د. محمود عباس
اندثار الأثار الأدبية والفلسفية لشعوب الحضارة الساسانية، كالكرد والفرس والسريان النسطوريين وغيرهم، يحمل على احتمالين، الأول، عشوائي أو عفوي لجهالة الغزاة، وهو ما تحدثنا عنه سابقاً، والثاني كان مبنيا على نهج، وبأوامر قادة سياسيين مسلمين. فلم يكن مفهوم تهافت الفلاسفة للغزالي(450هـ-505هـ) وليد لحظته، ولا من أتبعوه أمثال بن التيمية، وابن القيم الجوزية، وغيرهم الذين حرموا تفضيل العقل على النقل، وأبعدوا الناس عن المنطق، والحوارات الفكرية، بل كانوا نتاج الموجات السابقة، المرسخة لمبدأ الإيمان بالمطلق عن طريق النقل، والملقنة للقبائل العربية الإسلامية الجاهلية، والتي لضحالتها المعرفية، ولبساطتها، تقبلوا الإيمان بالإسلام ونصه بتلك الطريقة ونشروها، كعملية نقل الشعر عند السمع، وسهولة العمل عليها، تقبلتها وبسهولة، فترسخت وتشعبت أكثر عندما خدمتهم في غزواتهم وساندتهم في تسهيل السلب والسبي
وهكذا تقبلوا معظم الآيات دون تأويل، ولم يقارنوها مع غيرها، فلم يستخدموا المنطق العقلي، خاصة وأن هناك من ناب عنهم في تفسيرها، ورغم نقد بعض فلاسفة المسلمين هذا النهج لكنه ظل المهيمن، واتهموا الناقدين بالكفر، أمثال أبن الرشد(520هـ-595هـ) ورده على الغزالي ومعه نهج الإيمان بالنقل في كتابه (تهافت التهافت). وأغلب قادة جيوش الغزوات سخروا هذا المفهوم لمآربهم السياسية، فكانوا يطمحون إلى السلطة على حساب الدين، أو تحت غطاء الإسلام، وعمليات هدم معظم الثقافات الجديدة والآثار الحضارية، نتجت عن هذه الخلفية، ولا شك حملة الفكر وزعماء الهدم يتحملون الذنب، وليس الدين الذي يمكن أن يكون حمالة أوجه حسب من يحملها، لكنها تندرج ضمن جدلية إنتاج وتعظيم الشريحة التي قادت تلك القبائل.
وعلى أيديهم وبأوامرهم، درج منطق ألغاء كل الكتب والفلسفات التي تحتاج إلى عقل وتفكير (كالآداب المكتوبة بغير لغة القرآن، والفلسفة كعلم تحاكي العقل) ليحل مكانها النص الإلهي الذي يعوض عن الكل غير العربي، وحيث قبوله، سهل المنال، بالحفظ والنقل. وهو ما أدى إلى رفض الأخر شعبا وحضارة ولغة، وإلغاء اللغات التي استندوا عليها أثناء تكوين الدولتين الأموية والعباسية.
مرت قرون قبل أن تنتبه السلطات العباسية (قرابة منتصف القرن الثالث الهجري) إلى حاجتها للمعرفة، حينها تبينت لهم مدى ضحالة المصادر والمراجع في مدنهم ومكتباتهم، فبدأوا بالتركيز على المصادر الخارجية، وتجاوزوا النص الإلهي والأحاديث وعلم الكلام والفقه، المنغلق على ذاته، وضمن نفس الدائرة المعرفية، فكان لا بد من الاستنجاد بنتاج الحضارات التي لم تطالها أيادي أسلافهم، ولم يكن لهم دربا سوى تحفيز حركة الترجمة، ومن اللغات الآرامية (لغة المسيح) والأفستية (لغة زرادشت) أو اللغة البهلوية (لغة حضارة الشعوب الساسانية) واليونانية، ومن مكاتب اليونانيين والهند والصين، والذين يتقنونها كانوا أحفاد الحضارة الساسانية، وأبناء خريجي مدارس كنديشابور وتيسفون(المدائن) وكركوك وأربيل ونصيبين والرها وإسكندرية، وآمد وغيرها، من الشعب الكردي والفارسي والسرياني والأرامي، الذين كانوا لا يزالون يتقنون لغات أجدادهم وتوارثوا معارفهم. وكانت شبه محاولة لإعادة أحياء ما دمر أثناء الغزوات الماضية، كالمكتبة التي وجدت بالصدفة تحت أنقاض جدران بناية في أصبهان، وحتى هذه لم تسلم من الاندثار بعد ترجمة بعضها. وبعد أن كثرت محاولات القضاء التام على تلك الذخيرة الحضارية، وبعد أن أزيلت أو زالت آثارها مع مرور الزمن، وخاصة خلال مراحل الغزوات التي لم تكن العرب تعرف غير اللهجات المتعددة والمنطوية تحت لغة قريش، لغة القرآن، وقبل أن تنتبه السلطات الإسلامية العربية أن الثقافة المدنية غائبة في الدولة التي بنيت تحت راية الإسلام.
