د. محمود عباس
والغريب هنا كيف ظهرت في نهاية القرن الثاني الهجري، ومن شبه العدم، موجة أدبية بين الشعوب المحتلة انحرفت عن الإسلامية العربية، ومن بينهم الكرد. فهل كانت الحركة الثقافية معدومة فعلا قبل الإسلام، ونبتت تحت تأثير الدين الجديد؟ أم أنها طمرت تحت فرض النص الإلهي المطلق، لتظل طوال تلك الفترة بدون صوت؟ أم أن الانحلال في ثقافة الشعب المهيمن تحت الغطاء الإسلامي واللغة العربية، كان من القوة بحيث طمرت معظم المآثر الأدبية الماضية. أم أن الأجيال اللاحقة تخلت عن مآثر أسلافهم فعلا، كرها أو قناعة؟ وأي كان، فالنتيجة كانت كارثية، ضياع آثار قروناً من النتاج الفكري الحضاري.
والحالة هذه تكررت مع أسلاف الكرد سابقاً وعلى مرحلتين، الأولى عند هيمنة الأخمينيين، والثانية في عهد الحضارة الساسانية، حيث المزج شبه التام بالفرس، أصحاب السلطة، ومعهم نسبة كبيرة من الشعوب الأخرى، تحت تأثير الدين (الزرادشتية والمانوية والمزدكية) والتقارب اللغوي، وعرفوا جميعا عند المؤرخين اللاحقين بالفرس والثقافة الفارسية والإمبراطورية الفارسية، وهو ما نقرأه اليوم في معظم المصادر التاريخية، فنادرا ما نجد صفحات تخص الكرد دون الهيمنة أو الصبغة الفارسية، وكانت عن طريق الإرضاخ والسلطة، وإلا فلو كانت عن قناعة لما بقي من آثر للوجود الكردي، ويصف ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة هذه الحقيقة، عندما يقول ” أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر” ويقصد أدب أسلاف الكرد من الميديين، والذين كان لهم باع طويل في الشعر والأدب الملحمي والتي بنى عليها ملوك الاخمينيون لوائح المديح عن ذاتهم، ونوع من الفلسفة الممزوجة ما بين الفلسفة اليونانية والدينية الشرقية، والتي على أثرها ظهرت المذاهب المنبثقة عن الزردشتية والمانوية والمزدكية، وكتبهم هي التي وقف جاحظ ضد ترجمتها.
وتأكيداً على ما قيل، فإن العديد من المؤرخين والباحثين في التقاربات الثقافية والتراث الأدبي، وبينهم عرب، نقلوا فتات من الأدب والشعر الصوفيين في الحضارة الساسانية، كقصص الحب العذري، والتي ظهرت في المراحل المتأخرة من الغزوات الإسلامية بأشعار عربية، ونسبتها شعراء العرب إلى ذاتهم، فصاغوها بلغتهم وأسلوبهم، كقصة (مجنون وليلى) حيث الحيز الصوفي العذري في أشعار لم تكن موجودة سابقا في الشعر العربي، وهي دلالة على أن الأدب الأفيستي كان سائدا حتى فترة متأخرة، ونشطت بعد هيمنة الترجمة إلى العربية، لغة السلطة، وزالت بعدها كلياً آداب الكرد والفرس والسريان ما قبل الإسلام عندما تصاعدت حركة تعريب الدواوين، وألغيت الكتابة بالحروف البهلوية وحرمت لغة أفيستا، والتي طمرت مع الزمن مقابل لغة القرآن.
وبالاطلاع على كتاب (الفهرست) لأبن النديم، وهو خير من عرض أسماء الأدباء والعلماء والفلاسفة والشعراء وفي الحقول الثقافية والعلمية والفنية الأخرى في عصره وما سبقه، والقارئ سيلاحظ ورود أسماء عديدة كردية وفارسية وسريانية ومن غيرهم من الشعوب في فهرسه، أو ذكر كتبهم إن كانت بلغاتهم أو المترجمة إلى العربية لكنها جميعا أسماء لأدباء وشعراء وفلاسفة للذين تم الاحتفاظ بمآثرهم، خارج الجغرافية الإسلامية العربية، ومعظمها مخزونة في مكتبات الجغرافيات التي لم تتم السيطرة عليها، ومن المدن التي لم تطالها أياديهم، وأغلبهم من اليونان أو من الهند أو المدن البيزنطية أو الرومانية، كما ونلاحظ بأنه حتى نهاية القرن الثاني للغزو، لم يكن حتى لهؤلاء ولا لكتبهم من ذكر، إلى أن بدأت حركة الترجمة إلى العربية، ومعظمها دمجت أيضاً بالثقافة الإسلامية العربية. علما أن أغلبية من عمل في النقل والترجمة من اليونانية والفارسية والسريانية إلى العربية كانوا غير العرب، ومن بينهم العديد من الكرد أمثال (محمد بن الجهم البرمكي وهشام بن القاسم موسى بن عيسى الكردي) وآخرون وردت أسمائهم في كتاب الفهرست لأبن النديم يمكن التعرف عليهم فقط من خلال نسبهم.
