د. ولات ح محمد
وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ ولكنَّ عينَ السخط تُبدي المَساويا
الشافعي
تباينت ردود الفعل الكوردية على قرار ممثلي الكورد تعليق مشاركاتهم في اجتماعات وفد الهيئة العليا للمفاوضات في جنيف احتجاجاً على إهمالها المتكرر لمطالبهم ومقترحاتهم لتعديل بنودٍ مما تسمى بوثيقة لندن التي تعبر عن رؤية الهيئة العليا لسوريا الجديدة والتي تخلو من أية إشارة إلى مراعاة من أي نوع لخصوصية كوردية في تلك الوثيقة. وقد تراوحت تلك الردود بين من رأى في هذا الموقف شجاعة وبطولة وموقفاً قوياً سيأتي بالحق الكوردي لا محالة، وبين من رأى فيه استعراضاً وتمثيلاً وادعاء من قبل هؤلاء الموفدين حتى يغطوا على فشلهم، وأن شيئاً لن يتغير بعد هذا القرار.
لقد بنى كلا الطرفين ردود أفعاله على مواقف جاهزة ومسبقة الصنع ليتمَّ إلباسها لأي حالة تطرأ؛ فالأول ينظر إلى الموضوع بعين الرضا ولذلك لن يرى غير الصواب في مثل هذا الإجراء أو غيره بل في كل أداء المجلس وعمله. وحتى إن حدث وأخطأ في مكان ما فسيبحث له عن مسوغات ومخارج لهذا الخطأ. أما الثاني فينظر إلى الحدث ذاته بعين السخط والكراهية والغضب، ولذلك فمهما فعل أولئك المندوبون سيكون قرارهم موضع استهجان وتنديد وسخرية من هذا الفريق حتى لو كان ذلك في مصلحة قضيته، وحتى لو أدرك (هذا الفريق) أنه يمارس بذلك نوعاً من معاداة الذات أيضاً.
بعيداً عن رؤية أختيها ترى العين الثالثة أن قرار المندوبين الكورد في جنيف قد تأخر كثيراً؛ فمنذ أن تطاول أعضاء في الهيئة العليا للمفاوضات على الكورد بكلمات غير لائقة قبل عام كان يتوجب على المجلس اتخاذ موقف كهذا (التجميد أو التلويح بالانسحاب) علماً أنه هدد آنذاك ولكنه لم ينفذ تهديده. ومنذ تلك الحادثة تتالت الإساءات وحالات الإهمال والتجاوز لرؤية المجلس ومطالبه من قبل هيئة التفاوض، وكان المجلس يكتفى بتسجيل تحفظه وهو إجراء غير مفيد مع الذهنية الإقصائية.
من هذه الزاوية ثمة قصور واضح في عمل المجلس وعمل ممثليه في جنيف، فهو مطالب بأن يكون أكثر حضوراً وصرامة وجدية لأنه يمثل مطالب أكثر من ثلاثة ملايين كوردي، وعليه أن يتصرف بما يساوي حجم هذه المسؤولية، وإن وجد نفسه غير قادر على فعل ما يلبي طموحات الناس عليه أن يعلن ذلك ويعلن انسحابه ليضع طرف الهيئة العليا عارياً أمام الناس وأمام القائمين على المفاوضات من أمريكيين وأوربيين. هذا هو وجه القصور الأساسي في عمل ممثلي المجلس في جنيف الذي يتغاضى أعضاؤه ومؤيدوه عن قوله ورؤيته عندما ينظرون إلى قراره الأخير. ولكن من جهة ثانية ترى العين الثالثة كمّ الصعوبات والعوائق التي يواجهها ذاك الفريق في عمله؛ فأولاً هم يتعاملون مع أناس كان بعضهم حتى الأمس القريب لا يعترف بالكوردي مواطناً سورياً، بدليل أن أحداً منهم لم يطالب يوماً الحكومات السورية المتعاقبة بإعادة الجنسية إلى الكورد المجردين منها، علماً أن بعضهم كانوا وزراء ورؤساء وزراء وأعضاء مجلس الشعب وقيادات في الحزب الحاكم لأربعين سنة أو عاملين في منظمات حقوق الإنسان … إلخ، فهل علينا أن نتوقع منهم فجأة اعترافاً بالكورد وبحقوقهم كاملة وبحقهم في الفيديرالية والمساواة التامة معهم ؟؟. إنها مواجهة بالتأكيد صعبة. العائق الثاني هو قلة عددهم؛ فماذا يمكن لثلاثة أشخاص أن يفعلوا وسط أكثر من خمسين شخصاً؟. من الطبيعي والمتوقع أن يجدوا صعوبات جمة في طرح رؤاهم بسهولة ويسر وخصوصاً أن الأمر يتعلق بحقوق الكورد.
