د. محمود عباس
ما مصير دمشق بعد جنيف؟ سؤال مليء بالحيرة والمخاوف، لأن احتماليات مصير مشابه لحلب الشرقية تنتظر المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، والانتصارات الأخيرة للمعارضة في بعض أحياء دمشق رسالة روسية بامتياز:
أولاً، لإيران، المتبجحة بأنها حافظت على عدم سقوط السلطة، ومن خلف إيران لسلطة بشار الأسد، وهي المحيرة بعض الشيء.
والثانية، للمعارضة المنتصرة شكلاً، في حال لم توافق وفدي الهيئة العليا والمسلحة التكفيرية بشكل خاص على الشروط الروسية.
روسيا، الدولة التي لن تسمح لسلطة بشار الأسد بالسقوط، حتى ولو رجح تنازلها عنه كشخص وليست كسلطة، وهو احتمال بدون مؤشرات، فوجود السلطة هي الشرعية الدولية لبقاء القواعد الروسية في سوريا من جهة، ومواجهة دائمة للتكفيريين، الذين لا يتبعون أجنداتها، ليست فقط في سوريا بل وفي المنطقة بشكل عام، إلى جانب أن سوريا هي بوابتها الكبرى لدخول المنطقة والهيمنة عليها. وشروطها بعمومياتها، على الأقل، هي التي يجب أن تنفذ، مع دستورها، في جنيف، أو الحوارات القادمة، وإلا فالقادم رهيب، وكوارث أخرى ستضاف على الكوارث السابقة، على الأقل في دمشق.
فهل تسأل المعارضة نفسها، لماذا هذا التفوق العسكري المفاجئ لها في دمشق وبعض المناطق الأخرى؟ وهل روسيا متقاعسة على معاملتهم مثلما فعلتها في حلب؟ أم أن وراء التحجيم الروسي المؤقت أحجية؟ أليست كافية مجريات الأحداث في دمشق، والمؤامرة بين تركيا وروسيا على حلب والباب، وغيرها من المناطق، لتعيد المعارضة حساباتها، وتفتح في جسمها أبوابا، تنبثق منها شريحة وطنية تفضح المنظمات السياسية العروبية التكفيرية، وتنقذ سوريا من السلطة الإجرامية والميليشيات المساندة، ويعطوا القليل من الأمل للمجتمع السوري المصدوم والمنهك. فالشعوب السورية تحتاج إلى تمثيل وطني صادق في جنيف القادمة، حتى ولو بعد الخامسة هذه، بعد اقتناعهم بفضاحة نتائج القوى التكفيرية والانتهازية السياسية، وما آلت إليه النهج العنصري والإسلام الراديكالي، الذين أغرقوا الثورة في مستنقع مؤامرة السلطة الدكتاتورية والإجرامية.
هل هي بصيص أمل، التغيرات الطفيفة الجارية في شخصيات الهيئة العليا للمفاوضات، التي تحضر مؤتمر جنيف-5، وتقربها الخجول من المنظمات التكفيرية، وتفضيل الجيش الحر، حتى ولو كانت من باب الدعاية الإعلامية، وتعطي بشائر لإزاحة الغطاء عن الوجه البعثي الانتهازي الذي كان مسيطرا مع الإسلام الراديكالي على الوفود السابقة؟ وهل التهنئة الصادرة من الائتلاف الوطني السوري، والتي نشرت في موقع (ولاتي ما) بمناسبة نوروز، رغم ما فيها من تحايل في العبارات، والتدوير السياسي، للتمويه على مواجهة حقيقة جغرافية وتاريخ الكرد في جنوب غربي كردستان، ورغم ما يظهر فيها من نزعة التعصب القومي، والمتماشي مع الأجندات التركية، خطوة وطنية صادقة مع الذات قبل أن يكون مع الكرد. وهل ستكون لهم الجرأة، بل ويجب أن تحثهم، دراسة النظام الفيدرالي لسوريا، أو على الأقل فيدرالية المنطقة الكردية، حتى ولو كانت التهنئة في خلفيتها السياسية سباقاً مع سلطة بشار الأسد، الذي احتفل بشكل رسمي بنيروز، لكنها خطوة نحو الأفضل.
بدون التغيرات في جسم المعارضة، وفي الوفد، أو في طروحاتهم، ونهجهم، فإن مفاوضات جنيف الخامسة ستنتهي مثل غيرها، وعلى الأغلب سيتم تصعيد في الصراع العسكري، وهو في الواقع تهديد مباشر لمركز النظام نفسه، وعليه فإنه لن يكون هناك حل سياسي في سوريا، وسيتحمل تبعات دمار سوريا، وقتل الشعب الآمن، وديمومة حفاظ الروس والقوى الإقليمية على الصراع العسكري، ليس فقط سلطة بشار الأسد بل المعارضة السياسية والعسكرية معا.
