنطقة يجب إنجازه.
ـ كسب قوة سورية منظمة على الأرض إلى جانبها للعمل معها في المستقبل من أجل تأمين مناطق نفوذها وإدارتها.
ـ تجريد إيران من قوة كانت تعول عليها، ومواجهة نفوذها بتلك القوة ذاتها. وفي ذلك إرضاء لحليفتها تركيا أيضاً.
ـ إبقاء تركيا تحت الضغط بسبب وجود تلك القوة لتقديم التنازلات عند اللزوم.
مكاسب التسليح كوردياً
إذا كان الأمريكان سيجنون كل هذه الثمار من عملية التسليح فما الذي سيجنيه الكورد وكيف ستكون صورة المشهد السياسي كوردياً بعد داعش؟. الجواب على هذا السؤال يستند إلى مسلَّمتين أساسيتين: الأولى أن أمريكا لن تغادر المنطقة في اليوم التالي لهزيمة داعش ولن تتركها لخصميها روسيا وإيران على طبق من ذهب (وما القواعد والمطارات العسكرية التي أنشأتها في منطقتي الجزيرة وكوباني إلا دليلاً على بقائها في المدى المتوسط على الأقل). أما الثانية فهي أن ypg التي تسلحها واشنطن لن تتحالف أو تنسق مع خصومها ضدها. وما دامت واشنطن باقية فإنها ستبقى بحاجة إلى هذه القوات لأنها بعد هزيمة داعش ستسعى لإقامة منطقة نفوذ لها في سوريا مقابل مناطق نفوذ الدول الأخرى. ولإنجاح ذلك ستحتاج إلى أمرين: الأول إدارة مدنية مستقرة، ولذلك ستحرص على إشراك الجميع فيها بعد أن تعمل على التقريب بين الكتل الكوردية المختلفة لتشكيل تلك الإدارة. أما الأمر الثاني فهو قوة عسكرية تحافظ على أمن المنطقة واستقرارها، وهو ما ستفعله واشنطن بإدخال بيشمركة (روج) إلى غرب كوردستان ودمجها مع وحدات حماية الشعب التي قامت بتسليحها بغية تشكيل قوة عسكرية وأمنية موحدة وعلى أسس جديدة وبذهنية وأجندة مختلفة تماماً عما سبق لتكون قادرة على القيام بمهامها الجديدة وغير معادية لحليفتها تركيا. وبذلك تكون قد حققت التوازن الصعب في حده الأدنى بين مصالح كل من واشنطن وأنقرة.
بعد تقريب الأطراف وتشكيل إدارة موحدة قد تعمل واشنطن في مرحلة لاحقة على فتح الحدود بين غرب كوردستان جنوبها وتنشيط العلاقات بينهما حتى لا يتعرضا لحصار اقتصادي سواء من تركيا أم من إيران أم من الحكومة العراقية، أو ربما لإقامة فيديرالية من نوع ما بين الإقليمين؛ فقد يكون ذلك أقل تكلفة بالنسبة لها وأفضل كذلك لحليفتها تركيا من الاستقلال الذي يطالب به إقليم كوردستان العراق. ويمكن إجمال المكاسب الكوردية من عملية التسليح في النقاط الآتية:
ـ سهولة قيام أمريكا بعملية تقريب بين الأطراف الكوردية السورية بعدما صارت قريبة من الجميع، وبعدما صار الجميع يثقون بها. وهي الخطوة التي تبدو مستحيلة حتى هذه اللحظة بدون مبادرة أمريكية.
ـ تشكيل قوة كوردية موحدة تحظى بثقة الجميع وقادرة على أن تحدث فرقاً في السياسة أيضاً، وذلك بعد إدخال بيشمركة (روج) وإجراء دمج بينها وبين وحدات حماية الشعب.
ـ إمكانية إنشاء إقليم كوردي سوري يتمتع بحكم ذاتي وإدارة موحدة سياسياً وعسكرياً على غرار إقليم كوردستان العراق.
ـ إمكانية التقريب بين حكومة إقليم كوردستان وإدارة غرب كوردستان بعدما صار الجميع حلفاء أمريكا، وهو الإنجاز الذي لطالما حلم الكورد بتحقيقه. وإن حصل فسيكون له أثر كبير في مسار القضية الكوردية برمتها.
ـ إمكانية إقامة اتحاد فيدرالي بين الإقليمين الكورديين العراقي والسوري.
بهذا المعنى وإذا صحت هذه القراءة فإن مفتاح كل هذا التقدم هو قرار التسليح الأمريكي لـ ypg الذي يمكن أن يكون بمثابة الدواء للكثير من العلل التي اعترت جسد الحركة الكوردية خلال السنوات الماضية، وما كان لها أن تتعالج إلا بقرار استراتيجي أمريكي بعيد النظر وبعيد المدى ومتعدد الأهداف والمقاصد كقرار التسليح هذا. ولكن حتى تحين تلك الساعة يبدو أن الصراع سيبقى بين pyd وباقي الأطراف الكوردية على حاله حتى يفرغ الراعي الأمريكي من معركة داعش ويصدر تعليماته بضرورة بدء مرحلة جديدة وعلى أسس جديدة ولغايات مختلفة وبمشاركة الجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: يمكن قراءة هذا المقال بوصفه رداً على تصريحات السفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد التي وصف فيها قرار التسليح الأمريكي للكورد بـ”الخطأ القاتل”، ورأى أن “الكورد يرتكبون خطأ كبيراً عندما يثقون بالأمريكيين”، لأن الأمريكيين سيخونونهم وسيتخلون عنهم (حسب قوله) بعد هزيمة داعش وسيتركونهم فريسة سهلة لتركيا وإيران وسوريا. وقال إن قوات الحكومة السورية ستذهب إلى قامشلي للقضاء عليهم.