العائق الثالث يتمثل في عدم إدراج الموضوع الكوردي (كحالة خاصة) من طرف المبعوث الدولي دي مستورا على جدول الأعمال الموضوع على الطاولة. وهذا يسبب إحراجاً كبيراً لهم لأنهم سيبدون وكأنهم يخرجون عن (السلال) المتفق عليها إلى طرح موضوعات جانبية في غير وقتها المناسب. ولهذا دائماً نسمع من أعضاء في المعارضة قولهم ” إن هذا يمكن مناقشته فيما بعد “. قالوا هذا عندما انضم المجلس للائتلاف وكذلك عندما انضم إلى مؤتمر الرياض وعند تشكيل وفد المفاوضات، وكذلك عند كتابة وثيقة لندن وأخيراً قالوها في جنيف من أنه يمكن الحديث عن حقوق الكورد عند كتابة الدستور الذي يجب أن يحظى بموافقة غالبية السوريين.
كل هذه العوائق وغيرها مما لا يعرفها إلا من يعيش دهاليز وتعقيدات مثل هذه الأجواء يجب أن نتوقعها ونقدرها عندما نقيّم عمل أية جهة تتحدث باسم الكورد مع المعارضة أو مع النظام لأنها تعمل في ظروف صعبة وتتعامل مع عقول لا تعترف بغير ذاتها، ليس في مسألة الكورد فقط بل في كل علاقاتها وتعاملاتها. وهذه الذهنية (ذهنية أنا وبس) هي التي أوصلت الشعب السوري إلى هذا الدرك من الكارثة. ومن هنا فإن المهمة ليست سهلة، والمفاوض الكوردي ليس بيده عصا موسى يرميها على الأرض فتتلقف عصواتهم ثم تعود إلى جيب صاحبها حاملة الحقوق الكوردية. ولذلك من المهم أن يكشف المتابع لهم قصورهم ومواضع الخلل في عملهم لا أن يصفق لهم كما فعلت عين الرضا في الأيام الماضية، وأن يهدف من جهة ثانية بنقده إلى تصحيح مسار عملهم وليس النيل من العاملين وإفشالهم كما فعلت عين السخط.
ترى العين الثالثة أيضاً أن جنيف محفل دولي يوجد فيه كورد يطالبون بحقوق بني جلدتهم ويسعون لتثبيتها في الوثائق السورية وفي الوثائق الدولية، وهو ما أشار إليه حسن عبد العظيم أحد أعضاء الوفد (وأشد المعترضين على مطالب الكورد) قبل أيام عندما قال “إن المجلس يريد تدويل القضية الكوردية” في إشارة منه إلى الوثيقة التي أراد الكورد إرسالها إلى دي مستورا باسم الهيئة والتي فيها عبارة تقول إن الكورد ممثلون في جنيف؛ فوجود مثل هذه الإشارة في وثائق الأمم المتحدة الرسمية سيكون له أهمية بالغة عند الحديث عن الحقوق مستقبلاً. ولذلك يتطلب الأمر من الجميع وضع خلافاتهم الحزبية ومصالحهم الشخصية جانباً وتقديم الدعم والمساندة لذلك الفريق المفاوض، لأن من أهم أسباب ضعف الوفد وإهمال المعارضة لمطالبه هو استغلال الأخيرة لتشرذم الحركة الكوردية ولعمق خلافاتها ولمحاربة كل طرف للآخر وسعيه لإفشاله بدلاً من دعمه ومساندته. فالمعارضة تمارس نوعاً من عملية الاستفراد بالطرف الكوردي غير المدعوم من الأطراف الأخرى.
في هذا السياق ونتيجة لما سبق ذكره ترى العين الثالثة أن على أطراف الحركة الكوردية (بدلاً من المشهد البائس الذي تبدو عليه الآن) أن تسعى إلى تشكيل وفد يمثل كل الكورد لأن فرصة الوجود في محفل دولي لا يتوفر في كل حين، خصوصاً أن هذا الحضور يثبّت وجود الكورد على أرضهم في سوريا بوصفهم مكوناً أساسياً وحقوقهم المشروعة المترتبة على ذلك في الوثائق الدولية التي وحدها ستضمن تلك الحقوق وبدونها سيدخل الجميع في صراع طويل ستجعل من كل الأوضاع الأخرى مكاسب مؤقتة وعلى كف عفريت. إن تشكيل مثل هذا الوفد من شأنه أن يقوي الموقف الكوردي ويضفي عليه قدراً أكبر من المشروعية ويمنع بالتالي استغلال المعارضة أو النظام لتفرقها وقلة حيلتها. ولكن هذه الخطوة المهمة تتطلب من الجميع تهيئة البيئة المناسبة لإجرائها، من إيقاف للحملات الإعلامية وفك ارتباطها بكل الأطراف الأخرى وتشكيل لجنة للإعداد لطاولة مستديرة يلتف حولها الجميع دون استثناء والاتفاق على رؤية موحدة لسوريا المستقبل عموماً ولوضع الكورد فيها خصوصاً. أما النظر بعين الرضا وعين السخط فلن يستفيد منه أحد، لا من الأطراف السياسية ولا من الناس الذين ينظرون إلى هذا المشهد البائس بحسرة وألم.
