في مقال سابق نشرته حول ظاهرة تقليد الحركة الكردية للبعث في عدد من القضايا ، وقد أثار ذلك المقال ردود أفعال متباينة إلى حد التناقض ، لأن كل طرف ينظر إلى المقال ويحلله ويقرأه من موقعه والاتجاه الذي يسعى للسير فيه ، فالجهات التي ترغب في تسليط الضوء وبشكل فعلي على نواقص وأخطاء الحركة وتشخيصها بدقة بغية البحث عن أفضل الحلول والصيغ انطلاقاً من ذلك التشخيص ( لأنه بدون معرفة النواقص والعيوب لا يمكن المعالجة )
فالفئات التي تؤمن بالشفافية والديمقراطية قولاً وعملاً وتسعى إلى تطبيقها ، والفئات التي تبحث باستمرار عن التحديث والتطوير باعتبارهما حقيقة وصيرورة الحياة والنجاح ، والفئات التي ترغب بالنهوض بالحركة من واقعها الأليم ودفعها إلى الأمام ، تلك الفئات أبدت ارتياحاً للأفكار التي وردت في المقال واعتبرتها لسان حالها .
أما تلك الفئات التي تنطلق من مواقع محافظة ، مواقع تريد الحديث عن الديمقراطية والإصلاح ، وتريد من الغير تطبيقها ولكنها تبتعد عنها حيثما يتعلق الموضوع بها ، شرائح وفئات تريد المحافظة على كل ما هو موجود والاستمرار على حاله واعتبار أن ما توصلت إليه يشكل الأفضل والأحسن وأن كل مساس به هو مساس بالمقدسات ، فقد أبدت الاعتراض على أفكار المقال واعتبرته خروجاً عن المألوف والمتعارف عليه ، وأنا أحترم مواقف الاثنين ولكنني مع التغيير والتحديث والشفافية .
فطبيعة الحياة والتطور تقوم على فعلين متناقضين ، اتجاه يسعى إلى تحريك المجتمع إلى الأمام مشخصاً نواقصه وعناصر ضعفه والبحث باستمرار عن الأفضل معتمداً على قاعدة البحث العلمي ( لابد أن يكون هناك أفضل مما توصلنا إليه الآن ) هذه القاعدة التي تعتبر المحرك الأساسي للبحث العلمي وبالتالي للتطوير ، واتجاه آخر يعتقد أن الحفاظ على المجتمع بحالته الراهنة والذي هو نتاج عشرات السنين هو خير ما تقوم به بل تدافع عن كل مظاهره وتعارض أي مسعى إلى إحداث أي تغيير فيه ولو من قبيل الفكر والطرح النظري ، وانطلاقاً من هذا الفهم فإن فئة قليلة جداً من أبناء شعبنا تحولت الأحزاب بالنسبة لها من أداة نضالية ( قابلة للتطوير والتحديث مع تغير الظروف الموضوعية إلى ( كتاب مقدس ) لا يجوز المساس به وإنه صالح لكل زمان ومكان وإن أي مسعى للتغيير والتطوير هو مساس بالمقدسات لا يمكن القبول به وتلك الفئة القليلة من أبنا شعبنا هي نتاج ثقافة محددة شمولية تراكمت خلال سنين من العمل الحزبي بعيدة عن التطوير ، تراكمت خلال عقود من الزمن ، فالقضية الكردية في جوهرها هي قضية ديمقراطية رغم خصوصيتها القومية الساطعة والديمقراطية ومرتبطة عضوياً مع التغيير والتطوير المستمرين ، ولا يمكن الحديث عن الديمقراطية إلا بمفاهيم ديمقراطية ، قوانين وأنظمة داخلية تكرس الديمقراطية ، وبالتالي إنتاج قيادات وهيئات عليا تكون نتاج العمل الديمقراطي .
وفي هذا المقال لا أدعي الصوابية المطلقة ، ولكن الذي أنا متأكد منه هو أنني طرقت باباً جديداً يجب الخوض فيه والنقاش حوله بكل موضوعية وجرأة ، لعلنا نتجاوز تلك الحالة السائدة في الحركة والقائمة على جملة واحدة وفهم شمولي واحد .
وهي عبارة .