الذهنية تلك، لم تنقطع حتى يومنا هذا، وهي التي كانت وراء حظر التدريس والتكلم باللغة الكردية على مدى عقود طويلة من الزمن، ومنع التكلم بها في المدارس العربية، وتهميش جميع الثقافات غير الثقافة العروبية، والأمثلة في هذا لا حصر لها، تبنتها أحزاب عروبية وإسلامية كإيديولوجيات، من حزب الشعب إلى البعث في سوريا، والناصرية والإخوان المسلمون، وكذلك معظم السلطات العروبية، وزعماء سياسيون أمثال ميشيل عفلق وقبله زكي الأرسوزي، وعبدالناصر وصدام وحافظ الأسد وأبنه، وملوكهم، ومن ثم من يسمون بالرواد المفكرون والأدباء أمثال محمد بن عبدالوهاب، وسيد قطب والبنا ورشيد رضا وأبن لادن والظواهري، وهؤلاء وغيرهم مع أسلافهم الأولين، أصحاب الغزوات، من المسببين في عدمية تجديد الحضارة في شرقنا. ولا شك نحن هنا لا نتحول من منطق تجريم بشائع السياسيين، والسلطات الإسلامية العربية، إلى نقد الإسلام والقيم، فهذه ليست الغاية، وإن كان الدين هو السند الرئيس لقادة الغزوات العربية الإسلامية، المدمرة لتلك الحضارات.
وفي هذا المجال، يصنف الناقد والباحث (إبراهيم محمود) في مقاله وعي الذات الكردية في كتابات محمود عباس، الجزء السابع، والمنشورة في موقع ولاتي ما بتاريخ 2 آذار 2017م شريحة من الكتاب العروبيين، ويبين التحولات الفكرية عند البعض من رواد جدلية الخلط بين القومية والدين، المفهوم الذي كان سبباً في تدمير الوعي الثقافي في المنطقة، وهؤلاء خلف مثقف مدموج بالخبث لذاك السلف الجاهلي، فيقول ” وبمفهوم أوسع لهذا التوجه العروبي الذي يحيل إليه الإسلام، وباسم العروبة في حميّاتها الأحدث طبعاً، وتحديداً في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الدعوة إلى لزوم إعادة كتابة التاريخ العربي من جديد، وهي تعني في الجوهر” تأكيد الماضي العروبي لما هو إسلامي، واعتبار المسلم جلي الاعتبار بفضيلة عربية “، وهو ما يمكن تبينه في دائرة واسعة من الاهتمامات، من التوجه القومي العربي في الجوهر” جواد علي “، إلى الماركسي المعرب ” الطيب تيزيني “، والتوجه الإسلامي ” رضوان السيد “، فالتوجه الإسلامي العصبوي المعرَّب ” محمد عابد الجابري، علي أومليل، أبو يعرب المرزوقي “، فالتوجه الإسلامي الأصولي” طه عبدالرحمن”، إلى التوجه الحداثي العروبي” مطاع صفدي “، فالتوجه الحداثي ” هشام جعيّط “، وما بعد الحداثي” فتحي المسكيني “….الخ.” هذا الخليط بين العروبة والإسلام. فسلف هؤلاء حيث غياب المفاهيم الحضارية والضحالة المعرفية إلى جانب عوامل سندرجها تالياً تثبت الاحتمالات التي أدت إلى ما آلت إليه مصير الأثار الأدبية لحضارات شرقنا:
1- القبائل العربية إلى جانب تفشي الجاهلية بينهم كانت خاضعة للقادة العسكريين والأئمة التي آمنت بالإسلام وكانت تفرض الدين الجديد، وتحافظ على لغته، أي لغة القرآن، لغة الجنة، والثقافة العربية المدموجة مع النص الإلهي، وحاربت من أجلها كل تيار يحاول أو يظن بأنه سيؤثر على مفاهيم الدين الإلهي، لذلك فأي كتاب أو فكر في الحضارات التي تمت غزوها دمرت بأوامر من هؤلاء القادة، كرد فعل مسبق للإسلام ولغته، الأداة التي سهلت لهم السيطرة على الشعوب المجاورة.
2- الأعمال الفكرية التي كانت تذخر بها الشعوب الحضارية التي تم غزوها، كانت أعلى من مدارك القبائل الغازية المرافقة للإسلامية، والتي كانت جل دافعها السبي والنهب، والاغتناء المادي، فالكتب وثروة المكاتب لم تكن تجلب لقادة الجيوش أي ثمن، وكل ذخيرة مكتبة كنديشابور أو المدائن ما كانت تعادل ثمن سبية في الفترة التي كانت فيها أسواق النخاسة سائدة، وسوق عكاظ في جانبه الأدبي كان في الهامش، ومعظمه شفهي.
3- ولربما رأي وجواب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على رسالتي، سعد بن أبي وقاص بعد أن أصبح واليا على العراق، وعمر بن العاص غازي مصر وواليها، توضح الكثير من خلفيات الضياع شبه المطلق للأثر الأدبي الفلسفي والعلمي لتلك الشعوب…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م