رسائل استفتاء تركيا .. الكورد يعاقبون الجميع

د. ولات ح محمد
   رسائل عدة حملتها نتائج الاستفتاء الذي أُجري في تركيا الأحد 16 نيسان بغية الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الذي يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الدولة الذي يتوجب انتخابه مباشرة من الشعب. إحدى تلك الرسائل تلقاها أردوغان نفسه وحزبه الحاكم، والثانية قرأها التيار الشوفيني الذين حكم البلاد بطريقة أو بأخرى على مدى ثمانين عاماً وأنكر على الكورد حتى مجرد وجودهم. أما الثالثة فكانت إلى الحركة السياسية الكوردية في كوردستان الشمالية وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي. أما ملخص تلك الرسائل كلها فهو أن الشارع الكوردي قادر على معاقبتهم جميعاً. 
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن هناك خطأ وقع فيه الموافق والمعارض لهذه التعديلات على حد سواء؛ فقد توجه الأول إلى الصندوق ليقول “نعم” لرئاسة أردوغان وتوجه الثاني ليقول “لا” لرئاسة أردوغان أيضاً. أي أن الاثنين لخصا موقفهما من نظام الدولة الجديد في شخص أردوغان. وهذا يشير إلى أن قسماً من الجمهور التركي ما زال يخلط بين مصالح الدولة العليا وبين شخص ما في السلطة قد يراه ناجحاً أو فاشلاً.  اللافت للانتباه أن وسائل الإعلام أيضاً ظلت بدورها تردد ” أن نجاح الاستفتاء يعني بقاء أردوغان في الرئاسة حتى عام 2029 “. أما وجه الخطأ والخلط في هذا المنظور فيعود لسببين: الأول أن أردوغان سيترشح مع آخرين للرئاسة حسب القانون الجديد أواخر عام 2019، وقد ينجح هو آنذاك وقد يفوز غيره. أي أن هذه الصلاحيات الواسعة قد تكون بيد أي رئيس آخر غير أردوغان؛ فالجمهور الذي قال “لا” في الاستفتاء بنسبة 49% قادر أن يضيف أقل من 2%  ليختار رئيساً آخر غير أردوغان. أما السبب الثاني فهو أن أردوغان حتى لو فاز في 2019 فقد لا يفوز في 2024 وإذا فاز في المرتين فإنه حتماً لن يكون في المرة الثالثة لأن الدستور لا يسمح له بغير ولايتين متتاليتين. في كل تلك الاحتمالات كان على الأتراك أن يصوتوا (بنعم أو بلا) على التعديلات الجديدة وليس على شخص أردوغان لأنها مسألة تخص نظام دولة لعقود قادمة، ولأن أردوغان لن يكون رئيساً أبدياً في كل الأحوال. هذا مع الافتراض أنه سيفوز في المرتين وأنه سيبقى بصحة جيدة تمكنه من أداء مهام الرئاسة حتى عام 2029 . 
   
   إذا كانت نسبة 51,3 % كافية لإقرار التعديلات الدستورية فإنها بالتأكيد غير كافية لطمأنة الحزب الحاكم على أن الجماهير التركية تسانده في مساعيه وبرامجه المختلفة. وهذه إحدى الرسائل التي ستقرؤها الحكومة وسيقرؤها أردوغان بعناية، والتي مفادها أنه ليس كل الناس يصوتون على أي شيء كان من أجل عيون حزب أو شخص؛ فالتحالف بين حزب العدالة والتنمية AKP  و حزب الحركة القومية MHP كان من المفترض أن يوصل نسبة التصويت بـ”نعم” إلى 60% على الأقل. وهذا يعني أن نسبة من مؤيدي AKP ومعظم مؤيدي MHP لم يصوتوا بـ”نعم” أو لم يذهبوا إلى الصناديق إطلاقاً رفضاً للتعديلات المقترحة. وهذه رسالة إلى أردوغان تحذره من أنه قد لا يفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة التي خطط لها بنفسه ولنفسه. 
