والدة المعتقل نزار حسين تخاطبه في رسالة مؤثرة

ولدي نزار
أنا عاتبة عليك كثيراً
إن كنت قد غبت عني طوال هذه السنوات الخمسة فلماذا لم تعدْ تزورني في الحُلم إلا وأنت تتألم، أين تخفي تلك الضحِكات التي كنت تُطلقها كلَّما دخلتَ إلى البيت، كنتَ قد وعدتني أنت وأخوك بأن تعوضانني عما لاقيته في حياتي من حرمان بعد أن رحل عنا والدكما باكراً، توفي وأنا شابة صغيرة، وترك لي أربعة أطفال صغار: ولدان وبنتان.
ذقت الأمرين حتى كبرتم وتزوجتم، كم كانت فرحتي عظيمة وأنا أجد ثمار تعبي قد أينعت، وكنت قد بدأت ألقي حمل السنين عليكما وأنا سعيدة بكم جميعاً.
ولكن فجأة غبت، وكان ذلك مساء الخامس عشر من أيلول سنة 2012 ، وحين سألت عن سبب تأخرك غير المعتاد عن البيت، لم أتلق رداً، قيل لي إنه في زيارة لصديق مريض، وحين تأخر الوقت كثيراً، وانتصف الليل، سمعتهم يتهامسون في المطبخ: نزار أعتقل، أعتقله حاجز أمني وهو عائد إلى بيته الكائن في حي ركن الدين بدمشق. 
أطلقت صرخة فزع وانطلقت نحو الشارع دون أن أعرف إلى أين أتجه، إلى أي حاجز وأي سجن؟ وبالكاد أعادوني إلى البيت، أخوك وزوجتك وهم يبكيان، لم أنمْ تلك الليلة، كنت انتظر عودتك بين لحظة والأخرى، مضى ذلك اليوم ثقيلاً وبطيئاً ولم تأت، وتلاه يوم آخر وأسبوع وشهر وسنة.. مضت خمس سنوات وأنا جالسة أمام الباب، وقرب النافذة، انتظر عودتك، أو من يحمل بشرى إطلاق سراحك، ولكن بلا فائدة، ما من مرة رنَّ فيها جرس الباب إلا وكنت أنا أول من يهرع لفتح الباب، وفي الطريق إلى الباب أتخيل أن أجدك واقفاً أمامي تبتسم وتناديني دلالي: أنا جائع. وكم من مرة سألت مراقب العداد الكهربائي عنك، ظناً مني أنه رسول من الحكومة، فلم يكن يَرّد سوى بنظرة شفقة أو سخرية، خمس سنوات كاملة وأنت غائب عن أمك، حتى أخبارك انقطعت عني، لا حس ولا خبر: ماذا تأكل؟ كيف تنام؟ هل أنت بردان أم جوعان، وهل تستحم كل يوم كما كنت تفعل قبل غيابك الطويل؟ الدواء الذي كنت تتناوله ولم تتمه مازلت احتفظ به لحين عودتك. أما زلت تشكو من تلك الأوجاع؟ 
اشتقت لضحكاتك التي كنت تطلقها ممازحاً إياي، لا صوت يتردد في أذني سوى صوتك وأنت تناديني حين تدخل البيت: دلالي. أمي الغالية. في صحوي وفي منامي.
يا ويلي. سمعت من يقول إنهم يضربون المساجين بعنف، ولا يهتمون لأمر من يشكو مرضاً أو يشعر بجوع. هل هذا يحدث لك أيضاً وأنت الذي لم يحدث أن ضربك أحد من قبل، حتى في صغرك لم تمسسك كفي، إذ كيف أضربك وأنت الولد المؤدب والخجول. والابن الحنون. سأدعو على الكفِّ التي تمسك بالكسر، ولابدّ أن يستجيب الله لدعاء أرملة وأم مفجوعة.
أولادك الأربعة لا يملون انتظارك يا ولدي، يجلسون معي أمام باب الدار كل يوم، ويتسابقون في طرح التوقعات: من أية جهة سيأتي بابا؟ من هذه الجهة، لا من تلك.. وماذا سيحمل لنا من فاكهة أو طعام: بسكويت أم تفاح أم.. وأنا أجاريهم، اشترك معهم واحزر، وفي آخر النهار ندخل إلى البيت خائبين منكسرين. لنكرر ذلك في اليوم التالي. وهكذا.
ابنك البكر شيرو التحق بالمدرسة هذه السنة، وهو الآن تلميذ في الصف الأول الابتدائي، حين يسأله أحدهم ماذا ستدرس في المستقبل يا شيرو يرد: المحاماة، كي أدافع عن بابا، وكذلك عن زوجيَّ عمتيَّ. نعم، لقد تم اعتقال زوجيّ أختيك اللذان غابا هما أيضاً وتركا كمشة أولاد في ذمة أختيك: جيان وروشن، وجبلاً من الحزن في قلبي. 
ولدي الحبيب، لم أعد احتمل غيابك أكثر، قل لسجانك إن أمي بانتظاري، قل ذلك ولا تخجل، إلى متى ستبقى تخجل مثل الفتيات، قل أنا أحب أمي، وأعلم أن طول غيابي سيُعجل في دنو أجلها. وإن أولادي في الشارع بانتظاري، وأخشى أن ينسوا شكلي، ينسوا والدهم، فإذا لم أعدْ إليهم قريباً فإننا سنفقد بعضنا بعضاً إلى الأبد. 
قل لسجانك أمي تريد عنوانك، ستزور أمك، لو كنت أعرف عنوان أم هذا السجان لذهبت إليها واستعنت بقلبها على ولدها. وأرجو ألا يكون هذا السجان ولداً عاقاً.
أمك المشتاقة لك كثيراً 
زبيدة الحسين

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…