أحمد إسماعيل اسماعيل
كما أن الهدوء يسبق العاصفة وينذر بها، وشدة العطش وجفاف العين مثلاً ينذران بمرض السكري، كذلك الحال بالنسبة للكذب، الذي يسبق أمراضاً كثيرة، نفسية واجتماعية، بل وسياسية، يسبقها وينذر بأزماتها، ولقد حذرت الشرائع السماوية، وقبلها الحكمة لدى الشعوب القديمة، من خطورة هذا النوع من الأعراض، ولقد عدَّه الإسلام من علامات الساعة، وحَرََمَ صاحبه من الهداية (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) سورة غافر الآية 28.
وبعيداً عن الكذب المرضي، الذي يصيب الأطفال بشكل خاص، أو الكذب المقصود لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين. فإن الكذب يُعد فعلاً من أهم وأخطر علامات ساعة أي مجال أو حياة. ولذلك تجده يظهر كوباء، وينتشر كطاعون في مجتمعات يحكمها ملوك قتلوا الشرعية، واعتلوا العرش ولوثوا الشرف.
ففي هذه المجتمعات يكذب المضَّطهد خشية عقاب من يضطهده وخوفاً منه، ويلجاً المضِطهد بدوره إلى الكذب، بوصفه سلاحاً مرادفاً للعنف، ليضمن دوام سيطرته على من يستغلهم. وبذلك يتواطأ المجتمع بكل مكوناته، افراداً وجماعات، على قبول الكذب، ليصبح ملحها، وليس ملح الرجال وحسب، في حالة أشبه بحكاية نهر الجنون التي يضطر الملك فيها إلى الشرب منه مثلما فعلت رعيته، خشية تمردها عليه بحجة عدم سلامة عقله.
وإذا كان هدف من يلجأ إلى الكذب هو إيقاع الأذى بالآخر، بهذا القدر أو ذاك، فإن الكاذب، فرداً كان أم جماعة أو سلطة، ليس بمنأى عن تبعات كذبه، إذ سرعان ما يقع هو الآخر ضحية ما اقترفه، ليصبح الجاني والضحية في الوقت ذاته، فمن الصعب ممارسة الكذب على الآخرين، كما تؤكد الألمانية حنة أرندت في مقال لها بعنوان “السياسة والحقيقة”، دون الكذب على الذات، وبقدر ما ينجح كذاب في كذبه، تتابع أرندت، بقدر ما يكبر الاحتمال بأن يصبح هو الآخر ضحية الأكاذيب التي يُقدم هو بنفسه على اختراعها. إذ أن الآخر، المكذوب عليه، سرعان ما يتعامل مع الكاذب بصفته الجديدة المتبناة، لا الحقيقية، يرافق ذلك عملية امحاء، ذاتي وموضوعي، لمكونات شخصية الكاذب وخصائصها، وتلك أولى عمليات التدمير الذاتي لهويته وشخصيته، وبداية تحول الجاني إلى ضحية.
وفي مقابل وقاحة الفرد في ممارسة الكذب، يتجسد الكذب في مجتمع القهر بشكل ممنهج، وذلك وفق لوائح وضوابط تضعها وتحرسها أنظمته الاستبدادية أو أحزابه الشمولية.
ولقد وجد الكذب في هذه البيئة خير حاضنة له، ليدخل في خبز السياسة، ممتزجاً به، أو بها، امتزاج الماء بالطحين.
في روايته البديعة 1984 يورد الروائي البريطاني جورج أورويل عبارات ويرسم مشاهد تكشف طبيعة الكذب الذي يمارسه الحزب الشمولي وتداعياته الكارثية على الفرد والمجتمع، ففي ص 251 نقرأ:(…لا بدّ لعضو الحزب أن يكذب متعمداً وهو يؤمن في قرارة نفسه بكذبه، وأن ينسى أي حقيقة باتت غير ملائمة… ومن الضروري أن يمارس ازدواجية التفكير، ذلك أن المرء باستعماله هذه العبارة، إنما يعترف بأنه يتلاعب بالحقائق أجمع، كل مرة يلجأ فيها المرء لازدواجية التفكير (طمس الحقيقة) فإنه يطمس معرفة ما، وهكذا دواليك حتى تتراكم الأكاذيب وتجثم فوق الحقيقة…)
وكما في الرواية المذكورة، وفي واقع حال بلداننا الشرق أوسطية، فإن ماكينة السلطات المستبدة، والأحزاب التي على شاكلتها، الشمولية، اليسارية منها واليمينية على حدّ سواء، لا تنتج الأكاذيب للاستهلاك الفردي، المؤيد أو المعارض، وحسب، ولا للاستهلاك في الزمن الحاضر فقط، بل، وهذه ظاهرة عجيبة تتحدى نواميس الطبيعة وقوانين العلم ومبادئه، تنتجها من أجل الماضي أيضاً. وذلك من خلال إنكارها فعل تاريخي أو دور شخصية أو حتى وجودها، بل حتى وجود شعب، كمقدمة لممارسة العنف تجاه هذا الهدف ومن ثم تدميره. وهو عمل منظم ومدروس وليس طارئاً أو ردَّ فعل آني.
