أحمـــــد قاســــــم
لا أدخل في معمعان التاريخ وتفاصيله المملة والمريبة في الكثير من جوانبه التي تم تدوينه تحقيقاً لرغبة من الحاكم.. ولكن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها, هي تلك التي نتعايشها, ” على أن الكورد شعباً يعيش بين شعوب المنطقة, وعلى مساحة من جغرافية مترابطة بين أربع دول تحكمها حكومات قومية لاتمتلك ثقافة العدل والإنصاف, تنظر إلى الآخر بعين من الإزدراء والإستخفاف, وتزرع في نفوس مواطنيها نوع من الريبة على أن المكون الآخر لايستحق كما يستحق المكون الحاكم من مستلزمات الحياة ومعارفها.
وبدون أن ندخل في جدال عقيم حول حقيقة وجود الكورد على أرضه التاريخية, ومن سخرية القدر أن ينقسم موطنهم بين تلك الدول, مرة بالصراع بين الدولتين ( الصفوية والعثمانية ) في مرحلة ما بعد دولة الخلافة والدولة الإسلامية التي كان يرى فيها الكورد أنفسهم أحد بانيها لإعتناقهم الإسلام ولدورهم الفاعل في بنيان تلك الدول والدفاع عن تلك الخلافة والسلطنة, ومرة مع إنهيار تلك السلطنة على يد الإستعمار وانتدابه على المنطقة, ومن ثم تقسيمها لدول وفق خريطة ظالمة شقت الجسم الواحد ( سميت في حينها خارطة إتفاقية سايكس ـ بيكو ) بين فرنسا وبريطانيا في العقد الثاني من القرن الماضي على خلفية إنهيار الدولة العثمانية.
وعندما نبحث في حقيقة تلك الإتفاقية الإستعمارية على تقسيم المنطقة وتشكيل دول ليست كانت موجودة في الأصل, تتفق معنا شعوب المنطقة على أنها كانت مؤامرة إستعمارية ظالمة, ليس لشعوب المنطقة إرادة في تخطيطها وتنفيذها, وبالتالي لا تمتلك شرعية في بقائها, إنما الحكام هم من قبلوا الحفاظ عليها خدمة لمصالحهم والإبقاء على حكمهم لهذه الشعوب. إذاً من حيث المنطق, فإن تلك الخارطة فرضت فرضاً على شعوب المنطقة, وبالتالي, من حق شعوبها أن تلغي آثار تلك الخارطة. ولكن, كيف؟ هنا تكمن الخلافات والخلاف على الحقائق التي يمكن إظهارها ومعالجة ما يمكن خدمة لشعوب المنطقة ومصالحها.
إنما في الشأن الكوردي, الذي تضرر أكثر من أي مكون آخر في المنطقة نتيجة لتلك الإتفاقية, اليوم, فهو متضرر أكثر في بقائها واستمراريتها. ليست لأنها فقط قسمت وطن شعب قوامه اليوم يتجاوز 40 مليون نسمة, بل أنه يعاني من ممارسة حكام يستبيح دمائهم, وينكرون عليهم وجودهم كشعب يقيم على أرضهم التاريخية. وبالتالي, كان من الواجب على الكورد أن يدافع عن وجوده, والمطالبة بحقوقه المشروعة في كل جزء من بلاده, والنضال بكل الوسائل المشروعة لتحقيق هذه الحقوق, بعيداً عن التشنج وسفك للدماء, وكذلك في الجانب المعرفي والأخلاقي, نبذ زرع الكراهية والحقد تجاه المكونات الأخرى لشعوب تلك الدول, بل بعكس ذلك, المطالبة بتمتين أوصر الإخوة بين الشعوب, وخاصة بين الكورد وتلك الشعوب التي تحكم بلدان التي إنقسمت بينها كوردستان ( تركيا وإيران والعراق وسوريا ).
ومع إبتعاد الكورد عن ثقافة الكراهية ضد من يحكمهم من الشعوب الأخرى, إلا أن الآخر لم يحترم يوماً هذا الذي يشاركه في حقيقة الأمر ” وطن لايمكن بقائه ملكاً لطرف دون الطرف الآخر, أو لمكون دون المكون الآخر, أو لشعب دون الشعب الآخر المقيم في هذا الوطن “. مائة عام مضت على تقسيم كوردستان, ومراحل تاريخية شاهدة على تعامل الكورد مع من يتقاسمه الوطن, على أنه لم يبخل يوماً في تقديم أغلى ما يملكه من أجل الحفاظ على الوطن وبنائه, ( في كل من سوريا وتركيا والعراق وإيران ) على حدٍ سواء, إلا أن حكامها كانت بعكس ذلك, تمارس أبشع أنواع الإضطهاد العنصري لصهر الكورد في بوتقة قومياتها, ( ومع الأسف الشديد لم تتحرك تلك القوميات لإستنكار سياسة حكامها ضد الوجود الكوردي, بل كانت وما زالت تشجعها للقضاء على هذا الوجود ). وبالتالي, فمن حق الكورد الدفاع عن وجوده بكل طاقاته وإمكانياته ضد تلك المظالم وإستمراريتها.
