زاغروس آمدي
من أهم أخطاء عبدالله اوج آلان في سياق نشر وتطبيق الفكر الماركسي اللينيني في الممارسة العملية، أنه سخّر النضال القومي التحرري والأهداف القومية الكبرى للشعب الكردي لانشاء جمهورية شعبية اشتراكية كالصين الشعبية، كوبا، فيتنام، كمبوديا وكوريا الشمالية وغيرها.
هنا ارتكب أوج آلان نفس خطأ معلمه لينين في مسألة حرق المراحل التي تمر بها المجتمعات، حين أصرّ هذا الأخير على الإقتداء بالنهج الشيوعي في مجتمع زراعي على خلاف آراء ماركس في هذا الصدد وهي أن الشيوعية مرحلة لاحقة وأخيرة تأتي بعد انهيار النظام الرأسمالي كنتيجة حتمية لعمليات الصراع الطبقي والجشع الرأسمالي بين القوى العاملة المضطهَدة وأصحاب رؤوس الأموال المضطهِدين حسب ما يرى كارل ماركس.
وبدلاً من نشر الوعي القومي بشكل يناسب ظروف الشعب الكردي للتحرر من الاستعمار، ركز نضاله المسلح حول صراع الطبقات بشكل متطرف وفي الوقت الخطأ للقيام بعمليات تحول إجتماعية، ولجأ عبدالله أوج آلان إلى العنف الثوري لإجراء تحولات فورية وسريعة. فكان أن عمل على خلق الصراع الطبقي المتطرف، وأراد تأليب الفلاحين على الطبقة الإقطاعية والدينية، حارقا للمراحل الموضوعية ومتجاوزا للتحولات المجتمعية، فأحرق المدارس وهاجم رجال الدين والإقطاعيين، معتقداً أن أغلبية الشعب وهم الفقراء من الفلاحين والعمال والعاطلين عن العمل سيسارعوا أفواجاً أفواجا إلى الانضمام إلى الحرب الشعبية التحررية التي نادى بها، كما كان يتصور.
لكن يبدو أنه لم يتمتع بحس سليم وقراءة موضوعية سليمة لواقع الشعب الكردي وافتقد القدرة الثاقبة على الرؤية الصحيحة المستقبلية للواقع، فما حصل من إرتداد سلبي للممارسة النضالية لحركته كان عكس توقعاته، وذلك حين انضم عشرات الآلاف من الفلاحين إلى حراس القرى للدفاع عن قراهم ضد هجمات عناصره الماركسيين الكرد، بدلا من الإنضمام إلى أنصاره من الغوريلا، مما اضطر أوج آلان بعدها أن يتوقف عن ارتكاب هذه الأخطاء الجسيمة التي أزهقت آلاف الأرواح من الأطفال والنساء والشيوخ الكرد، وحاول إصلاح ممارساته النضالية التي كانت إرهابية بداية في الواقع بحق شعبه،عن طريق التقرب إلى طبقات المجتمع الأخرى من رجال الدين وغيرهم، لكنهم نبذوه، خاصة وأن الآلة الإعلامية التركية استغلت بعض الجرائم البشعة التي ارتكبها أنصاره المتشددين من الغوريلا، وساعد ذلك في نجاح الحكومة التركية في إقناع الغرب بإرهاب هذا الحزب، مما أدى بالتالي إلى تصنيف حزب العمال الكردستاني من قبل الغرب ضمن الحركات الإرهابية في العالم.
وقد لجأ عبدالله اوجلان (المفكر الفيلسوف وقائد الشعب الكردي كما يحب أن يسميه أنصاره) إلى تطبيق نظريات خداع الجماهير المعروفة في علم الإجتماع والسياسة Deceive the masses ، للسيطرة على الجماهير وإستغلالهم بمن فيهم الأطفال والمراهقين من الجنسين، وتسخيرهم كمجرد أدوات لخدمة نضاله البائس وتطبيق تصوراته الشخصية عن أسلوب الثورة المستوحاة من الأفكار الماركسية اللينينية التي أثبتت فشلها الذريع بعد 70 عاماً من فرضها على الشعوب السوفيتية بالعنف والإرهاب الممنهج، مستغلاً المشاعر القومية الفياضة والمتعطشة إلى الحرية والاستقلال ومستفيداً من الخواء الفكري السائد عند الكرد عموماً ليسخرها لنضاله البروليتاري. والغريب أنه تفاخر بأخذ صور مع أطفال مسلحين في عمر التاسعة والعاشرة ونشرها بكل فخر في دوريات ومجلات حزبه، أي أنه أدان نفسه بنفسه تجاه شعبه وتجاه الرأي العام الغربي ولا سيما بعد قيام حزبه ببعض النشاطات التي يعتبرها الغرب نشاطات إرهابية مثل اقتحام السفارات وحرق بعض المحلات وإكراه بعض الكرد بالقوة والتهديد على التبرع لحزبه وفرض إتاوات على البعض الآخر في بعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا.
وقد صرح هذا الشخص عبدالله أوج آلان في مناسبات عديدة في السنوات الأولى لإنطلاق حركته المسلحة بأنه سيحرر كردستان في غضون عشر سنوات فقط (منطلقا من نظرية خداع الجماهير)، مستغلاً مشاعر البسطاء من الكرد لدفعهم إلى القتال، وإذ به بعد خمسة عشرا عاماً من قوله هذا يجد نفسه في حبس انفرادي في سجن معزول عن العالم في تركيا، بعد الحكم عليه بالمؤبد.