يخبرنا تاريخ الشرق القديم إن الفرس الاخمينيين كان لهم قصب السبق في هذا المجال، وذلك حين قامت إمارة برسا الفارسية بقيادة كورش بنشر الأكاذيب أو تضخيمها حول آخر ملوك امبراطورية ميديا التي كانت برسا تابعة لها، وجعلت منه وحشاً من أكلة لحوم البشر ورؤوسهم، ثم انقضت عليه بعد أن لقت أكاذيبها تجاوباً لدى حاشيته التي كانت تهابه، وابتلعت مملكته واستحوذت على كل ما فيها، ومحت ذلك الحدث من التاريخ. لتكرر ذلك بعد زمن في صياغة تفاصيل صراع الخليفة علي بن أبي طالب وابنه الحسين مع خصومه الأمويين.
ولقد توسل كثير من الديكتاتوريين هذا الأسلوب في تعاملهم مع خصومهم. نجد ذلك مثلاً في مجريات الثورة الفرنسية وما فعله روبسبير بخصومه خير مثال، وكذلك في دفاتر الثورة البلشفية الروسية، ملهمة رواية جورج أورويل، وما أقدم عليه ستالين من تصفيات ضد معارضيه، وعلى رأس هؤلاء المفكر تروتسكي، الذي مهدَّ الدكتاتور لقتله الوحشي بالتشويه المنظم لسيرته وأفكاره. ولقد استعمل كل الطغاة هذه الوصفة كتميمة، وطبقوها مدعومة بتقنيات محكمة في صياغة الكذب وتسويقه، كالتقنية المكيافيلية التي تدعو صاحبها إلى النطق بالحقيقة بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون أنهم ليس عليهم تصديقها، وأنهم من الذكاء والفطنة بحيث يدركون متى وكيف يصدقون ما يروى لهم.
وإذا كانت موجة الديمقراطية في أوربا قد دفعت الكذب وما يتبعه من عنف بعيداً عن شواطئها، بعد أن قدمت ملايين القرابين البشرية في أزمان خلت ضحية هذه الآفة وأطماع صناعها، لينحصر الكذب في سياساتها الخارجية: كذب على الآخر، وكذب معه أيضاً. فإن بلداننا وشعوبنا ما تزال تجتر التجربة المريرة ذاتها منذ زمن بعيد، مذْ تسلم حكام وقادة غير شرعيين سدَّة الحكم، بكذبة كبيرة اسمها الثورة أو الانقلاب على عملاء الاستعمار ووكلائه من الحكام البرجوازيين، انداحت الكذبة واتسعت لتشمل مجالات الحياة كلها: أخبار الحرب وأحوال السلم، صادرات البلد ووارداته، ميزانية البلد والقوة الشرائية لعملته، حتى في أخبار الطقس، حسب وصف أحد الشعراء لهم، لم يصدقوا يوماً، فكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يمسي الكذب طاعوناً يعيشه المواطن ويتنفسه.
يكاد كل ما سبق من قول عن الكذب والساسة الكذابين أن يخص الأنظمة المستبدة والأحزاب الشمولية، أما أن تتوسل أحزاب وجماعات تزعم أنها معارضة لهذه الأنظمة الوسيلة ذاتها إلى حدّ التبني، وتشيع أكاذيب مماثلة لأكاذيب السلطات وأخرى من صنعها مثل: إن الأمة انبعثت يوم ولِد القائد الملهم والزعيم، أو ميلاد حزبه “الثورجي”! وإن خليفة شُوهد وهو يقاتل مع شيعته في حرب معاصرة! وإن النبي محمد يكافئ كل انتحاري على الأرض بمشاركته تناول الطعام في السماء!! ناهيك عن ممارسة التصفيات والقتل: قتل الرفاق بيد الرفاق، ثم إعلان أسماء هؤلاء الضحايا بصفتهم شهداء سقطوا دفاعاً عن الشرف والوطن، والتعتيم على الهدف الحقيقي للقتال. والتحالفات السرية مع جهات غير صديقة، وأكاذيب أخرى، صغيرة وكبيرة، يصعب حصرها ويطول ذكرها، ايقظت الفتن المذهبية والطائفية والعرقية.. وحتى الاجتماعية، إلى درجة أمسى فيها الجار لا يأمن جاره.
لابدَّ أن يكون ذلك كلّه من علامات الساعة: ليست ساعة أو قيامة نظام سياسي فقط؛ أو حاكم، أو حتى معارضة وحسب، بل ساعة ثقافة ومرحلة وجيل.
أمَّا الشعب فباق.
مجلة الجديد اللندنية العدد 30
تموز 2017