( لقد أثبتت الأحداث صحة مواقفنا سياساتنا ) هذه هي لسان حال كل فصائل الحركة !!! فكما تعلمون أن حزب البعث هو حزب وحدوي من حيث الشعار المطروح وأحد الأهداف الرئيسية له ( أهدافنا : وحدة حرية اشتراكية ) بل يعتبر الهدف الأول والأكثر قدسية من بين جملة الأهداف المطروحة ، هذا الشعار الذي يردده صباح كل يوم ومنذ أكثر من أربعة عقود الملايين من أبناء شعبنا السوري تردده كل الوحدات النظامية في اجتماعاتها ، ويردده الطلبة والتلاميذ في مدارسهم الابتدائية والإعدادية والثانوية ، وكذلك طلاب التدريب الجامعي وكل القطاعات التي لديها اجتماعات صباحية ، إنه شعار مرسوم على الغلاف الأول لمعظم الكتب المدرسية ، شعار يملأ الساحات العامة والشوارع وجدران المدارس والمعاهد وكل الدوائر الرسمية في الدولة .
الآن يمكن تقييم الخطوات الوحدوية أو على الأصح تقييم الحالة الراهنة ، هل نجح حزب البعث في تحقيق إنجازات وحدوية ؟
ثمة وحدات مؤقتة تحققت إحداهما قبيل وصول البعث إلى السلطة ، الوحدة بين مصر وسوريا وتجربتان أخريان بعد وصول البعث إلى السلطة ( سوريا – مصر – ليبيا ) عبر الاتحاد الثلاثي والذي لم يدم طويلاً ، وكذلك محاولات الوحدة بين سوريا والعراق التي انتهت بإعدام العديد من القيادات في الجانب العراقي من قبل صدام حسين ، وما عداها بقي شعار الوحدة شعاراً مركزياً ولكن من حيث الفعل والإنجاز والتطبيق يمكن للقارئ الحكم عليه ، وهنا ثمة نقطتان هامتان يجب توضيحهما تتعلقان بأسباب عدم تحقيق وحدات بل قد تكونان السببين الأساسيين :
1- إما أن الوحدة هي بحد ذاتها شعار لتحقيق أغراض سياسية وجماهيرية وسلطوية
2- أو عدم نضج الظروف الذاتية للوحدة ( أعني بها أن تحقيق الوحدة بين أي بلدين يجب أن يكون هناك رئيس واحد ، رئيس وزراء واحد ، أي أن بعض المسؤولين من الدرجة الأولى يجب أن يفقدوا مناصبهم ومراكزهم ، وبالتالي امتيازاتهم الخاصة التي يتمتعون بها بدون عملية الوحدة ، هذه الامتيازات التي تتراجع كثيراً بل تغيب لدى البعض في تحقيق الوحدة ) أما الظروف الموضوعية التي تخص الدول العربية وجماهيرها وشعوبها فأعتقد أنها ناضجة تماماً لتحقيق الوحدات الجزئية ( أي في الأقطار ذات التطور المتشابه ) ولكن عدم نضج الظروف الذاتية التي تتعلق بالمسؤولين وإصرار كل منهم على الاحتفاظ بكل مراكزه وخاصة ذوي النفوذ والقرار في هذا البلد أو ذاك قد شكل ظروفاً وعوامل لا يمكن تجاوزها في الإطار العام ، لذلك بقي شعار الوحدة مجرد أمنية ، مجرد أغنية ، مجرد كلمة تردد كل صباح لدى قطاع واسع من الجماهير دون أن ترى النور.
أما الحركة الكردية في سوريا فإن نظرة سريعة على واقعها تظهر لنا أن هنالك 13 حزباً على الساحة عدا عن التنظيمات التي تشكلت خارج سوريا ، هذه التنظيمات التي لا تعبر ولا بأي شكل من الأشكال عن ظروف موضوعية تتعلق بالبنى الاجتماعية والفكرية والعقائدية ذات الصلة بالمجتمع الكردي وإنما ناجمة عن ظروف ذاتية تتعلق بالأحزاب فقط وتحديداً بقياداتها ، فظاهرة التعددية السياسية هي ظاهرة صحيحة وصحية ولكنها إذا توافقت مع الظروف الموضوعية التي تتطلبها خيارات المجتمع ( أي مجتمع ) وظروفه المشخصة ، وفي واقع شعبنا الكردي فإن الخيارات وبالتالي الخلافات والاختلافات وبالتالي شرعية وجود هذا التنظيم أو ذاك يتعلق بـ :
1- الخلاف على الوجود الكردي في سوريا من كونه شعباً يعيش على أرضه التاريخية إن الخلاف الجوهري حول هذه النقطة قد يكون سبباً لانشطار الحركة الكردية إلى شطرين
2- الموقف من السلطة : أيضاً إن اختلاف وجهات النظر العميقة والفعلية حول تقييم السلطة وطبيعتها وماهيتها وبالتالي تحديد الموقف منها قد يكون سبباً لانشقاق آخر .
