خوشناف سليمان
لم تكن سياسة ألمانيا الخارجية اتجاه تطلعات الكُرد نحو الإستقلال ودية في أي يوم مضى، وهي فرضية يمكن إثباتها من خلال عرض الوقائع التالية.
أثناء وبعد عملية تحرير العراق في عام 2003، أتخذ المستشار الألماني السابق غرهارد شرودر آنذاك، موقفاً مناهضاً لها، على الرغم من إن العملية قد أدت فيما أدت الى إنقاذ العراق من أشرس الديكتاتوريات في العالم. وكان موقفه مبني على أن العملية ستؤدي الى تفكيك وتقسيم الدولة العراقية، وأن الكُرد سيتوجهون نحو إعلان دولتهم المستقلة، مستنداً كما يبدو على قرار أتخذه الرئيس مسعود البرزاني، آنذاك بإستبدال العلم العراقي بالعلم الكردي في أقليم كوردستان.
وكان رد فعل الرئيس برزاني غاضبا، حيث أعرب في مقابلة له أمام صحيفة FAZ الألمانية الواسعة الإنتشار، عن إمتعاضه الشديد من الموقف الألماني السلبي إزاء عمليات التغيير في البلاد، حيث قال “إن ألمانيا تتحمل مسؤولية أخلاقية إتجاه الكُرد، وأن شركاتها هي التي أنتجت أسلحة وغازات كيمياوية سامة، أُستخدمت فيما بعد ضد شعبنا. رغم ذلك لم تقم ألمانيا بأية خطوة إيجابية بدعم حقوق الكُرد ومسألة الفيدرالية وقضية الديمقراطية في العراق الجديد، بل كانت الخارجية الألمانية تنتهج على الدوام سياسة غير ودية نحونا”. وتطرق الرئيس برزاني في هذا الصدد الى موقف مندوب ألمانيا أثناء مناقشة قرار مجلس الأمن الرقم 1564، حيث كان الوحيد الذي طالب بعدم جواز حضور وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بحجة إنه كُردي، لايمثل موقف الحكومة العراقية.
في الحقيقة وتأكيدا على ذلك، فقد ساهمت ألمانيا وبشكل فعال في تشييد وبناء مصانع الموت لصدام حسين، حيث كان نصيب الشركات الألمانية يمثل النسبة الأعظم من ناحية تقديم المعلومات التكنولوجية والعلمية اللازمة لإنتاج المواد السامة وإستخدامها فيما بعد من قبل النظام البائد ضد الشعب الكُردي.
وفي نفس السياق، يمكن هنا، التذكير بموقف المستشار الألماني الأسبق، هلموت كول، الذي قام بتقديم مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدرعات المصفحة الى حليفتها تركيا. وقد نال الشرطة والجيش التركي على أكبر نسبة من سلاح جيش ألمانيا الديمقراطية المنحل، حيث كان الأتراك يقومون بإستخدام تلك الأسلحة مباشرة في حربهم ضد السكان الكُرد المدنيين، وفي تدمير قراهم وتنفيذ عمليات النفي والتهجير القسري. وكانت وحدات خاصة تابعة للجيش التركي، تتلقى الدعم والتدريب العسكري اللازم من جانب القوات الألمانية الخاصة، والمعروفة إختصارا بـ“GSG-9″. أزاء ذلك، وبلهجة لا تخلو من التهكّم، صرح وزير خارجية ألمانيا ورئيس جهاز الأستخبارات الخارجية كلاوس كينكل آنذاك، “إن الحكومة الألمانية ليست على دراية فيما إذا كانت تركيا تستخدم أسلحة ألمانية”! وقد أثار ذلك ردود أفعال عنيفة لدى المثقفين الألمان، الذين طالبوا حكومتهم بوقف إمداد أنقرة بالسلاح. ويجدر بالذكر هنا موقف غونتر غراس، الأديب الألماني الحائز على جائزة نوبل للآداب، الذي وجه إنتقادات لاذعة لسياسة بلاده إتجاه الكُرد وتركيا متسائلا: “أعلينا أن نخجل من سلوك بلدنا؟ أنه عار كبير أن تسمح حكومتنا بأنشطة تجارية تجلب الموت والدمار للكُرد”.
حديثاً، وفي أول رد فعل له على مسألة إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان العراق بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول القادم، أدلى وزير خارجية ألمانيا، زيغمار غابرييل من الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD) بتصريح غير متجانس، جاء فيه “نحذر من اتخاذ خطوات أحادية الجانب في هذه القضية، وحدة العراق في خطر كبير، وأن إعادة رسم حدود الدولة ليس هو الطريق الصحيح”. في الحقيقة، لا يختلف هذا الموقف كثيرا من مواقف دول معادية للكُرد، مثل ايران وتركيا، وهو كذلك موقف مزدوج وغير ودي لطموحات أكبر شعب في العالم، محروم من دولة خاصة بهم، ويتناقض مع مبادئ وسياسات النظام الديمقراطي الغربي، القائمة على إحترام حقوق وحريات الشعوب. هذا الموقف يمكن بكل تأكيد إدراجه في خانة مبادئ الكيل بمكيالين أو ازدواجية المعايير، وهي سياسة ظالمة ومنتهكة لمبدأ الحياد. ففي الوقت الذي تدعم فيه ألمانيا، كوسوفو والشيشان وأفغانستان وفلسطين وغيرهم وتقدم لهم الدعم السياسي والإقتصادي والعسكري، تقوم بتبني مواقف غريبة ومتقلبة إتجاه “حلفائهم” الكُرد في الحرب على الارهاب! وهو على كل حال، نموذج ألماني فريد من نوعه في التعامل مع قضايا الشعوب. ولفهم وادراك كنه هذا النموذج، يمكن إجراء هذه المقاربة البسيطة. تقوم ألمانيا في كل زمان ومكان، بتقديم الإعتذار لاسرائيل على ماأقترفته ألمانيا النازية من آثام بحق الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، ويقدمون لهم تعويضات مالية ضخمة. وهو بحد ذاته موقف سليم ودليل عافية. ولكن في الحالة الكردية وعلى خلفية المساهمة الفعلية لألمانيا في تفاقم المأساة الكردية، لم تقم حتى هذه اللحظة بتقديم أدنى إعتذار لضحايا غازاتهم السامة وسلاحهم الفتاك، ناهيك عن تقديم تعويضات مالية للمتضررين الكُرد وعوائلهم! هذا السلوك المزدوج للسياسة الألمانية يتناقض مع مبادئ الحرية وتقاليد ديمقراطيتها العريقة. ويعرف الألمان قبل غيرهم أن إنجازاتهم كانت حصيلة نضال مضني وتضحيات جسيمة، وبأن الحرية لاتأتي من دون ثمن أو من الفراغ. فلماذا إذن إنكار الحق الكُردي في النضال لنيل الحرية والإستقلال وتثبيت الوجود؟ أنها معادلة بسيطة، لكنها عصية على الفهم، بسبب تعارضها مع مصالحهم الحيوية!
وعليه، كان الأجدر بمعالي الوزير غابرييل، وتيمّناً بـمواقف زملائه الأوروبيين، أن لا يتسرع في إتخاذ ذلك الموقف المعادي لتطلعات أصحابه الكُرد الصادقين، وذلك وفاءً لدماء شهداء أبنائهم، الذين ضحوا بحياتهم، كي يتنعم هو وشعبه بالأمن والسلام؛ أو على أقل تقدير، وهو أضعف ما يرجى منه، أن يصمت إن لم يجد خيرا يقوله.