المراحل التاريخية متقلبة, وتتغير وفقاً للمتغيرات التي تطرأ على الساحة العالمية مع التطور الهائل لأدوات التواصل بين الدول و المجتمعات والأفراد, وكذلك وسائل الإنتاج ومستلزماتها, مع التغيير في المعرفة والسلوك العام على المستوى العالمي مع إنتشار العولمة, متجاوزة كل الحدود والجغرافيا, وبالتالي تتغير المفاهيم حكماً إزاء طبيعة العلاقات التي يجب أن تتطور أيضاً بين الشعوب وحكامها, وكذلك بين الشعوب نفسها تجاه حكامها, وخاصة في منطقتنا ( الشرق الأوسط ) التي تعاني من أنظمة يحكمها حكام دكتاتوريين, ويمارسون أبشع أنواع الإضطهاد ضد شعوبها.
حيث كانت الحركات الكوردية في الأجزاء الأربعة من كوردستان تناضل جنباً إلى جنب, وفي كثير من الحالات في مقدمة القوى الديمقراطية المناضلة ضد الدكتاتوريات في تلك البلدان, وذلك يقيناً منها على أن حقوق الكورد لايمكن أن تتحقق في ظل تلك الأنظمة العنصرية الظالمة, ومن أجل تحقيق حقوق شعبها فلا بد أن تسقط تلك الأنظمة, والعمل من أجل بناء بديل ديمقراطي تعددي تشاركي, ويكون الكورد قد وصل إلى ما يستحق من تشاركية في العمل لبناء الدولة وإدارتها. إلا أن الشعوب الحاكمة في تلك الدول لاترى في ذلك عدلاً, عدالتها هي منح الكورد حقوق المواطنة والتكلم بلغته على أبعد حد. أما التكلم عن الحقوق السياسية التي من شأنها منح الكورد المشاركة في بناء الدولة على أسس ديمقراطية, وأن حقوق الكورد يجب أن تكون بمستوى حقوق شعب مقيم على أرضه التاريخية, وبالتالي, لايمكن تحقيق هذه الحقوق إلا ضمن شروط وظروف لاتتوفر إلا في دولة إتحادية بين شعبين أصيلين أو أكثر. وهذا ما يتطلب أن يتم التوافق عليه مع صياغة دستور للبلاد ليكون عقداً يحكم بين أبناء البلد الواحد بالعدل.. كل هذه الإستحقاقات لدى الشعوب الحاكمة تعني تهديداً على وحدة البلاد وشعبها, وكأن هذه الشعوب هي وحدها من أوجدت وأقامت على هذه الأرض تاريخياً, وبالتالي يحق لها توزيع المنح والبركات على من يريدون ويحرم عنها من لايريدون له. فالعقلية هذه تدفع بالكورد نحو البحث عن البديل, لطالما أنه لا يمكن التخلي عن حقوقه العادلة والمشروعة في ممارسة حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة إن إستحال به الأمر العيش المشترك مع من يتقاسمه البلاد.
بهذه العقلية الإزدرائية تتعامل الشعوب الحاكمة في هذه الدول مع قضية شعبنا, ومنذ مائة عام.. أعتقد من السذاجة بعد كل التجارب التاريخية, أننا لو تعاملنا على أساس وجود الثقة بتلك الشعوب, وعليها تحركنا تجاهها وناضلنا معها لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية من دون وضع ضوابط بيننا نحدد من خلالها المستقبل. ولطالما أن من يتقدم من الديمقراطيين بين تلك الشعوب لا يتجاوز في طرحه حدود المواطنة بالنسبة لحقوق الكورد, يعني ذلك, بأنه يسعى إلى إستعباد الكورد بصورة أخرى, وإستغلاله في ظروف هو أحوج إلى الكورد في مقارعة النظام, وبعد ذلك قد يتنكر لكل عهوده ووعوده. كما حصل في إيران مع الخميني بثورته ضد الشاه, وكذلك في العراق بعد إتفاقية 11آذار 1970, وبعد إسقاط نظام صدام حسين, وحتى اللحظة الدستور لم يُعمل به والمادة 140 مرمية وكأنها غير موجودة, وكذلك المعارضات السورية التي تنعمنا بغمرة نعمتها على منحها لنا حقوق المواطنة, وأي كلام عن دولة فيدرالية يعني في نظرها تقسيم البلاد….
أعتقد, أن ثقافة تلك الشعوب هي لاتتجاوز ثقافة أنظمتها العنصرية, وبالتالي, فهي ليست قادرة على تغيير أنظمة الحكم بمعايير ديمقراطية تتوافق مع حقيقة الشعب السوري وحقوق مكوناته على أساس تعددي إتحادي. ولما كانت المصلحة الدولية والإقليمية تتطلب التغيير في بنية الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة, وذلك وفقاً لتأمين الأمان لإستمرارية تأمين مصالحها وازدهارها في المنطقة, فكانت لابد لها أن تتدخل بالأشكال والطرق الممكنة لتغيير الأنظمة في الكثير من الأوقات والحالات, ومساعدة القوى الديمقراطية لبناء البديل, والفرض عليها عند الحاجة لإبعادها عن التفرد مع مشاركة ممثلي مكونات الشعب لمشاركتها في بناء الدولة دستورياً, كما يحصل وسيحصل في سوريا اليوم وغداً في دولٍ أخرى.
قدرنا نحن الكورد أن نشارك شعوباً لا تعرف العدالة كثقافة, بل يجب فرض عليه المباديء العادلة, وإجباره على الإلتزام به إلى أن يتروض عليها.
——————–
1/3/2017