   من جهة ثانية يبدو أنه تم تعويض تلك النسبة المفترضة المفقودة بأصوات بعض الكورد الذين كانوا يصوتون لصالح حزب الشعوب الديمقراطي HDP في الانتخابات الماضية، إذ تشير الأرقام (حسب مراقبين) إلى أن الحزب المذكور فقد أكثر من 10% من أصوات مؤيديه في هذا الاستفتاء. وهذا يعني أن تلك النسبة لو صوتت بـ”لا” كما أراد الحزب لكانت النتيجة النهائية ” لا “. وهذه رسالة عقابية أولى لـ HDP على الأخطاء التي ارتكبها خلال الفترة الماضية لدرجة أنه حتى اعتقال معظم قياداته وكوادره من قبل الحزب الحاكم الذي طرح الاستفتاء لم يشفع له ولم يسحب الناس إلى التعاطف معه على الرغم من غضبهم على أردوغان وحزبه.
   إن العدد الإجمالي لكورد الشمال قد صوتوا بـ”لا” رداً على أعمال القتل والملاحقة والتهجير التي ارتُكبت بحقهم والدمار والحصار الذي طال مدنهم خلال السنة الماضية، وحالات الطوارئ وحظر التجول المفروضة على بعض مناطقهم حتى يوم الاستفتاء. وهذه رسالة إلى أردوغان بأنهم صوتوا له سابقاً عندما كان يوفر لهم الأمان والاستقرار والتنمية وأنهم يستطيعون معاقبته في أي استحقاق انتخابي قادم. ولكن من جهة أخرى لم تكن ” لا ” الكوردية كبرى؛ فمدينة مثل آمد (ديار بكر) لم تقل (لا) بنسبة ساحقة بل بنسبة 67% فقط. وفي المقابل قالت مدينة مثل بينغول (نعم) بنسبة 73%. وفي المحصلة العامة لولا نسبة 10% التي فقدها HDP لسقط الاستفتاء في الغالب. 
   من هنا يعبر الصوت الكوردي عن أهميته وقدرته على قلب الموازين من جهة، وعن كونه ليس صوتاً أعمى وثابتاً ومضموناً إلا لمن يحترمه ويقدر مصلحته وخصوصيته وأمنه من جهة ثانية. ومن هذه الزاوية سيدرك أردوغان أنه بحاجة إلى الكورد إذا ما أراد أن يخلق توازناً في الحالة السياسية والحالة الشعبية والمجتمعية داخل تركيا، وإذا ما أراد أن يفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ فمن جهة لم يصوت جمهور الحركة القومية بـ”نعم” لتعديلاته (أي لم يصوت له هو) على الرغم من تحالفه معها داخل البرلمان، وهذا مؤشر آخر. ومن جهة ثانية يدرك أردوغان أن التحالف أو التعاون مستحيل بين العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري CHP برئاسة كليجدار أوغلو للتناقض الآيديولوجي القائم بينهما أولاً ولحالة التنافس والصراع على السلطة بين الحزبين ثانياً؛ إذ يرى هذا الأخير نفسه امتداداً لنهج كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة القائمة على العلمانية والقطيعة التامة مع إرث الإمبراطورية العثمانية. في المحصلة النهائية تظهر نتيجة الاستفتاء حاجة أردوغان وحزبه الملّحة إلى كسب الشارع الكوردي ومن ضمنه الحركة السياسية التي تمثله، والتي ينبغي أن تشتغل على هذا الجانب بقوة في الفترة القادمة.
