ابراهيم محمود
” إن تجرّأت على أن تكون مختلفاً، عليــك أن تكـون مستعدّاً للمهاجمة “
باولو كويلو
=====
في مثل هذا اليوم، أي قبل أربع سنوات، قدِمتُ مع عائلتي إلى إقليم كردستان، وهأنذا أحضّر نفسي وعائلتي لسنة نارية كاوية تالية، ومرارة الكردية في ازدياد، ورعب أن يصبح الكردي أكثر عداء لكرديته في ازدياد، وخيبات الكردية في ازدياد، إذ بات تمسُّك كل حزب بالكردية على مقياسه أكثر من ذي قبل، في ضوء الارتزاقات المتوافرة، ومن يتحدث عما يُسمّي بوحدة أحزاب كردية، يخدع نفسه، إن لم يكن مراوغاً، ومرتزقاً، والخاسر الأكبر هو الكردي الممزَّق هنا وهناك، وفي الواجهة من يعمل في الحقل الثقافي، فلا أحد يشتريه بـ” Polek ” كما قال خاني قبل أكثر من ثلاثة قرون.
وما أكثر مراراتي الكردية، وأنا في أتون الحدث، وكيف تُسوَّق كرديات، وتبقى الكردية التي تعني كل كردي في واد آخر، ومضلّلٌ ومخادع مرة أخرى، من يقول أن الكرد ازدادوا وعياً بكرديتهم ! الصحيح، أن الكرد ازدادوا بؤساً وتزايدَ صدمات بمن يبتزونهم من ” أولي أمرهم “.
هنا، إذ حيث يسهل تتبُّع الحراك الكردي، يسهل بالمقابل تلمُّس فداحة المحقق.
وربما اعتبِرَ يوم الجمعة السالف بمسرحه الشنكَالي، إذ عيشت ساعتان من الرعب المتواصل، رعب تملَّك بسطاء الناس المنجرحين في كل أجسادهم وأرواحهم، ومن يعيشون مآسيهم الدامية، وهم قلَّة، وما ترتَّب على هذا الحدث الانفجاري من مخاوف يُخشى جانبها، مثَّل شرارة أخرى من شرارات كردية- كردية لها عراقة تاريخ يخجل منها كل كردي كردي.
ويزداد يقيني باضطراد على أن كل شعور بثقافة على مستوى الكردية الفعلية بعيداً عن عدوى التحزبيات والشلليات الثقافية المزعومة المتظللة بها خصوصاً، نوع من الانتحار، دون جدوى.
أقول ذلك، وأنا لا أدبّج رثاء لذاتي، حيث لم أمت بعد، وإنما رثاء شعب لم يتعلم ” أولو أمره ” حتى اللحظة ممّا يمثّل فيهم تاريخياً، والأنكى ما يمثّلونهم هم في بعضهم بعضاً وفي أنفسهم.
الواقع يصادق على ذلك، فمنذ إعلان ما يُسمَّى بالمجلس الوطني الكردي السوري، أي وهو في طور التشكل، عن أنه لن يقبل بانضمام أي كان إليه إلا ما يوافق توجهاته، وقد صدق في هذا الجانب حقاً، فالسرعة الزمنية التي شهدت دخول من لهم صلة ما بالثقافة، وخروجهم، أو هروبهم من دائرته، أكَّدت ذلك، وأعجب العجب حين يعرّف مجلس كهذا بأنه كردي وطني، ولا يضم إلا مقاعد تحزبية لا أكره عليها ممن يعرّف بنفسه مثقفاً خارج ” مسطرتهم “، والعجب يزول في ضوء الذهنية الجامعة، وهي انقسامية، تلك التي تشدهم إلى بعضهم بعضاً، وما أبعدهم عن بعضهم بعضاً، فليس من مسافة اختلاف بين حميد درويش وابراهيم برو، أو فؤاد عليكو وصالح كدو، أو محمد موسى ونصرالدين ابراهيم…الخ، إلا في الجهة التي يجلس فيها كل منهم، والكردية الممزقة وما يمثّل فيها هي قاسمهم المشترك الأعظم، وليس كيف يكمّل أحدهم الآخر.