وهكذا وعلى مدى قرنين أو أكثر من الزمن طمرت انتماء شعوب المنطقة، إلا ما ندر، إلى قوميتهم أو جغرافيتهم أو لغتهم، وهي الفترة التي سيطرت فيها العصبية العربية تحت الموجة الإسلامية، إلى أن برزت الموجة الشعوبية على يد الخلفاء العباسيين، ليقلصوا الهيمنة العربية، وبها فتحت الأبواب لردة الفعل عند هذه الشعوب، فتحررت مجموعات من هيمنة اللغة العربية، وأحيوا لغاتهم، وفي هذا يقول، المبالغ في وصف الأدب العربي القديم، كارل بروكلمان في كتابة تاريخ الأدب العربي الجزء الأول الصفحة(36) ” ولم يؤثر الإسلام تأثيراً عميقاً في شعراء العرب، فقد سلك شعراء العصر الأموي دون مبالاة في مسالك أسلافهم الجاهليين. ولم تسد روح الإسلام حقاً إلا بعد ظهور العباسيين…وهكذا نما في عهد العباسيين أدب إسلامي بلسان عربي” وفي الواقع موجة الشعر العربي كان حديث العهد حينها، وكان في تصاعد مثير، لذلك لم تحد منها الموجة الإسلامية فأقدم الشعراء الجاهليين (والذين ينفي وجودهم طه حسين وديفيد مرجليوث في كتابه أصول الشعر العربي بل وينكران استعمال الكتابة في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام كليا) لم يسبقوا الإسلام بأكثر من مئة عام، وفي هذا يقول كارل بروكلمان في كتابه المذكور آنفاً وفي الصفحة (55) “أقدم ما نعرفه من الشعر المستند إلى مصادر صحيحة نسبياً لا يمتد إلى ما قبل المئة عام على مولد النبي (صلى) ” مقابل ما كان لشعوب الحضارات العائدة أدبياتهم ومن بينها الشعر والفن لعشرات القرون ما قبل الميلاد. والشعر كان الأدب الوحيد لدى العرب حتى ظهور الإسلام، إلى جانب أن الفن بكل أنواعه كان شبه معدوم حينها. ويقال إن فن ألقاء الشعر بحد ذاته أخذ من الشعوب المجاورة، ويؤيد كونراد بورداخ هذه النظرية، وبأنهم تأثروا بشعراء ملوك الإسكندرية، والبيزنطيين والساسانيين.
ورغم المرحلة الزمنية القصيرة بلغت موجة الشعر العربي قمتها في منتصف العصر العباسي، وبدأت تتراجع أمام الموجة الثقافية الإسلامية، وعلى أثرها وفي فضائها عاد الأدب الكردي والفارسي والسرياني إلى الحياة ثانية، لكن بنكهة إسلامية صوفية، ولا شك الإسلامية تعني نفحات من لغة القرآن. وبرز أسماء شعراء وأدباء ومشايخ كرد وفرس، ومؤرخين سريان وأراميين وباللغة الآرامية، تحت غطاء السلطة الإسلامية العربية، والعديد منهم عادوا إلى الكتابة بلغاتهم لكن بالحروف العربية، مع طغيان كلمات الفقه الإسلامي، والآيات القرآنية العربية، ومن المؤسف أن هذه الموجات ظلت سجينة الحيز الإسلامي دينا والعربية حروفاً وكتابة، فلم تتمكن من أحياء التراث الماضي ما قبل الإسلام، ولم ينسخوا أثرا أدبيا، والذي لربما كان لا يزال باقيا على رفوف المكتبات المهملة، كالمكتبة التي تم اكتشافها تحت أنقاض مدينة أصبهان عام 35 هجرية وهي شبه تالفة، ولم تنسخ منها ومن غيرها إلا شذرات لا تذكر مقارنة بما قامت به السلطات العربية الإسلامية، خاصة في عهد الخلفاء الأمويين وبدايات العباسيين، من استخدام أساليب للحفاظ على أسماء الشعراء الجاهليين ونتاجهم، وفي هذا يذكر بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي، الجزء الأول، الصفحة (65) ” ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين” والغريب أن معظم هؤلاء العلماء كانوا من الكرد والفرس والسريان وغيرهم من الشعوب التي رضخت للنص القرآني، وخدمت اللغة العربية وطورتها.
يتبع …
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م