   أمام هذا الحسم الذي أحدثه الصوت الكوردي سيدرك الطرف السياسي التركي الآخر المتمثل بالتيار القومي الشوفيني الذي يمثله الحزبان المذكوران أعلاه أنه لا بد من الانفتاح على الكورد وحقوقهم لأن من أراد أن يحكم تركيا لا بد له من كسب الكورد إلى جانبه، علماً أن هذا الطرف لم يعترف بالوجود الكوردي منذ نشوء الدولة التركية الحديثة حتى هذا اليوم، ومارس بحقه كل أنواع القمع والسحق والإلغاء بغية محوه من ذاكرته الكوردية ومن ذاكرة المنطقة عموماً. ولهذا فإن الحزب الكوردي الذي سيتقارب مع هذا التيار قبل أن يغير ذهنيته ومواقفه تجاه الكورد وحقوقهم سيتعرض لعقاب الشارع الكوردي. وربما تكون أرقام الاستفتاء – كوردياً – فرصة أمام حزب الشعوب الديمقراطي وكل أحزاب الحركة الحركة الكوردية لإعادة النظر في حساباتها وتحالفاتها بما يخدم قضيتها استراتيجياً وعلى المدى البعيد والتخلي عن تلك التي تحقق مكاسب آنية وظرفية مؤقتة وزائلة عند أول منعطف أو اختبار حقيقي. ومن غير المستبعد أن نرى لأول مرة تنافساً على صوت الناخب الكوردي بين الأحزاب التركية من خلال برامجها وطروحاتها الجديدة في المرحلة المقبلة.
   في ظل هذه المعطيات والأرقام والمتغيرات الإقليمية ستجد حكومة العدالة والتنمية نفسها عاجلاً أو آجلاً في مواجهة حتمية مع القضية الكوردية، ليس بوصفها مشكلة بين حزب العمال الكوردستاني والحكومة كما كانت عليه الصورة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بل بوصفها مسألة تتعلق بشعب يشكل نحو ربع عدد سكان الدولة وله خصوصيته القومية التي ينبغي السماح له بالتعبير عنها بصيغة أو بأخرى؛ فالمنطقة كلها تتغير والمفاهيم والرؤى التي استقرت عليها الأوضاع قرناً كاملاً تتغير ومعها ينبغي لسبل معالجة قضايا المنطقة وشعوبها أن تتغير أيضاً؛ فإقليم كوردستان العراق ذاهب نحو الانفصال وغرب كوردستان (سوريا) ماض غالباً نحو فيديرالية من نوع ما، وتركيا لا تملك منعهما من التقدم لأنهما ماضيتان بدعم من قوى أكبر منها، وهي تدرك ذلك منذ زمن. وإزاء هذا الوضع لا تستطيع أن تمارس كونترول على المشاعر القومية لعشرين مليون كوردي داخل حدودها أو تضع عصابة على عيونهم حتى لا يروا أشقاءهم وهم يرفعون علمهم الكوردي على المباني الرسمية لدولهم. ولذلك ستقنع نتائج الاستفتاء الحكومة التركية بأنه لم يعد كافياً أن ترفع شعارها الرباعي الأثير: وطن واحد، شعب واحد، علم واحد، ودولة واحدة؛ إذ ينبغي أن ترافقه أو تتقدمه إجراءات تدل على مواكبة الحكومة التركية للتطورات الجارية وتفهُّمها لخصوصية شعب كان يمكن أن يكون له دولة منذ مائة عام إلى جانب الدولة التركية. وربما يأتي في هذا السياق كلام أحد المسؤولين الحكوميين خلال الأيام الماضية حول إمكانية قيام نظام فيديرالي في تركيا، ذلك الكلام الذي لقي احتجاجاً قوياً من قبل الحزبين الآخرين المعارضين.
   
   إن نتيجة الاستفتاء سلاح ذو حدين يمكن استخدامه لإنشاء ديكتاتورية كما كان يخشى فريق (لا) وإضافة أزمات جديدة على الموجودة سلفاً وجعل المنطقة بؤراً للنزاعات والصراعات وبراكين قابلة للانفجار في أي وقت، وفي المقابل يمكن للرئيس الجديد توظيف صلاحياته الواسعة لحل مشاكل شعبه كونه في حل من الخضوع لمسألة التوافقات داخل البرلمان بين الأحزاب التي لن توافق على حل قضية حساسة وخلافية كالقضية الكوردية. ولكن ما لن يستطيع أردوغان وحزبه والآخرون أن يتجاهلوه منذ اليوم هو أن الكورد بدؤوا يلعبون لعبة الثواب والعقاب وأنهم لن يهبوا أصواتهم من الآن فصاعداً إلا لمن يقدرهم ويحترم أمنهم وحقوقهم. وهي رسالة للأهل وللجيران معاً وفي مظروف واحد مختوم بِختم أحمر لشعب جريح ينتظر.. 
   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…