ولعلم ابراهيم برو، وقد مر ذكره، فإنه من هزئيات التاريخ اعتقاده أنه ” استدعي ” من البيت اللاأبيض لسماع وجهة نظر وفده، فأميركا ليست بحاجة إلى كل ذلك، فإن أرادت لقرَّرت ذلك منذ عقود زمنية طويلة، ولكنه النص المسرحي الذي لم يمثَّل بعد.
وما شهدتُه في السنوات التي مرَّت من تجاذبات، وما أتلمسه من تمزيق للكرد على ” ماصا: طاولة ” المكايدات الحزبية الكردية في ” روجآفا المنكود ” هنا في الكرد اللاجئين، الهائمين على وجوههم، أعني بهم الباحثين عن أمان، وحيث تضمهم مخيمات وخلافها، وهم مشدودون معتصَرون بين كماشة هذا وسندان ذاك، ونزيف الهروب والخروج إلى أرض التي لم تعد واسعة تدينهم دون استثناء.
ولعلم من يريد أن يعلم مجدداً، أن ما ينتظر الكرد، ربما يرفع بهم إلى أكثر تراجيديات التاريخ المعاصر إيلاماً، تراجيديا تقرأ أوراقها بين كل من أميركا وروسيا ومن يتظللون بهما، وربما الحدث السوري” ثورة عند نسبة من كردنا “، حتى الآن ألحق من الأضرار المأساوية ليس بكرد ” سوريا ” فحسب، وإنما كرد الجوار أيضاً، ونحن نتلمس في هذا الحراك المريع جلادي جلادين وضحايا لضحايا لضحايا، وما يعايَش هو الفارض منطقه المتعاود: أن يصبح الكرد جلاد جلاد كرديه، وضحية ضحيته. أوليس هذا التبعثر بمئات الألوف تسونامي كردياً، وليس المعتبَر عدواً، وبالاسم تماماً؟ ألا رحماك يا ” بكو “، لكم ظلموك وزوَّروا باسمك تاريخاً !
ومرارتي كباحث، كمرارة أي كردي حيث يمثَّل فيه هنا وهناك، سوى أن ما عشته وأعيشه، ولا أدري إلى متى، ربما يمنحني تمايزاً في تجرع غصص خيبات تجاه الجاري.
إنها أكثر من حالة ” تشاؤم العقل ” وتشظيات الذات في مهب المستجدات الدواماتية !
فالتعتيم الجاري حتى على مستوى إعلام الإقليم له صلة بسعي من يريد أن يكون فوق الانقسامات، وقد نجح ” ممثّلو ” الانقسامات الكردية الروجآفاويون في ذلك أكثر من غيرهم وأي نجاح، وهذا يسجَّل لهم، لأن المنابر الإعلامية مدارة من قبل من يعنيهم أمرهم إجمالاً.
وعدم الاتصال من أي جهة، في الشأن الثقافي البعيد عن ” الكولكات “، دليل آخر، على أن الكردية الموعودة لا أمل لها حتى في الأفق المنظور، وأنا أشدد على هذه النقطة.
إذ، رغم صدور كتب عديدة لي، وكتابة أكثر من ألف مقال انترنتي وغيره عما نعيشه كردياً، لم ” أحظ ” بعد بسماع صوت ” كردي ” له ضلع في هذا الشتات الكردي، على الأقل، ولو مسايرة، وهذا يفصح عن خواء المفكَّر فيه كردياً لدى المتربعين في كراس متجاورة هنا.
وعلينا توقُّع الوضع الأفظع الذي سيعيشه مَن سيرجعون ؟!! ذات يوم إلى حيث كانوا وبين جنبيهم خرابات كثيرة، وما أقلهم، كيف سينظرون إلى بعضهم بعضاً تكيفاً وانطلاقة عهد جديد؟
وما يزيد الطين بلة، هو أن الذين أعرفهم، وفي المجال الثقافي، وحتى ممن يعتبَرون أصدقاء، ويعيشون بعيداً عن ” الديار ” في أوربا قبل غيرها، ما أن تشكو هماً حتى يبادروك بالقول بأن وضعهم أكثر سوءاً من وضعك، وهو عجب آخر في عِداد العجائب الكردية، كما لو أنهم يطالبونك بأن تشكر ” المخاوف ” التي تعيشها، وترثي لحالهم، في كل سؤال عن واقع الحال؟!