وإلى أن يحدث التوافق الكوردي الكوردي المنشود (الذي سيحصل يوماً ما وربما قريباً) وإزاء ما حدث ويحدث وقد يحدث من طرف الشركاء في العملية السياسية ترى العين الثالثة أنه يتوجب على الوفد الموجود في جنيف أن يقتنع بجملة أمور ويضعها في حسبانه ويتصرف على أساسها إذا أراد أن يكون لحضوره قيمة ولتمثيله معنى. أولها أن المعارضة المتمثلة بالهيئة العليا للتفاوض هي التي تستمد شرعيتها من وجود الكورد في صفوفها وليس العكس، وأن هذا الوجود يمدها بالقوة والمساندة التي يجب ألا تكون مجانية. ثانياً أن أي حل في سوريا لن يكون بأيادي سورية خالصة بل بأيادي أجنبية. ولذلك لا ينبغي للمجلس أن يخشى من بقائه خارج الحلول إذا ما اعترض أو سجل مواقف قوية ومشرفة من أجل قضية شعبه. ثالثاً لن يتم وضع أي حل لسوريا من دون وجود تمثيل للكورد (والمجلس ضمناً) على طاولة المناقشة والاتفاق سواء أكان موجوداً في صفوف جهة معارضة أم خارجها.
إن تمتع المفاوض الكوردي (رابعاً) بشخصية قوية تمتلك الرأي والموقف يعطيه وزناً وقيمة أكثر من كونه ضعيفاً وقابلاً بكل شيء وبأي شيء، وهو كفيل بإيصال صوته إلى الجهات الراعية لأن أحداً لا يمنح الحقوق للساكتين والصامتين والقابلين بأرباعها. وقد حصل هذا عندما جمد الوفد حضوره للاجتماعات حيث بدأ مندوبو الدول وعلى رأسهم نائب وزير الخارجية الأمريكي بالتواصل مع الوفد للاستماع إلى مطالبه ووجهة نظره، ناهيك عن الصحافة العالمية، وهو أمر في غاية الأهمية ليعرف الرأي العام موقفك لأن ذلك يشكل ضغطاً على الطرف الآخر. وخامساً أن ترجع إلى قومك دون أن تحقق شيئاً أفضل من أن تعود إليه بربع ما كان يطمح إليه، ليس من باب سياسة ” كل شيء أو لا شيء ” وإنما من باب سياسة أفضل الممكن؛ فالممكن الآن كثير جداً وليس من حق أي طرف كوردي أن يكون شاهد زور وموقّعاً على اتفاقات ودساتير ستحكم البلاد لعقود طويلة قادمة دون أن تضمن الحقوق الكوردية في أفضل مستوياتها الممكنة، بحجة أن هذا هو الممكن أو أننا غير قادرين على أكثر من ذلك أو أننا لسنا وحدنا هنا أو أو … فمثل هذه الحجج لا ترد الحقوق ولا تلّمع صورة أحد في عيون الكورد. وإذا كان ثمن المواقف الصارمة من قبل المجلس هو خروجه من هيئة التفاوض فليكن، فذلك ليس نهاية المطاف وليس نهاية المباراة التي ما زالت بعيدة عن نتيجتها النهاية. وتغيير قواعد اللعبة حسب مقتضى الحال من أهم ما يجب أن يتمتع به أي مدير لأية مباراة ومن أي نوع كان. وللأمانة فقد تحدث عدد من قيادات المجلس في الأيام الماضية بهذه الطريقة وكان موقفهم الواضح وأنهم لن يساوموا على الحقوق الأساسية للكورد ولن يوقعوا على ورقة لا تضمن تلك الحقوق.
إن عين الرضا التي لا ترى العيوب وعين السخط التي لا ترى غير العيوب كلتاهما تسهمان في الفشل وتفاقم الأزمات وتعميق الخلافات التي ستكون نتيجتها إضاعة الحقوق. ولذلك يبدو الكورد اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى النظر بالعين الثالثة لرؤية الحقائق والمواضع والمواقف التي ينبغي التموضع فيها لمن أراد أن يسهم في زرع الشتلة الكوردية بعيداً عن الأحقاد والعواطف السلبية والنزوات والمطامع الشخصية والمصالح الحزبية وأجندات الخصوم. العين الثالثة هي التي ترى كل شيء كما يجب أن يُرى وليس كما يريد صاحبها أن يرى بها. العين الثالثة هي التي تفرض الصورة الحقيقية على صاحبها ولا تقبل أن يفرض صاحبها عليها رؤيته الرغبوية للأشياء. وأخيراً، إذا كانت أدواؤنا السياسية هي الأنانية والحزبوية والمصالح الضيقة فإن العين الثالثة هي الدواء لها..