د. ولات ح محمد
قبل نحو أسبوعين نقلت وكالة الأناضول للأنباء تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أدلى بها في سياق كلمة ألقاها أمام تجمع شبابي تركي. ومما جاء في تلك التصريحات المنقولة أن أردوغان ” حذر من وجود مشاريع لتقسيم المنطقة (…). وقال :” مثلما جرى رسم حدود دول المنطقة قبل مئة عام بالدماء والدموع والفتن، نشهد محاولات مشابهة اليوم من خلال استخدام الشبكات الإرهابية”. وأشار إلى وجود “مساومات قذرة” خلف الأبواب المغلقة، في الوقت الحالي، على غرار الاتفاقيات السرية بين سايكس وبيكو(دبلوماسيان بريطاني وفرنسي)، قبل قرن “. انتهى الاقتباس.
هل حقاً يا سيد أردوغان تكره أنت وجيرانك اتفاقية سايكس بيكو وتخشون تكرارها اليوم في الغرف المغلقة كما حدث من قبل؟؟. إذاً فلنعمل جردة حساب بسيطة: لقد كانت إمبراطوريتك العثمانية في أوائل القرن الماضي تعيش في قمة ضعفها وكانت على مشارف انهيارها. وكان من الطبيعي نتيجة انخراطها في الحرب العالمية الأولى وهزيمتها فيها أن تنكفئ على ذاتها وتعود إلى جغرافيتها الأولى التي انطلقت منها وأن تخضع لتقاسم نفوذ المنتصرين آنذاك (بريطانيا وفرنسا وروسيا). وهذا ما حدث، وهو أمر طبيعي؛ فقد أعادت اتفاقية سايكس – بيكو الأتراك إلى مناطقهم (تركيا اليوم) تحت نفوذ تلك الدول وأنشأت مناطق نفوذ لها في كل من بلاد الشام والعراق والحجاز صارت كلها فيما بعد دولاً مستقلة بعد انسحاب كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا منها. إذاً في النتيجة لم يخسر أحد منكم شيئاً، بل منحتكم سايكس – بيكو أنت وجيرانك دولاً تامة مستقلة ذات علم ونشيد قومي وصارت أعضاء في الأمم المتحدة فيما بعد. فهل بعد ذلك أنت وجيرانك جادون في صب اللعنات على سايكس وبيكو؟؟. ما رأيك يا سيد أردوغان أن تدعو معنا إلى إلغاء سايكس – بيكو وعدم تكرارها أبداً، وإلى العودة إلى ما قبل اتفاقية الرجلين؟.
نعم، أنتم على الدوام تخرجون في ثوب المظلوم الذي تعرض لظلم وخديعة نتيجة تلك الاتفاقية، وعلى الدوام تشتمونها وتحذرون من تكرارها في وقتنا الراهن ناسين أو متناسين أن دولكم هذه ما كان لها أن تكون على الخارطة بشكلها الحالي لولا سايكس وبيكو. ومع ذلك لا تكفون عن التذكير بها و(كأنكم متضررون منها) والحديث عن مؤامرات جديدة لتقسيم المنطقة، مع العلم أن مثل هذه المخططات إن وجدت ستكون محاولة من تلك الدول (المتآمرة الآن حسب معتقدهم) لتصحيح جزء من الخطأ (الجرم) التاريخي الذي ارتكبتْه بحق شعب لا يقل عراقة وأصالة عن أي من جيرانه على هذه الجغرافيا، ولا يقل عنها جدارة بإقامة دولته القومية.
لذلك عليكم يا سيد أردوغان أن تعلموا (أنتم ناكري جميل أولياء نعمتكم) أنه لولا سايكس وبيكو لكانت كوردستان التي تخافون قيامها اليوم موجودة منذ مئة عام إلى جانب دولكم التي تحسبون حدودها (المصطنعة) مقدسة ومنزَّلة بنص إلهي غير قابل للمساس به وبها؛ هذه الحدود التي وضعها الرجلان وهما على ظهر سفينة يشربان القهوة وأشياء أخرى لا تعلمونها الله يعلمها، يا لها من حدود مقدسة!!. لولا الرجلان اللذان تشتمهما يا سيد أردوغان وتتهمهما بالتآمر عليكم وتحذر من تكرار مؤامرتهما لكان على الأقل ثلث مساحة دولتك الآن اسمها كوردستان، ولما كانت دولتك بهذه المساحة الكبرى الموحدة وهي التي خرجت مهزومة من الحرب وكان يتحتم عليها أن تخضع لشروط المنتصر وترسيمه للحدود وتوزيع ميراثها دون اعتراض. لذا عليك أن تشكر الرجلين على ترسيمهما لحدود دولة كبرى بحجم تركيا الحالية تفخرون بها وتعبرون فيها عن خصوصيتكم القومية. وعلى جيرانك أيضاً أن يشكروا الرجلين لأنهما أقاما لهم دولاً من لا شيء؛ فقد كانوا جزءاً من إمبراطوريتكم الضعيفة وكانوا سعداء بذلك.
