جان كورد
الفكر، تحديد المفاهيم الأساسية المستنبطة من الفكر، تثبيت الأهداف وأولويات العمل لتحقيقها، الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع بنجاح ملموس. وهذا ما نسعى له ونأمل الوصول إليه من خلال ما نطرحه من رؤية متواضعة على كل الناشطين في حراكنا السياسي – الثقافي في غرب كوردستان وفي المهاجر.
مقدمة:
منذ اندلاع التظاهرات الشعبية الواسعة في عموم البلاد، عام 2011، والحركة السياسية الكوردية في غرب كوردستان في تصوراتٍ عن المرحلة الجديدة من نضالها في سوريا، وهذه التصورات اتخذت أشكالاً واقعية ومنها ما حف بها الخيال من كل الجهات،
فالواقعية منها، والتي يمكن تحويلها إلى محسوسات، تقول بأن سوريا ستسير على ذات الطريق الذي اختاره الشعب التونسي من قبل، وسيكون ثمة تغيير سياسي عميق في البلاد يشمل نظام الحكم القائم دون القضاء على إدارات ومؤسسات الدولة، وسيتم تقديم المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية إلى محاكمات عادلة، وإنهاء حكم العائلة الأسدية، وسيكون هناك لجان سورية وطنية مدعومة من المنظمات الدولية لكل أمرٍ ومشكلة، ثم سيكون لدى الشعب السوري دستور جديد وعصري قائم على أساس علمانية الدولة وتحييد الجيش والأجهزة الأمنية بعد تطهيرها من الفاسدين والمتسلقين والمجرمين، وسيتمتع الشعب الكوردي في ظل الدستور الوطني بممارسة حقوقه السياسية – الثقافية المشروعة، نظراً لوجود أطرافٍ وشخصياتٍ كثيرة في سوريا، مؤمنة بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ولربما يطول الوقت بعض الشيء، بين التغيير وتنفيذ خطط العمل صوب بناء البلاد على أسس سليمة وبمشاركةٍ من مختلف مكوناتها القومية والدينية، إلاّ أن هذا التصور كان مخيماً على أطراف وأجنحة حركتنا السياسية الكوردية، ويتضح لنا ذلك من مراجعة أدبيات الأحزاب ومقابلات قادتها وزعمائها، ومما كتبه السياسيون والمثقفون الأحرار بصدد ما بدأ يتحرك في سوريا، منذ أول انتفاضة لها بعد بدء ثورات الربيع العربي. ومن التصورات الخيالية المصحوبة بشحنات العاطفة ما كان يضعه الإسلاميون “المعتدلون” على الطاولة، أي البدء فوراً، كما حدث في مصر على أثر الثورة الشعبية ضد نظام حسني مبارك، بإعادة بناء الدولة على أسس دينية، كما جرى في إيران على أثر سقوط الشاه في عام 1980.
إلا أن ما حدث في سوريا قد اختلف تماماً عما جرى في إيران وفي مصر وفي تونس، وبدت تصورات الديموقراطيين السوريين والقوميين الكورد لا تقل خيالية عن تصورات الإخوان المسلمين السوريين، فالأوضاع في سوريا السائدة اليوم على الساحة، تحكي قصةً أخرى، وكأن كل السياسيين فشلوا في هندسة بناء المستقبل، فلا النظام تمكن من السيطرة على كامل الأرض السورية، رغم كل الوعود المعسولة التي كان يتشدق بها عملاؤه وأبواقه الإعلاميون، ومنها أن “الجيش العربي السوري سيقضي في أسابيع على الإرهابيين وسيعيد سلطة ومجد الدولة العربية رغماً عن أعداء العروبة وإن سوريا ستظل خندق المقاومة والمواجهة الأول ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية…”، ولا المعارضة الوطنية الديموقراطية، ومنها الحركة السياسية الكوردية، استطاعت دخول دمشق وطرد الأسد منها وتحقيق ما كانت لها من أهداف وتصورات مستقبلية، ولا المجتمع الدولي تمكن من مساعدة السوريين في وقف الحرب المدمرة فيما بينهم، ولا المتطرفون الإسلاميون، وعلى رأسهم أنصار القاعدة وأتباع تنظيم الدولة، توصلوا إلى تثبيت دعائم سلطتهم التي امتدت بسرعة مثيرة للتساؤلات في أراضي دولتين عربيتين (العراق وسوريا)… وبدت كل المشاريع التي طرحت حتى اليوم فاشلة وقائمة على أسس من الخيال السياسي، بل يسود شعور قوي بأن لا أحد بقادرٍ على وقف حمام الدم في سوريا، وإرغام القوى المتحاربة على الجلوس إلى بعضها بعضاً للخروج من هذه الأزمة التي دامت عدة سنوات، ضحى فيها الشعب السوري بما يملكه من قدرات وإمكانات وتراجع فيها على سلم الحضارة البشرية أشواطاً عن الشعوب الأخرى في سائر المجالات، وتحولت سوريا من خلال الحرب والتدمير إلى مناطق سيطرة متباينة من ناحية القوة والعقيدة السياسية، بل ثمة تقسيم ثقافي – اجتماعي، ينعكس على تربية الأطفال ويتعلم في ظل كل دائرة ثقافية طلاب المدارس ما يعاكس في كثيرٍ من جوانبه الذي يتعلمه طلاب الدائرة المجاورة، ففي شرق البلاد يتحكم ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالتعليم والتربية والاقتصاد، ويعمل على جعلها في خدمة مخططاته الإرهابية المدمرة، وفي الشمال ينشر حزب العمال الكوردستاني ثقافته الأممية التي وصلت إلى حد جعل مراسيم الدفن متفقة مع التعاليم الأوجلانية، ويمارس فيها سلوك لا علاقة له بالدين الذي تؤمن به غالبية الشعب الكوردي السنية، وبدأ تجنيد العجائز، وجعل الزواج الشرعي “زواجاً تشاركياً!” ومنع تعدد الزوجات، وفي غرب البلاد لايزال التمجيد بأفكار الطائفة التي صارت الآن جزءاً من مشروع التشييع الفارسي، الذي لا يؤمن أصلاً بالحدود ويسعى لنشر الخمينية في العالم الإسلامي أجمع، إضافةً إلى سيطرة فصائل الجيش السوري الحر والمنظمات المتطرفة على الاقتصاد والتعليم والتوجيه السياسي في جنوب البلاد وفي محافظة ادلب، فصارت سوريا مرتعاً لتنافر الآيديولوجيات وساحة لتقسيم ما كنا نسمية ب”الوحدة الوطنية”، فإذا بها بضاعةً نادرة وشعاراً انطفأت المشاعل من حوله.