وبعد أكثر من ثلاثين سنة من مقولته تلك “حول تحرير كردستان في غضون عشر سنوات” ألغى من دماغه نهائياً أي هدف أو تصور عن تحرير كردستان الوطن الأم، وأحلّ محله فكرة الجمهورية الديمقراطية، وهي فكرة ليست أكثر من مجرد تسمية أخرى ولبوس مختلف قليلا للأفكار الماركسية التي إنتشرت كظاهرة شعاراتية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت شعوبها خاضعة للاستعمار، بعد أن أظهر لينين ومن بعده ستالين نفسيهما كمحررين للشعوب المضطهدة، عندما رفعا شعارات حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة ومكافحة الاستعمار والإمبريالية.
وقد استمد عبدالله أوج آلان فكرة الأمة الديمقراطية والكومونالية من كتابات المفكر الأمريكي الفوضوي موراي بوكشين (2006-1921) حسبما ذكر أندريا ليوتي وهو صحفي إيطالي في مقال له في جريدة السفير* “بأن بوكشين قد طرح قبل أوجلان “الكومونالية” والديمقراطية المباشرة لتجاوز الدولة البيروقراطية وحدودها القومية”.
وفي القناة الرابعة البريطانية تم نشر مقال تحت عنوان **:
“الربيع الكُردي ، لأجل ماذا يُحارب حزب العمال الكُردستاني؟”
نشرته مجلة كولان ميديا من ترجمة تمر حسين ابراهيم، وقد جاء في هذا المقال أنه “بعد اعتقال زعيم حزب العمال الكُردستاني عبدالله اوجلان و سجنه في عام 1999 ، بدأ بإعادة تقييم للنهج الماركسي-اللينيني المُتشدد الذي سار عليه منذ تأسيس الحزب في عام 1978 ولاحقا حرب عصابات دموية انطلقت في 1984 و التي أودت بحياة الآلاف. وخلال سجنه إطلع اوجلان على كتاب ل ” موراي بوكشين ” و هو فيلسوف اشتراكي لاسُلطوي أمريكي من نيويورك و مُناهض للرأسمالية والذي بقيت نظرياته عن “المُحيط الاجتماعي” و”استقلال البلديات الذاتي التحرري” غامضة حتى ضمن تياره السياسي لغاية مماته في عام 2006، بدمج هذه الأفكار مع تعاليم فرنارد بروديل و فريدريك نيتشه، أعلن أوجلان عن اتجاه جديد يعتقد أن على حزب العمال الكُردستاني إتّباعه… في خطابه الجديد هو يرفض العنف السياسي ، القومية و حتى فكرة الإعلان عن تأسيس دولة كُردية “.
ويُذكر أنّ المفكر موراي بوكشين لم يستطع أن يلبّي رغبة أوجلان بلقائه، حسب ما ذكرت زوجة بوكشين للقناة البريطانية. وقد ورد في الموسوعة الحرة بالعربية بأن بوكشين ولد في نيويورك من عائلة روسية يهودية. كانت والدته اشتراكية ثورية شربته منذ الصغر بالفكر الروسي الشعبوي. عقب وفاتها في 1930، انضم لمنظمة شباب شيوعية. تعلم في مدرسة العمال حيث درس الماركسية. في أوائل 1930 عارض الستالينية وانجذب نحو التروتسكية، وانضم لحزب العمال الاشتراكي.
وقد عُرف بوكشين (Murray Bookchin) في الأوساط الماركسية من خلال نقده لتعاليم الماركسية الخالصة، وبعدائه الراديكالي للرأسمالية. وقد أثرت أفكاره بمناهضي العولمة ولاقت أفكاره الإيكولوجية تجاوباً كبيراً عند الجناح المتشدد لجماعات الخضر الأمريكيين.كما جاء في الموسوعة الحرة بالألمانية.
ما أرغب الإشارة إليه هنا سريعاً، أنه ليس من الخطأ الإستفادة والتنوير والاطلاع على أفكار المفكرين في شتى أنحاء العالم، لكن يجب الأخذ بعين الإعتبار الظروف الكليّة التي عاش فيها المفكرون والتي وِلدت فيها أفكارهم، وما إذا أثمرت هذه الأفكار، أم أنها مجرد ترف فكري غارق في التصورات الشخصية القاصرة. فبوكشين هذا ولد وعاش في مجتمع رأسمالي ودرس وأصبح فيلسوفاً ودرّس في جامعة أمريكية. وقام بطرح تصوراته وأفكاره كبديل عن النظام الأمريكي الرأسمالي. حيث الدولة القوية العظمى القائمة والرأسمال الأقوى والأكبر في العالم وحيث الحرية الأشمل في العالم والتقاليد الديمقراطية الراسخة. واعتقدَ بأن الإنسان سيكون أكثر سعادة إذا ما تم تجسيد تصوراته على أرض الواقع. وله كامل الحق في ذلك ويدخل هذا في إطار الحرية الفكرية طالما أنه لا يدعو إلى تحقيق ذلك بالعنف لتجسيد تصوراته الشخصية في البشر. إلا أن الخطأ الجسيم يكمن في سحب أو استنساخ هذه التصورات والأفكار وإسقاطها بالعنف والإكراه على واقع مختلف كلياً كالواقع الكردي الشديد التعقيد، يعتبر ضرباً من الغباء المفرط للأسف وتعبيراً صارخاً عن فقدان الثقة بالذات، ولو أن هذا المفكر عاش في الواقع الكردي هل كان سينتج نفس الأفكار؟ لندع كل ذلك جانباً، ماذا حققت هذه الأفكار في موطن إنتاجها؟ وسأتطرق هنا قليلا إلى موضوع نشوء الفكر الواقعي ودوره في إحداث تغيرات كبيرة في العالم.
———————-
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ. 2016-09-15 *على الصفحة رقم 5 – عربي ودولي
** القناة الرابعة البريطانية ، الإثنين 8 سبتمبر 2014