إن ” المساومات القذرة ” حسب تعبيرك والجارية خلف ” الأبواب المغلقة ” التي تتحدث عنها يا سيد أردوغان وتتوقعها وتتخوف منها اليوم قد حدثت قبل قرن من الزمن ولكن بحق الكورد، وكانت نتيجتها نشوء هذه الدول التي تنعمون بها أنت وغيرك على حساب الكوردي الذي حُرِم منها كما تعلم. ولذلك فإنك لا تخشى في الواقع تقسيم المنطقة بل تخشى أن يعيد أحفاد سايكس وبيكو الخرائط إلى صورتها الأصلية قبل تقسيمها من قبل الجدين الموقرين لأن الترسيمة الأولى قبل قرن كانت في مصلحتكم بدليل أنك تقوم ببناء جدار على طول حدودك الجنوبية مع سوريا، أي أنك تقوم بتثبيت الحدود التي وضعها وليّا نعمتكم سايكس وبيكو، وهذا يشير إلى أنك تخشى العودة إلى الصورة الأولى لجغرافية المنطقة قبل أن يعبث بها سايكس وبيكو لمصلحتكم، تلك الصورة التي تقضي بأن للكورد في جغرافيتهم ما للعرب في جغرافياتهم وما للأتراك والفرس في جغرافياتهم أيضاً.
بدلاً من حديثك عن مؤامرة لتقسيم المنطقة يا سيد أردوغان كن شجاعاً وعصرياً وحضارياً ومنفتحاً وساهم في إزالة آثار الجريمة التي ارتُكِبت قبل مئة عام لأن المنطقة ما كان ينبغي لها أن تُقسم بتلك الصورة آنذاك، وسيذكرك التاريخ (إن فعلتَ) في صفحة أكثر بياضاً من الصفحات التي تذكر سايكس وبيكو. أما هذه البروباغاندا وهذه الصرخات فإنها لن تستطيع أن تغير من واقع الحال شيئاً إذا ما كان الكبار قد قرروا فعلاً تصحيح الخرائط.
إذا كنتَ تطلق مثل هذه التصريحات وكذلك تلك التي عبّرتَ فيها عن عدم قبولك برفع علم كوردستان فوق المباني الرسمية في كركوك بغية كسب أصوات بعض القوميين الأتراك قبل استفتائك القادم فذاك أمر مفهوم. وإذا كان موقفك هذا لذر الرماد في عيون أنصارك حتى لا يقولوا إنك لم تتخذ موقفاً فذاك أمر طبيعي أيضاً. أما إن كنت جاداً في هذا وذاك وإن كنت تعني فعلاً ما تقول فاعلم أنك تغني خارج السرب لأنك تعيش في زمن لم يعد الكوردي فيه كما كان ضعيفاً وحيداً في مهب شوفينية جيرانه وديكتاتورياتهم المتعاقبة على مدى قرن كامل.
إن سايكس وبيكو ومن يقف خلفهما وحولهما هم أولياء نعمتكم التي تنعمون بها منذ مئة سنة لأنهم رسموا لكم حدود دولكم القائمة منذ ذلك التاريخ، فهل عليكم واجب شكرهم أم شتمهم ؟؟. الوحيد الذي عليه أن يرسل اللعنات للرجلين بكل أنواع البريد هو الكوردي الذي خرج من مولدهما بلا حمص وبلا فول وبلا فلافل، وبلا بصل أيضاً. الكردي الذي منذ ذلك التاريخ لم تقبلوا به إلا في دَور من يقوم بصب الزيت على حمصكم وفولكم ويقشر لكم البصل، والذي كلما فكر أن يمد يده للحمص أو الفول بوصفه حقاً له اجتمعتم عليه وتكالبتم (وما زلتم تفعلون) لكي يعود إلى تقشير البصل.
إن الذين رسموا لكم تلك الحدود المفترضة وغير المقدسة ربما يرغبون اليوم في إعادة النظر في رسمها وإرجاع الجغرافيات السياسية إلى سيرتها الأولى، فإذا فعلوا ذلك فاعلموا أنهم يرغبون في تصحيح خطئهم التاريخي الكبير لا في ارتكاب خطأ جديد كما تدعون. وإذا حدث هذا (أو قبْل أن يحدث) فادعوا جيرانكم التاريخيين (الكورد) إلى المائدة لتتناولوا معاً الحمص والفول لأن الكوردي لن يعود إلى تقشير البصل أبداً.