3– أسلوب النضال المعتمد أيضاً : فإن اسلوب النضال قد يكون سبباً آخر للانشطار ، فقد يكتفى البعض بالأسلوب السائد سابقاً منذ عقود من الزمن ويدافع عنه مقدماً مبرراته وله كل الحق في ما يعتقده ، أما البعض الآخر فقد يعتقد أن ثمة تغيرات عميقة قد حصلت وأن الأسلوب السابق السائد لم يعد يفي بمتطلبات النضال ووفق ظروف المرحلة وله أيضاً كل الحق في ما يعتقده وقد يضاف إلى ذلك حزب طبقي ينطلق من مفهومه الخاص رغم عدم تبلور الطبقات في المجتمع الكردي كتلك التي تبرز في الدول الصناعية أما عدا هذه العوامل فإن أي انشقاق لا يوجد ما يبرره على ارض الواقع مهما حاول البعض تقديم المبررات لوجوده .
إن ما وصلت إليه الحركة الكردية من تشتت نحن الذين صنعناه بأيدينا ونحن نتحمل مسؤوليته كاملة ، واعتماداً على التحليل الذي ذكرته آنفاً فإن الساحة الكردية تختلف حول بعض القضايا وبالتالي فإن الواقع يسمح بوجود (3-4) تنظيمات دون أن أعطي لنفسي الحق بتسميتها أما ما عداها فتفقد الشرعية النضالية وتتحول الفصائل إلى مجرد هياكل ، إلى مجرد تجمع بشري لخدمة فئة معينة داخل الحزب .
ونتيجة لعوامل عدة منها :
1- ضغط الشارع الكردي ودفعه التنظيمات باتجاه الوحدة
2- إدراك معظم القواعد الحزبية الأخطاء التي ارتكبت بحق الحركة والشعب نتيجة واقع التشتت
3- تسخير شعار الوحدة كأحد العناصر الرئيسية لأغراض حزبية وبالتالي تحويل شعار الوحدة إلى مادة إعلامية .
4- التهرب من تهمة الانشقاق الذي مارسه البعض بحق أحزابه دون أسباب موضوعية .
إن العوامل المذكورة السابقة تضافرت كلها لتشكل ضغوطاً متزايدة على العديد من قيادات الحركة والتي رفعت بدورها شعار الوحدة لامتصاص العوامل المذكورة الضاغطة ولتحولها إلى أداة جديدة من أدوات العمل السياسي والإعلامي والجماهيري دون أن تقدم خطوة واحدة بالاتجاه الصحيح فالشارع الكردي يعج بالمشاريع الوحدوية ، بل إن معظم الانشقاقات الحزبية تحصل تحت شعار ( دفاعاً عن وحدة الحركة !! من أجل وحدة الحركة !! ) لنتصور معاً الانشقاق عن الحزب وعقد مؤتمر شعاره الأساسي من أجل وحدة الحركة الكردية في سوريا ، فكيف الذي لا يستطيع حماية وحدة حزبه يستطيع تحقيق وحدة الحركة ؟ أعتقد جازماً أن الظروف الموضوعية تحتم وحدات اندماجية بين العديد من الأطراف المتشابهة في القضايا الجوهرية لاختزال الحركة إلى عدة أحزاب (3-4) إن هذه الوحدة ممكنة والظروف ملحة على أكثر من صعيد ، إن جميع الظروف الموضوعية سواء تلك التي تتعلق بالقضايا القومية العامة والقضايا الوطنية أو ما يتعلق بقضايا النضال وأسلوبه والتفاعل مع الحراك العام الوطني الكردي ، تشكل الأرضية الصالحة والمتينة لتحقيق الوحدات الاندماجية ، لكن العائق الأساسي هو الذي يتعلق بمكانة ومركز القيادات الكردية وخاصة تلك التي تملك أو تصنع القرار في أحزابها وذلك لأن أية عملية وحدوية تعني انزياح العديد من القيادات بالاتجاه الذي لا يرغبون فيه أي سيكون هناك سكرتير واحد ، مكتب سياسي واحد ، لجنة مركزية واحدة ، وبالتالي يعني تخلي أحد السكرتيرين وبعض أعضاء المكتب السياسي ، وكذلك اللجنة المركزية عن مراكزهم ، وهذا يشكل عقدة العقد لدى الحركة الكردية لأن معظم الانشقاقات تكمن وراءها أو في جوهرها مسائل شخصية تتعلق بالصراع على المراكز الحزبية ومراكز صناعة القرار في الحزب ، لذلك ففي أي مشروع كردي وحدوي من السهل جداً التوصل إلى تفاهمات وتوافقات مشتركة بشأن مجمل القضايا التي تهم الحركة الكردية وفي زمن قياسي قصير ولكن تبقى العقدة الأساسية في توزيع المناصب القيادية وأعدادها وحصصها ( لكل طرف يدخل في عملية الوحدة ).
