جان كورد
قال القائد الخالد البارزاني مصطفى على أثر خيانة هنري كيسنجر له بأن أكبر خطأ اقترفه في حياته هو وضع الثقة في دولةٍ عظمى. واعتقد أنه فكّر في هذا طويلاً قبل النطق به، فمعلوم عنه أنه كان قليل الكلام، وما يقوله ليس إلا نتيجة لخبراته الطويلة الأمد في الكفاح الثوري وفي العلاقات التي كان يجيد حبكها والتصرّف بموجبها. فهل هذه المقولة لا تزال في عقول القادة الكورد، أم أن تغيرات الزمن قد غطت عليها كما تغطي الأعشاب الصخرة أحياناً؟
بعد هزيمة 1975، التي كانت في الحقيقة انسحاباً تكتيكياً على أثر عقد اتفاقية الجزائر المشؤومة في عام 1975 بين صدام حسين الموالي للسوفييت وشاه إيران الموالي للغرب، بمباركة أمريكية – سوفييتية، وكان لابد لقائد الثورة أن يتخذ قراراً كراً وصعباً لينقذ شعبه وبيشمركته من نهايةٍ مؤسفة. اندلعت ثلاث ثوراتٍ في ثلاثة أجزاء من كوردستان،
هذه الثورات الثلاث هي (في جنوب كوردستان بقيادة القيادة المؤقتة للديموقراطي الكوردستاني، وبقيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني في تنافسٍ دموي أحياناً بينهما، بدءاً من عام 1976، و(في شرق كوردستان في عام 1980 بقيادة الحزب الديموقراطي الكوردستاني) و (في شمال كوردستان في عام 1984 بقيادة حزب العمال الكودستاني)، إلا أنها بقيت أسيرة أو سجينة علاقاتها الإقليمية، وظلت في تناقض خطاباتها السياسية، بحكم الضرورة والاضطرار على الأغلب، فتمكنت الدول المحتلة لكوردستان من تسخير طاقات هذه القوى السياسية والثورات الفتية لتنفيذ مآربها القومية ضد بعضها بعضاً وأحياناً بالتوافق فيما بينها، ودفعتها على الدوام للتحارب فيما بينها، والخصام على مناطق النفوذ في كوردستان.
هذا الوضع الذي يحمل تناقضاته في الأساس لم يسمح بتكوين “خطاب سياسي كوردي موحد”، ففي شرق كوردستان كان الميل صوب علاقات حميمة مع “الاشتراكية الدولية”، وفي جنوبها كان الحزب الديموقراطي الكوردستاني يميل صوب الأحزاب الديموقراطية المحافظة في أوروبا، في حين كان منافسه الاتحاد الوطني يميل أيضاً إلى الاشتراكية الدولية، وفي شمالها فقد رفعت رايات الشيوعية الحمراء والحرب الإعلامية على “الامبريالية والصهيونية والرجعية…”، كما كانت هناك أحزاب أخرى في مختلف أرجاء الوطن تؤيد هذا أو ذاك من الزعامات التي لم تكن قادرة على تجاوز خلافاتها بسبب نفوذ الدول الإقليمية في دوائر القرار الكوردي.