وما مصير مدينة الرقة؟ والتي لها علاقات مع مجريات الأحداث في دمشق وجنيف، والوجود التركي في شمال سوريا (المنطقة الكردية) العملية المتلاطمة ما بين التحضير لتحريرها، والقوى التي ستشارك فيها، والإقليمية التي ستخسر الكثير من أجنداتها في دحر داعش. أسئلة أكثر من محيرة تطرح نفسها (تفرضها الظروف وليس التخطيط المسبق)! فإلى جانب أن العملية هي تحجيم لهيمنة داعش في المنطقة الشمالية لسوريا، تثبيت غير مباشر لمنطقة فيدرالية كردية، ووجود القوتين الدوليتين( روسيا وأمريكا) يرجحان من هذه الاحتمالية، ولذلك فإن وفد سلطة بشار الأسد وبدون مواربة وبشكل سريع (وبعد تصريح وزير الدفاع الفرنسي، وعملية تحرير مدينة الطبقة، والإنزال العسكري المشترك بين الأمريكيين وقوات سوريا الديمقراطية، مقابل الصمت الروسي اللافت، ويوحي على الأغلب هناك أتفاق بينهما) غير بوصلته من محادثات جنيف إلى حيث معركة الرقة، وركز الجعفري على وجود داعش في المدينة، المبررة أصلا شرعية سلطة رئيسه، مثلما تستند على غيرها من المنظمات التكفيرية المحاربة على عدة جبهات ضمن سوريا. ولم يكن غريباً توافق تصريحه الملتوي (لا يحق لأمريكا وقوى التحالف فتح جبهة الرقة بدون التنسيق مع بشار الأسد) مع الأجندات التركية، الداعمة لشريحة داعشية خاصة بها (فهي منظمة تخدم الكثيرين) وكلمته خلقت الشكوك حول اتفاق ما بين تركيا والسلطة السورية، مثلما كانت بينها وبين روسيا أثناء دخول جرابلس واحتلال منطقة الباب، وتدمير حلب. ولا وجه غرابة هنا، لأن وجود المنظمات الإرهابية خدمة مباشرة لأجندات أردوغان في سوريا، ولديمومة سلطة بشار الأسد.
ويظل السؤال الأخطر على المدى الاستراتيجي، والذي لا يغيب عن ذهن معظم المهتمين بالقضية الكردية: ما هو تأثير الوجود الكردي في المنطقة لتشترك كل السلطات الإقليمية بالتآمر عليهم وعلى قضيتهم؟ علماً أنهم الشعب الأكثر استقامة وعزما على محاربة الإرهاب! فأول ما يجب أن ننتبه إليه، هي دراسة الجغرافية التي تحتلها الديمغرافية الكردية، من حيث البعد السياسي والاقتصادي والثقافي، كما وأن ظهور كردستان ستزيد من احتمالية القضاء على السلطات الدكتاتورية في المنطقة، أو أنها ستضعف قوتها، وستغير من الأنظمة، والمفاهيم، وستخلق ثقافة نوعية عصرية حضارية، تنفضح فيها معظم الجهات التي شاركت في كتابة صفحات تاريخ الأنظمة الفاسدة المهيمنة على المنطقة لقرون.
فداعش في الرقة، بالنسبة للسلطات الإقليمية، أو في أي مكان من المنطقة، خير لها من الوجود الكردي، ولا شك القضاء عليها بيد الكرد، عملية جدلية، ترجح فيها تزايد الاهتمام الدولي بالقوة الكردية وبالتالي بقضيتهم القومية، بعد أن أثبتت جميع القوى الأخرى في المنطقة، عدم مصداقيتها، وفعاليتها، بل تعاملها مع داعش والإرهابيين التكفيريين بشكل أو آخر. وهنا لا يستبعد تقارب علني ما بين تركيا والسلطة والمعارضة العروبية التكفيرية، حول ليس فقط على عملية تحرير الرقة وحدها، بل على محاولة تحجيم القوى الكردية في المنطقة.
ومن هذا المنطلق، يتوقع أن تكون هناك تفاعل ما بين القوى المتحاورة في جنيف، ليس فقط على قضية الحكومة الانتقالية، ومدة الانتخابات، والإرهاب، بل على بنود من الدستور للتضييق على حقوق الشعب الكردي في سوريا، وهنا وإن فعلتها المعارضة السورية، وخرجت من الإطار المرسوم لها روسيا، سترجح المشهد المتوقع لدمشق.
المسرحية الدراماتيكية المتداخلة، على الأغلب لن تنتهي في جنيف الجارية، والتي قد تطول، لكنها بداية بصيص من الأمل، فمن دمشق بدأ يتراكم الضغط على وفد السلطة، ومن الرقة وبمساعدة الأمريكيين، يتزايد ثقل هموم أردوغان، وأردوغان بدوره يضغط على المعارضة، لقبول الشروط الروسية، آملا أن تفعل روسيا شيئا ما للحد من التوسع الكردي. علاقات متداخلة، تشتغل فيها الدبلوماسية الدولية والإقليمية أقذر أدوارها، وتباع القيم لمصالح دونية، لا ثمن فيها للشعوب ولا لحقوقهم، وما يقال حول الدفاع عن المدنيين ليس في معظمه سوى دعاية إعلامية لجلب مكاسب سياسية.
وهنا وفي النهاية المصالح قبل المكر ستنجح، ولهذا فإننا ننبه القوى الكردية، أن نشاطاتها المنعزلة عن بعضها، في هذا المجال أضعف من المعروض، وتفضيلهم المصالح الذاتية الحزبية على الوطنية، تحجمهم عن رؤية المستقبل. ومهما قيل فإن تراكمهم المعرفي سيكون دون الحدث، إن لم تتم حوارات بين جميع الأطراف، وخاصة تلك التي على اختلاف. ويبقى الأمل بأن تكون مصالح الدول الكبرى أعلى من سذاجتنا، وأخطاء القوى الإقليمية أبشع من الخلافات الحزبية الكردية.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamkurda@gmail.com
24/3/2017م