في سقوط المثقف كردياً

اكرم حسين 
بادئ ذي بدء اود التوضيح باني لن اسلك الطرق المعتادة في تناول مفهوم المثقف ، ولن  ادخل في سجال التنظير والتعاريف الكلاسيكية المجردة ، مثل ما هو المثقف ، وما هو دوره ووظيفته ، وكيف يستطيع تأدية المهام المنوطة به ، لكني سأخذ في سياق الحديث بعين الاعتبار دلالاته ، عند كل من جوليان بندا وغرامشي وادوارد سعيد واخرين ، عند انطلاقي من خصوصية الواقع الكردي – الذي قد يتشابه مع واقع المجتمعات الاخرى – لكنه يمتاز بالتأكيد بنوع من الخصوصية والتمايز ، الذي يفرضه اختلاف درجة تطور المجتمعات الانسانية- ومستوى وعيه وذكائه ، والمهام المنوطة به .
فالبعض يتحدث عن غياب المثقف الكردي – الحزبي واللاحزبي على حد سواء – وعدم قدرته على التعبير او التأثير في الوعي الجمعي الكردي، لا بل يذهب اخرون الى حد القول بسقوط المثقف الكردي ، وعدم فاعليته نهائيا في ظل سكوته وابتعاده عن الخوض في الشأن العام ، والنأي بنفسه عن المخاطر للحفاظ على مصالحه ، اما ارضاءاً او خوفاً من السلطة القائمة ، ودفاعه احيانا عن كل ممارساتها القمعية والشمولية ، وتحوله كبوق للدعاية الرخيصة ، تحت عناوين وحجج سخيفة – في زمن يحتاج فيه المجتمع الى من يقف او يتصدى لكل ما هو شائن وقمعي – وبالتالي انقسام الكتاب والمثقفين في اتحادات كتاب ورابط حزبية ،اشبه ما تكون “بالإقطاعات العشائرية “التي تتبع هذه الجهة السياسية او تلك ، في اشارة الى هزيمة المثقفين او عدم قيامهم بدورهم التاريخي ، واللهاث وراء المال السياسي والاجندة الشخصية ، لان المثقف الذي اتحدث عنه هنا ،هو المثقف الناقد للذات قبل الاخر ، هذا الاخر الذي يستسهل نقده وتعريته دائما ، بعيدا عن الذات الكردية الفاعلة ، كجماعة حزبية او سلطة مستبدة قامعة ، او مجتمع ، تحت حجج خصوصية المرحلة والظروف الاستثنائية، والعدو الذي يتربص ..الخ من شعارات يحاول الاختبار ورائها ، مبررا جبنه وسكوته ، وهو كلام لا يمت الى الحقيقة والواقع بصلة ، لان النقد يجب ان يكون حاضرا وقائما  في كل الظروف والاوقات،  فبه يستقيم الاعوجاج ،مهما كانت درجة القبول والاختلاف ، لا يمكن للمثقف ان يكون ناقدا حسب الطلب والظروف .عليه ان يستخدم سلاح النقد في مواجهة كل ظواهر التوحش والقمع وانتهاك الحريات، وكل العوامل التي تعرقل نهضة المجتمع الثقافية والسياسية ، لكن يبقى المثقف في النهاية هو شخص محدود الامكانيات والتأثير، ولن يستطيع ان يكون له دور ولأفكاره من تأثير ، الا في حالات توفر ظروف ومناخات شبه ديمقراطية ، وتبني احزاب او جماعات لأفكاره وآرائه تساعده في انتشارها والترويج لها ، عبر وسائل اعلامها المختلفة ، بغية ايصالها وتغلغلها بين الجماهير ، فما نشاهده اليوم من تراجع وانحسار للمثقف والثقافة وتضائل دوره وتأثيره في وعي المجتمع ، يعود في جانب اساسي منه الى سقوط السياسي الكردي ، الذي هجر الاخلاق والثقافة وبات امياً ، بعيدا عن تطلعات الجماهير وهمومها الحياتية ، هذا السياسي الذي اسقطته الثورة  ففضل الاعتكاف في صومعته الحزبية ، وابتعد عن نبض الشارع ، وعن الدفاع عن تحسين شروط حياته وعن لقمة عيشه ، وتحقيق طموحه القومي بعد سنوات القهر والعذاب .
صحيح ان المثقف هو ابن بيئته ومجتمعه، لكن الاصح بان المثقف ايضا يمتلك حسا ونبضا يغاير ما هو قائم فيما يتعلق بالصعيد الذهني او الحسي ، تؤهله لبناء منظومة فكرية ومفاهيمية يقارب بها كل الوقائع  ويؤثر من خلالها في افكار الناس ومعتقداتهم وبالتالي رؤيتهم الى العالم والواقع المحيط .
سقط المثقف العضوي  بالمعنى التاريخي الغرامشي ، فكل ما موجود ينأى بنفسه عن الدخول في الاحداث ، ويحصر دوره في عملية التنوير او الكتابة التاريخية او الادبية ، التي لا تلامس الواقع ولا تؤسس لمستقبل ، دون استنهاض الفعل الثوري . فما قاله فوكو في ستينات القرن الماضي بانه لم تعد الحاجة لمثقف عضوي لان الشباب بات يدرك ما  يجب عليه القيام به ،  يتأكد في واقع اليوم ؟ 
نحن نحتاج في هذا الزمن الى مثقف كردي ينتقد دون ان يعادي ، ينتج دون ان يهاب ، يقول دون أن ينحاز الا الى  ما يحتاجه الواقع الكردي ، وما تفرضه صيرورة التاريخ وحتميته ،من اجل بناء غد افضل واجمل لشعبنا ، يكتب بكل شجاعة وثقة واخلاص، مهما كانت درجة الخطورة ومهما اعترضته الصعوبات، لأنه بدون ذلك لن يستطع ان يحتل عقول وقلوب الناس ، ولن يكون له مكان في التاريخ ، فالانتقاد وطرح الرأي بجرأة وموضوعية تامة امام تغول السلطة ومؤسساتها المختلفة واجب اخلاقي وانساني للمثقف الكردي حتى لو فقد رأسه ! عليه ان لا يلتفت للحواجز والموانع وان يتخطاها بكل صبر وعناد ، وان لا يضع لنفسه حدودا يقف عندها  كي لا يسقط ،فسقوطه رهن بذلك حتما ،لان ما يملكه من فكر انساني حر واصيل ، كفيل بتخطي كل ما يحد من دوره وما يواجه به من القمع والاستبداد ، كما على المثقف ان لا يكون عدميا ، أي يرفض كل شيء لغاية الرفض و النكاية  لوقائع بعينها ، عليه ان يدفع بعملية التغيير الى الامام بخطى ثابته وعقل مستنير وان ينظر الى المستقبل بكل ثقة ويقين ، لان  الجديد يولد صغيرا عادة ثم يكبر ويتوسع ، والبذرة  تنبت سنابل والتغيير يبدأ من الفكر وهذا هو قانون الحياة  . 
_________________
نشرت في صحيفة كوردستان العد 558 تاريخ 15-4-2017

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…