نعم، لا أحد يمتلك حق تقييم الكردي بمعاييره الخاصة، سوى أن الذي يكتب عن ” داعش ” وكان على مرمى حجر من الإقليم ” ثم تم دحره “، ليس كمن يتعرض لداعش وهو في مأمن، والذي يكتب عن موضوع كردي له صلة بشأنه السياسي ومن زاوية نقدية، ليس كمن يعيش بعيداً عن أي تطاول أو إمكانية تعرض للتهديد، أو الطرد، أو التهميش، ومن يزيد نار الخلافات الكردية اشتعالاً، وباسم كردية متأوربة، وهو محاط برموز كردية، تعزيزاً دعائياً ليد كرديته الطولى، ومزاودته حتى على الكردي المكتوي بالنار، وما كان عليه قبل خروجه، إلى درجة إدانة من لا يتصرف مثله في النطاق الجغرافي الكردي، بات يشوش على الكردي الفعلي .
ومن يعيش شبح البطالة وكابوس اللاعمل، ليس كمن يعيش في وضع آمن ما بالتأكيد.
يكون هناك ثبات في الموقع بالنسبة لأولي أمر من ذاقوا الأمرّين في جهات شتّى، لنكون إزاء خوزقة الوعود المعسولة عن قرب وعن بعد هنا وهناك، في الشعب اللاشعب .
أهي أنانية إن قلت، ما أكثر ما همّشتُ ليس من قبل سدنة الأحزاب الكردية حصراً، فتلك خاصية مدمجة فيها، وإنما من كنت أتأمل فيهم خيراً بتواصل من نوع آخر، وأنا في رقعة جغرافية يصعب علي التحرك؟ فأنا لاجىء، مهما قيل ويقال عن أنني أعيش في ” بلدي “، ولو كنت خلاف ذلك لأمكنني التحرك أكثر، وعلى خلفية هذا الكم الكبير مما كتبت وأكتب حتى الآن وسأستمر في الكتابة حتى الرمق الأخير، وعائلتي تشاركني عذاباتي.
مقارنة بسيطة، وهي ليست ببسيطة من ناحية القيمة أو المحتوى الأخلاقي: على خلفية ” 12 آذار 2004 “، جاءتني دعوات عديدة ذهبت من خلالها إلى أوربا، فما الذي تغيَّر في ضوء الجاري؟ لا بد أن هناك تزايداً في نسبة الانتهازيين والذين يعرّفون بأنفسهم مثقفين، وإمعيي ثقافة ممن تشعرت جلودهم كثيراً، وجملة سدنة الأحزاب الكردية وراء ظاهرة كهذه.
بناء عليه، وأنا في وضع صحي يزداد وطأة علي بين الحين والآخر، أعلن توقفي عن الكتابة إلى إشعار آخر، وهو إعلام لمن يهمهم أمر ما أكتب من الأصدقاء وما أقلهم، ما أقلهم، ومن يتابعون كتاباتي ويقدّرونها، وهم أصدقاء معرفة، دون أن أعرفهم، فثمة ما يجب علي التفرغ له قليلاً، حقاً لنفسي وعائلتي، والاهتمام بمجالي ” الصامت في الكتابة الأخرى “.
بناء عليه مرة أخرى، آمل ألا يخاطر أيٌّ كان بالتواصل معي في الشأن الثقافي، أو الاستفسار عما أكتب، في الوقت الذي نشهد فيه، وبشكل لافت، رواج سوق الكردي السيئ والنمَّام والجبان والمرتشي والمنافق والمرابي والأفاك والمزوّر والحرامي وصاحب العراضات هنا وهناك .
وعلي أن أذكّر ببيت يصدم مَن يخفون آذانهم الحقيقية، لشاعرنا الكردي الكبير نالي: الملا خضر أحمد الميكائيلي ” 1880-1956 “، وعلى لسان الحمار ” أمثولتي الكبرى طبعاً ” وهو يخاطب إياه” وأنا أكتبه بالحروف اللاتينية لمن يهمه أمره أكثر:
Çende pêm xoş bû, zubanê hale deyot ” Naliya “
Herdû heywan in, ê to gwê kurt û emnîş gwê dirêj”
Dîwana Nalî, r:240
والمعنى بالعربي:
كم كان لسان حالــــه يغبطني والذي يقول يا نالي
كلانا حيوان، وأذناك قصيرتان وأذناي أنا طويلتان
دهوك، في 6-3/ 2017