كشك الجوازات

ياسر عباس الياس
كان الجواز الجديد الذي استصدرته من سفارة دولتي يحتوي على لصاقةتمديد بائسة، مدة صلاحيته أقل من سنتين (سنةوأحدعشرشهرا).
وكان المبلغ الذي دفعته للحصول عليه يكفي لشراء ثلاثين خرطوشا من الرصاص؛ كفيلة بإزهاق أرواح قبيلة من البشر في سوريا المغيبة المنسية المرمية      على قارعة التجاهل والصمت والسكوت.
وبسبب هذه الصلاحية المحدودة للجواز؛ والتي لا يعرف مثيل لها في تاريخ الشعوب السياسي في عصرنا الراهن فقد دقت الداخلية الكويتية الإقامة على سنة واحدة لكن هذه اللصاقة كما قيل لي من بعض الإخوان عن تجربة بأن غالبية مطارات الدول لا تعترف بها، ولاتسمح بدخول حاملها ؛لذلك ارتأيت مكرها مضطرا وتحت هاجس الحاجة إلى استعماله في  أي ظرف طارئ ،أو أمر عاجل استبداله بجواز آخر.
لم أكن أملك سيارة ؛ أحد الأصدقاء رافقني في رحلتي إلى كشك جوازات السفر السوري.
ركبنا سيارته ؛ وأنا أشفق عليها وعلى نفسي وصاحبي من لهيب الشمس وأوارها؛ كانت درجة الحرارة فوق الخمسين والرطوبة عالية، والسفارة ليست قريبة. وصلنا السفارة؛وكانت تعج بالمراجعين، وتكتظ بجموع المواطنين، وبين الجموع الغفيرة وعلى الوجوه البائسة ترتسم صور الحيرة، والضيق، وطفح أوجاع السنين، ومرارات الماضي والحاضر والمستقبل وقيح الخيبات، وتتلاطم مئات الأسئلة والاستفسارات على شفاه الناس لمعاملات شتى تم تعقيدها بعشرات المراسيم والإجراءات التعجيزية؛ 
لحالات وأوضاع إنسانية خلفتها سنوات الحرب المستمرة؛ بلاهوادة وبدلا من تسهيل حلها، وتيسير قضائها كانوا يعرقلونها ويعسرونها ويشقون فيها على الناس أكثر.
الجميع يسأل: أين الموظف الفلاني؟ متى يأتي الموظف العلاني؟ أين أذهب بهذه؟ماذاأصنع بهذه؟متى أستلم معاملتي ؟متى أعود ؟ماذا أفعل؟ وطابور طويل على شباك صغير وحيد ؛لايغني ولايسمن من جوع؛ كان الموظف الذي يقف عليه يرد من مناخيره باستعلاء، وعصبية ،ومزاجية وبقرف، واشمئزاز باد للعيان.
عند موظف الجوازات هناك قابلت الكثير من الناس. أحدهم استلم جوازا مستعجلا ب٨٠٠ دولار؛ اعترض المواطن بنبرة خجولة: فقط سنتان لماذا؟ رد الموظف الحكومي وكأنه يمن عليه برده: أنتم لم تزوروا سوريا لست سنين فقال له الرجل: ولكنه طفل صغير لا يتجاوز عمره -١٣ عاما- رد عليه الموظف الحكومي: هذا هو القانون طفل مو طفل هو هيك.
شاب آخر من الشام استلم جوازه للتو وأعاده إليهم لخلوه من التوقيع توقيعه الشخصي سألته وماذا في ذلك؟ قال: الكثير من السفارات لا تعطي عليه تأشيرة سفر.ا
اخترعوا له حلا لم أعهده من قبل ولَم أسمع به ضمن معايير الجودة والسلامة وأمن الجوازات فجعلوه يوقع على الصفحة الأخيرة من الجواز وطجوا عليه ختم القنصل.
شاب آخر عمل زيارة لزوجته التي أدخلها إلى لبنان برشوة تجاوزت ٦٠٠٠ دولار، وحكى لي عن صديقه الذي استلم جوازه من يومين وبينما هو يتصفحه خارجا وجده بلا تواريخ، وبلا بداية، وبلا نهاية، وبلا صلاحية، عاد ليودعه عندهم من جديد بعد شهرين من الانتظار المر.
