د. ولات ح محمد
احترام رأي الأكثرية أو قرارها يعد أحد أهم الأسس التي تنبني عليها الأنظمة الديمقراطية، وهو المبدأ الأول الذي تستند إليه في حسم تنافساتها البينية. أما عند الأنظمة الطائفية والديكتاتورية والمتخلفة فإن مبدأ الأكثرية يصبح مجالاً للمساومة والمتاجرة والكيل بعشرين مكيالاً في سبيل تحقيق أهدافها في قمع الآخر الخصم المختلف وإقصائه. هذه الموازين المختلفة والمختلّة في تطبيق مبدأ الأغلبية عند أنظمة المنطقة تبدو أكثر جلاء وفضاحة إذا تعلق الأمر بشأن كوردي، وما أكثر الأمثلة على أرض واقعها.
قام النظام العراقي الجديد بعد 2003 على مبدأ التوافق في اتخاذ القرارات ابتداء من التناوب على رئاسة الجمعية الوطنية ومروراً بسن مواد الدستور الجديد وليس انتهاء باختيار رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان وتوزيع الحقائب الوزارية في كل مرة، وذلك لوجود مكونات أخرى من عرب سنة وكورد وكلدو أشوريين وتركمان لا يمكن لها أن تمرر قراراً أمام الأغلبية الشيعية بأي حال. استمرت الحال هكذا حتى أواخر عهد نوري الفاسد حينما بدأ يروج لفكرة الأغلبية ليتمكن من إرساء دعائم الديكتاتورية والطائفية اللتين عمل عليهما طول ثماني سنوات من حكمه. ثم توج نوري الماليّ هذا المسعى في عهد العبادي عندما وجه نوابَه للتصويت على إقالة وزراء كانوا ضد توجهاته وسياساته وفساده. وكان من بين الوزراء المقالين في البرلمان بأغلبية نوري السيد هوشيار زيباري وزير المالية آنذاك دون الاكتراث لمبدأ التوافق.
مؤخراً عندما صوت مجلس كركوك بالأغلبية على رفع علم كوردستان إلى جانب العلم العراقي فوق المباني الرسمية في المحافظة ارتفعت أصوات عراقية تطالب بضرورة التوافق بين مكونات كركوك، وقالوا إن مثل هذا القرار لا ينبغي أن يُتخذ بالأغلبية بل بالتوافق بين مكونات المحافظة من كورد وعرب وتركمان وآشوريين حتى لا تثار النعرات والحساسيات. والمفارقة هنا أن البرلمان العراقي وفي اليوم الثاني لجأ إلى الأغلبية (وليس التوافق) للتصويت على إلغاء قرار مجلس كركوك الذي اتُخذ أيضاً بالأغلبية !!!. أي أنهم لجؤوا إلى أغلبيتهم في البرلمان العراقي ليقرروا إلغاء قرار أغلبيتنا في مجلس كركوك. وبذلك أصبح المبدأ على هذا النحو: إذا كانت الأغلبية لهم يتوجب على الكورد احترام قراراتها، أما إذا كان الكورد هم الأغلبية فيتوجب على الكورد مراعاة رغبة المكونات الأخرى واللجوء إلى مبدأ التوافق للحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه.
اللافت في مسألة كركوك – في هذا السياق – أن الدول المجاورة أبدت اعتراضها على قرار مجلس كركوك الذي اتُخذ بالأغلبية قائلة إن مثل هذه القضايا يجب أن يتم التوافق عليها بين جميع المكونات. علماً أن تلك الدول مليئة بالمكونات التي لا تحظى بأية حقوق فيها ولا يتم أخذ رأيها في أية قضية؛ فالحكومة التركية التي مررت قبل أيام تعديلاتها الدستورية بأغلبية 51% فقط دون أن تضع في اعتبارها رغبات المكونات المجتمعية من كورد وعرب وعلويين طالبت حكومة إقليم كوردستان باحترام رغبات مكونات كركوك عند اتخاذ قرار من هذا النوع وليس اللجوء إلى الأغلبية. وهذا ما قالته إيران أيضاً متناسية أن فيها عرباً وكرداً وأذريين وسنًة وغيرهم وأن نظامها لم يتوافق يوماً مع تلك المكونات على شيء يخص دولتهم بل يفرض عليهم دوماً ما يشاء من القرارات والفرمانات، وأنه يقوم بإعدام الآلاف من تلك المكونات سنوياً لأنها فقط تطالب بالتوافق معها في تسيير شؤون الدولة.