بالتأكيد في أوضاعٍ كهذه، لا نستطيع وضع مخطط شامل ومتكامل أمام مختلف القوى والأحزاب السورية لوقف الحرب، والبدء بعمل سياسي واسع، فقد فشلت في ذلك المعارضة السورية بأسرها، كما فشل مجلس الأمن الدولي، ومؤتمرات جنيف والأستانة، والدولتان العظيمتان: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، إلا أننا سنحاول قدر الإمكان الاقتراب من واقع الحركة السياسية الكوردية في غرب كوردستان، التي لا تزال وكانت دائماً تعتبر نفسها جزءاً من قوى المجتمع السوري وتناضل بينها ومعها، رغم الكثير من التحديات والمشاكل، وأبرزها عدم جدية العديد من الزعامات المعارضة في أخذ الموضوع الكوردي السوري بعين الاعتبار، بل ثمة من لا يختلف إزاءه في شيءً من سياسته عن سياسة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان صهر الشعب الكوردي وتذويبه في بوتقة القومية العربية جزءاً لا يتجزأ من برنامجه الفاشي، وكان تعريب الكورد طوال حكم البعث مرغوباً من قبل اليسار العربي إجمالاً، ومنه الحزب الشيوعي السوري، ومن قبل الإخوان المسلمين، على حدٍ سواء، بل كان يساهم فيه العديد من زعماء المعارضة “الوطنية والديموقراطية” الذين يفعلون المستحيل الآن للجلوس على عرش سوريا، بعد التخلص من نظام الأسد، ومنهم من لا يقل عنصرية وعنجهية وغلظةً في التعامل مع قضية الشعب الكوردي عن النازية حيال اليهود، ليس في سوريا فحسب وإنما في البلدان الأخرى التي تقتسم مع سوريا أرض الكورد “كوردستان”.
ومن خلال اقترابنا من واقع الحراك السياسي – الثقافي الكوردي في سوريا، سنتمكن من التطرّق إلى أسباب ظهور ونشوء هذا الحراك أصلاً، والأسباب التي أضعفته وأرهقته ومزقته، والسعي لتحديد مكامن القوة في هذا الحراك، ووضع اللبنات الأساسية لمهمات المرحلة الحاضرة التي على هذا الحراك القيام بها، ومدى تمكن هذا الحراك في التأثير الإيجابي والمفيد في مجمل السياسة الوطنية للشعب السوري وفي التقريب بين المتنافرات السورية، سياسياً وثقافياً، والحد من طغيان الفكر الطائفي وتضييق الشرخ بين المكونات القومية والدينية، ومن ثم وضع خطة ملائمة لتحقيق ما نبتغيه من هكذا عمل، يجب ألا يخضع لمؤثرات التحزّب السلبية والضارة، وكيفية تطبيق أو تنفيذ الخطة التي بدونها لا يمكن تحقيق ما هو ضروري لكل الأعمال، وللعمل السياسي بالدرجة الأولى، إذ لم تقم الحضارة الأوربية إلا على أيدي المفكرين والعلماء والمثقفين، الذين أخذ السياسيون والاقتصاديون والمهندسين والأطباء والصناعيون والاجتماعيون أفكارهم الثمينة عنهم، ووضعوا الخطط الكفيلة لتحقيق الأهداف التي نبشوها في مجلدات الفكر العظيمة وتمكنوا رغم كل الحروب والتحديات من بناء أوروبا يفتخر بإنجازاتها مواطنوها من مختلف الأقوام والشعوب.
الفكر، تحديد المفاهيم الأساسية للفكر، تثبيت الأهداف وأولويات العمل لتحقيقها، الخطط التي يجب وضعها للخروج من المشروع بنجاح ملموس. وهذا ما نسعى له ونأمل الوصول إليه من خلال ما نطرحه على كل الناشطين في حراكنا السياسي – الثقافي في غرب كوردستان وفي المهاجر.
31 أيار، 2017
((يتبع))