ففي معظم مفاوضات الأحزاب الكردية من أجل الوحدة الاندماجية لا توجد أصلاً محاور أو مشاريع أو مسودات للقضايا السياسية سواء كانت تلك التي تخص التطورات العالمية والإقليمية أو تحليل طبيعة السلطة الحاكمة أو الموقف منها والنقاش حول أسلوب النضال المتبع ومدى جدواه وأيضاً أسلوب النضال المفترض اتباعه وغيره من القضايا السياسية والنضالية والاجتماعية حيث إن جميع تلك القضايا التي يجب أن تعتبر جوهرية لا يتم حتى النقاش حولها أو يتم نقاش قصير جداً وثانوي حولها وإنما تتركز النقاشات والمفاوضات التي قد تمتد لسنوات حول حصة كل طرف من المندوبين في المؤتمر ، حصتهم في القيادة العامة ( اللجنة المركزية ) حصصهم في المكتب السياسي ، وموقع كل سكرتير ، مما يؤكد النزعة الشخصية الكامنة وراء الانشقاقات وأيضاً نفس النزعة هي الكابحة والمانعة لأي عمل وحدوي ، لذلك فأفضل وسيلة للخروج من هذا المأزق ، مأزق الوحدة للبعض هو تحويله من مسعى حقيقي لإنجازه إلى شعار يومي ومادة إعلامية لاحتواء الضغوط السابقة من جهة ولكسب الشارع الكردي التواق إلى الوحدة وليدفع عن نفسه تهمة الانشقاق أو عدم قبول الوحدة .
إنني لست متشائماً بطبعي ولكن ثمة سؤال هل إن تلك القيادات التي قادت الحركة إلى حالة التشتت والتشرذم قادرة على الثورة على نفسها ووضعها ومراكزها ، قادرة على تجاوز ذاتها الحزبية والشخصية لتقود الحركة بالاتجاه الآخر الذي يحقق الوحدات الاندماجية على حساب الزعامات الحزبية وامتيازاتها ، ومن هنا يأتي دور القواعد الحزبية والعناصر المتنورة في القيادات الحزبية والمؤمنة فعلاً بمنهجية التغيير والتطوير والوحدة وذلك باستمرار وتكثيف الضغوط تجاه الوحدات الاندماجية وعدم إفساح المجال لتتحول قدسية الوحدة إلى مجرد شعار ، إلى مجرد كلمة ومجرد أغنية تتردد في الجلسات الحزبية والجلسات العامة المختلفة في الزمان والمكان لأن الوحدة عملية حيوية وتأتي حيويتها من ضرورتها وأهميتها وقدرتها على تحقيق الأرضية الصلبة والظروف الذاتية الناضجة للحركة للتفاعل مع جملة من المعطيات الجديدة وبالتالي قدرتها وبأفضل الصيغ على قيادة الجماهير الكردية نحو أهدافها المشروعة ، لكن مما يؤسف له حتى الآن أن الوحدة هي مجرد شعار يحول تدريجياً هذا الهدف الحيوي إلى مجرد كلمة ومجرد فكرة تتحطم كل معانيها وقيمها على صخرة النزعات الفردية الضيقة ، هذه النزعات التي أثبتت حتى الآن قدرتها على الديمومة وعلى التفوق على الخيارات الأخرى بما فيها خيار الوحدة مما يرسخ يوماً بعد يوم الحالة الحزبية الضيقة وحالة التشتت وذلك بالتوازي مع شعار الوحدة المطروح هنا وهناك .
أتمنى أن لا ننتظر عملية تحقيق الوحدة عقوداً من الزمن كما هو الحال لدى الجماهير العربية التي تنتظر الوحدة ليتحول في النهاية إلى مجرد شعار ومجرد أغنية ، فحتى الآن الكل يريد الوحدة ولكنها تلك الوحدة التي تحافظ على خصوصيتهم ومراكزهم وامتيازاتهم ووفق شروطهم الخاصة ، فهل نستطيع تحقيق وحدات تحقق هذه الشروط ؟؟ إذا كان الكل يريد الوحدة وهذا الكل هم أصحاب القرار فلماذا لا تتحقق الوحدة ؟ وما هي القوى الذاتية التي تمنع وتعرقل تحقيق مثل هذه الوحدات ؟ إنه سؤال بانتظار الجواب الواقعي ……