يطالب الكورد في سوريا الجديدة وفي إطار الدستور والقانون بمقاطعة فيدرالية ذات طابع كوردي فيأتيهم الجواب هكذا: كيف ستبنون فيدرالية كوردية ومعكم في هذه الجغرافيا مكونات أخرى من عرب وآشوريين وسريان وتركمان ؟؟. هذا ما يردده السوريون لشركائهم الكورد متناسين أن سكان الجمهورية (العربية) السورية ليسوا كلهم عرباً ومع ذلك صارت جمهورية عربية. المفارقة المضحكة هنا أن بعضاً من الكورد بدأ يردد مثل هذه الحجة التي لا تُرفع إلا في وجه الكوردي عندما يطالب بحقوقه المشروعة في المناطق التي يشكل الغالبية فيها؛ فعند هؤلاء وجود منطقتي الهول والشدادي (العربيتين) يلغي صفة الكوردية عن الإقليم الكوردي في سوريا، ووجود مكونات مجتمعية أخرى يلغي حق الكورد في أن يشكلوا إقليماً فيدرالياً كوردياً حتى وإن كانوا الغالبية على أرضهم التاريخية. على كل هؤلاء نطرح هذا السؤال: لماذا تقبلون وجود دولة موحدة باسم تركيا وفي جنوب شرقها أكثر من عشرين مدينة كوردية كبرى في منطقة جغرافية واحدة ومتصلة وتتجاوز مساحتها مساحة سوريا؟ ولماذا توافقون على دولة باسم العربية السورية وفيها مدن ومساحات جغرافية كوردية تساوي أضعاف مساحتي الهول وشدادي؟؟ ولماذا تعارضون قيام دولة كوردية في كوردستان الجنوبية علماً أن 90% من مساحتها ومدنها ومكوناتها كوردية خالصة ؟؟؟. أليس في كل هذا أغلبيات كوردية؟ أم أن أغلبيات الآخرين تقيم لهم دولاً وأقلياتهم تمنع إقامة مقاطعة لغيرهم؟؟!!. أما الكورد فإما أنهم أقليات لا قيمة لها في الدول الأربع وإما أنهم أكثرية في مناطقهم ولكن عليهم أن يخضعوا لرغبة الأقليات الموجودة.
عندما يطالب الكورد بحقوقهم وباحترام خصوصيتهم في الدول الأربع التي تتقاسمهم يقولون لهم: أنتم أقلية وجزء من هذا الشعب، وعليكم أن تخضعوا لرأي أغلبية الشعب التي لا تقبل لكم بفيدرالية أو بحكم ذاتي أو بأي شكل إداري آخر يعبر عن لونكم المختلف والمتمايز عن لون الأغلبية. أما إذا كانت الأغلبية للكورد فإن لغة الخطاب تختلف، إذ يقولون لهم: أنتم لستم وحدكم، وهناك مكونات أخرى معكم فكيف لكم أن تبنوا إقليماً فيدرالياً كوردياً في حين يتشارك معكم آخرون؟. وعندما يقترح الكورد استفتاء كل مكونات كوردستان على البقاء مع العراق أو الاستقلال عنه يقولون لهم: الأغلبية الكوردستانية ليست كافية لتقرروا مصيركم، وإنما يجب أن ينال مشروعكم موافقة أغلبية العراقيين. هكذا تواجَه مطالبهم في كل جغرافياتهم وبذات المنطق، وكأن سوريا عند إعلانها دولة عربية كانت كل مكوناتها عرباً، وكأن الدولة التي جعلوها تركية بكل تفاصيلها ليس فيها سوى أتراك. إذا كان هذا المنطق سليماً فلماذا لم يلغِ وجود الكورد والعرب في تركيا تركيتها منذ البداية؟ ولماذا لم ينسف وجود الكورد والتركمان والسريان والآشوريين عروبة سوريا وكونها جزءاً من الأمة العربية أيضاً؟؟ إذا كان وجود مكونات أخرى يمنع قيام كيان كوردي كان الأوْلى بوجودها أن يمنع قيام تلك الدول من الأساس وهي المليئة بالألوان إثنياً ودينياً وطائفياً. ولو حدث ذلك آنذاك لما كان لنا حاجة بهذا الكلام الآن.
الكورد أغلبية في مناطقهم التي يتواجدون فيها في الدول الأربع التي تتقاسم جغرافيتهم، ولهم الحق في تقرير مصيرهم ضمن شكل إداري يتم التوافق عليه بينهم وبين كل المكونات التي تتشارك معهم على تلك الجغرافيا. ولن يكون الكورد ديكتاتوريين كما كان الآخرون بل إخوة وشركاء مع حفظهم لحقوق تلك المكونات كاملة. والامتيازات التي يتمتع بها غير الكورد في إقليم كوردستان أوضح مثال على ذلك. أما الأنظمة الحاكمة وأجزاء صغيرة من تلك المكونات المرتبطة بتلك الأنظمة فإنها ستظل تقيس الأمر بالمقياس الذي يحلو لها: فإذا حققت الأغلبية غرضها لجأت إليها، وإذا كانت في مصلحة الكورد صرخت واحتجت ونادت بضرورة التوافق واحترام آراء الآخرين، وكأن أغلبيتهم تضمن العدالة والديمقراطية بينما تهدف أغلبيتنا إلى الديكتاتورية.
باختصار، من يطالب بالاحتكام لرأي الأغلبية عليه احترام رأي الأغلبية دائماً. أما هذه الازدواجية في القياس فإنها لا تنتج سوى ديمقراطية الكذب والنفاق والدجل، ديمقراطية الذين يرون أغلبيتهم من ورد وأغلبيتنا من شوك ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال منشور في جريدة (القلم الجديدpênûsa nû ) العدد 60 نيسان – إبريل 2017.
** تم بالخطأ إرسال النسخة غير المعدلة إلى (القلم الجديد)، ولذلك ثمة فوارق (غير جوهرية) بين هذه النسخة وتلك المنشورة في الجريدة من حيث ترتيب بعض الفقرات وتعديل بعض الجمل. وقد تم الاعتذار للإخوة في (القلم الجديد) في حينه. ولذلك اقتضى التنويه.