ومع انهيار المعسكر الشيوعي الذي كان يتقدمه الاتحاد السوفييتي، وظهور ما يسمى ب”النظام العالمي الجديد”، كان لا بد أن تحدث تحولات نوعية في السياسة الكوردية، وبالتالي في “احتمال” تواجد أو نمو “خطاب سياسي كوردي” على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وبخاصة بعد زوال نظامي شاه إيران وبعث العراق، وغياب الدكتاتور حافظ الأسد من المسرح السوري، وتضعضع الشريحة البورجوازية الفاسدة في نظام مصطفى كمال في تركيا، إلاّ أن السياسة الكوردية لم تتمكن من بناء هكذا خطاب ضروري لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية، على الرغم من مرور سبعة عشر عاماً على دخولنا القرن الواحد والعشرين، وحدوث تحولات عميقة في بنية الصراع الإقليمي على مستوى منطقة الشرق الأوسط برمتها، وصحيح أن العنعنات الآيديولوجية قد اختفت إلى حدٍ كبير في الوسط السياسي الكوردستاني، وماتت اتفاقية سايكس – بيكو التي تسببت في تجزئة كوردستان بالتقادم، إلاّ أن العلاقات والتفاهمات على مستوى المنطقة لم تتراجع بعد إلى المرتبة الثانية خلف العلاقات الدولية مع الأسف، أو أن بعض الأحزاب والزعامات دون غيرها لم تضع قدمها بعد في عالم العلاقات الدولية المتشابكة التي دون فهمها وأخذها بالحسبان في كل خطوة سياسية وفي كل خطة لا تقدر على التقدم، ولا تستطيع التلاقي مع منافساتها للتفاهم حول مبادئ وأسس وقاعدة وطنية متينة، تضع في رأس أولوياتها مصالح الأمة الكوردية وليس المنافع الحزبية.
إن ما يجري اليوم في كوردستان برمتها مختلف تماماً عما كان عليه الوضع القومي على أثر هزيمة 1975 المريرة، والإنجازات التي تم تحقيقها على الأرض، في مواجهة الإرهاب أولاً، وفي تطوير جنوب كوردستان، قد فتحت عيون الشرق والغرب على ما لشعبنا من قوة وحيوية في الحرب على الإرهاب، سواءً في العراق أو في سوريا، وفي بناء اقتصادٍ عصري متطور بسرعةٍ فائقة، وهذا يعني أن العالم لن يتخلى بسهولة عن هذا الشعب وقواه السياسية وقياداته المؤمنة بأن المصالح القومية أهم من المنافع الحزبية الضيقة، فالأوضاع تغيّرت عن زمن الحرب الباردة، والعالم يسير بسرعةٍ مذهلة صوب عالمٍ أشد تشابكاً وتفاعلاً.
ما ينقص الحراك السياسي – الثقافي الكوردستاني عامةً هو التأسيس لخطاب قومي سياسي موحد، لا يمكن وضع لبناته الأساسية إلا من خلال:
– تحديد أولويات كفاحنا القومي في سبيل الحرية، ورسم خارطة طريق سياسية موحدة.
– تصنيف الأعداء حسب قواهم وسياساتهم وأخطارهم على أمتنا من مختلف النواحي، وحسب مواقف الدول العظمى تجاههم.
– إنشاء هيئة كوردستانية مشتركة بالاتفاق بين الأحزاب الرئيسية لإدارة ملف العلاقات الدولية، وصونها من التأثيرات السلبية للدول المقتسمة لوطننا، وهذا قد يكون بديلاً عملياً أو مؤقتاً لفكرة المؤتمر الوطني الكوردستاني الصحيحة في هذه المرحلة.
– تكليف لجنة من الخبراء الدوليين والسياسيين الكورد العريقين في مجال العلاقات السياسية لتقديم تقرير موسع ودقيق عما يجب عليه القيام به من قبل مختلف أحزاب كوردستان حتى تكون لشعبنا “كلمة مسموعة” و”اتجاه محدد” و”خطة إعلامية تشاركية” لمخاطبة الشارع الكوردي وجيراننا من الشعوب والأمم الأخرى في المنطقة ولبناء علاقات دولية وإعلام كوردستاني على الصعيد الدولي.
وبالطبع هناك مهام أخرى عظيمة في هذا المجال الذي على مثقفي كوردستان التطرّق إليها وتقديم النصح الأخوي لقيادات هذه الأمة التي تمر في مرحلة تاريخية صالحة لتحقيق مكاسب أكبر فيما إذا تلاقت قياداتها السياسية على حدٍ أدنى من التضامن والتفاعل، حيث بدون تقارب وتفاهم وطني لا يمكن بناء أو تأسيس خطاب وطني موحد.
13 أيار، 2017