وبينما نحن ندخن السيجار  في البهو الخارجي إذا  بشاب آخر يلف ويدور كالنحلة ،وجوازه الجديد في يده مفتوحا على صفحة الاسم ( أسامة)، قاموا بتدوين اسمه بالانكليزية بشكل خاطئ؛ فحولوه من (osama) إلى (asama) هذا الخطأ اكتشفته موظفةكويتية متأخرا في الهجرة والجوازات حينما كان يهم بدق الإقامة.
في الباحة الأمامية المفتوحةللسفارة التقيت برجل خمسيناوي من ديرالزور؛ كان يروي قصة بوليسية في مقلب آخر عن ابن خاله، وأصدقائه الأربعة، حينما سافروا منذ أربعة شهور إلى سوريا لزيارة أقاربهم عبر مطار دمشق الدولي وصولا عبر مراحل متقطعة بالنقل البري وخلال مئات الحواجز إلى أرياف الدير،
ولَم يعودوا منذ ذلك الحين؛ حيث اختطفتهم جماعة مسلحة في ضواحي اعزاز في طريق عودتهم إلى الكويت؛ إلا واحدا فقط أطلقوه ليفاوضوه، ويساوموه على الأربعة الآخرين كرهائن.
الذين أطلق سراحه أعطيت له أيضا جوازات أصدقائه وعاد بها وبنفسه إلى الكويت أفضت المفاوضات إلى حصول الخاطفين على دفعتين من المال؛ كانت الدفعة الأولى عشرين مليونا قبضوها طبعا. والدفعة الثانية عشرة ملايين لم يستطع أهالي المخطوفين إلا تأمين ستة ملايين؛ وتابع عمنا الحجي: بعد ذلك لم نستلم عيالنا بل أغلقوا  خطوط هواتفهم، وضاع السبيل إليهم إلى أن وصلنا خبر باحتجازهم في فرع المخابرات الجوية وعليهم تقرير أمني؛ فحواه أنهم من الجماعات الإرهابية !!؟ ويقول الحجي وهنا دخلنا في دوامة ابتزاز جديدة كان أبطالها في البداية متسترين تحت عباءة الجماعات الإرهابية، وتاليا بلا قناع ولا نقاب، في سياق المحاسبة على تهمة الانضواء تحت لواء جماعة إرهابية، لكن بصورة أفظع إرهابا ممن يفترض به تحقيق العدالة، وتوفير الأمن،  وإيصال الحقوق للناس؛ وقال العم الخمسيني: ونحن الآن نسارع إلى إخلائهم من تحت قبضة الجهات الرسمية بأي صورة قبل انتهاء مدد إقاماتهم  في الكويت.
ورأيت شبابا آخرين علقوا في فلم دفع البدل المتوقف حاله؛ بسبب وجود أختام لفيزا وتأشيرات دخول تركية وطلبت الدولة منهم إجراء مصالحات مع النظام عبر طلبات خطية ترفع عن طريق السفارة ولا يعلم غير الله متى تتم الموافقة عليها من قبل النظام ؛!؟ على ما عليه حال دوائر الدولة من روتين وبيروقراطية فضلا عن الفساد والمحسوبيات والرشوة !؟
وقبل أن أنهي معاملتي بقليل حدث هرج ومرج في الصالة؛ أحدهم فقد توازنه تماما؛ وكان يصرخ في ضعف وانكسار : جننتوني أعيدوا إليّ جوازي القديم لم أعد أريد جوازا جديدا أريد أن أسافر يا عالم.
 
خرجت من السفارة ورأسي انتفخ كالطبل والأرض والفضاء تدور حولي وأنا آكل وجهي بيدي قائلا في نفسي: (عسى تكون هذه آخرعهودي بالسفارة) برحمة من رحمات القدر، تأتي على حين ميسرة وفرج قريب دان.
خرجت من بقالة (أبو علي ) الذي تزوج أمنا بالإكراه والغصب منذ خمسين سنة؛ وأنا ألتفت ورائي وأتساءل: هل هناك كلاب تلحق بي؟ نظرت خلفي لم أشاهدأية كلاب!؟ رغم أن نباحا كان يطن بقوة في أذني!!
الكويت- التاريخ- ٢٥-٥-٢٠١٧

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…