الفيدرالية الكردية تفتقد الجاذبية

صبيحة خليل
دكت الثورة السورية السلمية جدراناً مصمتة من الخوف و الحذر بين مكونات السوريين، استغرق الاستبداد في بنائها عقوداً طويلة. انهارت بلمح البصر، بينما دمر الصراع المسلح الذي أنهى عامه السادس. البنى التحتية و الخدمية، وفككت ملحقات الصراع. من تهجير و فقر و نزعات طائفية أواصر العائلة السورية التي كانت تمتاز بتماسكها في وقت سابق. 
و بين جاذبية الفعل السلمي و الحنين إليه و قبح الصراع العسكري الذي جعل حلم التغيير بعيد المنال، يبحث اليوم السوريون المتناثرون في أرجاء المعمورة عن حلول تجمع ما تبقى منهم كشعب على جغرافيا موحدة قدر الإمكان.
بداية يجب الإقرار. انه خلال العقود الماضية تحولت بعض المكونات السورية. خاصة الكرد إلى الحياد الخامل في الكثير من المجالات. بتدبير من النظام و من والاه و تشرب بثقافته. لا ثقة تمنح لهم في إدارات الجيش و دوائر صناعة القرار العليا. الوزارات. الإعلام. هيئات الجامعات. و رغم أن هذا الخمول شمل فئات و شرائح عريضة من السوريين إلا انه سرعان ما ذاب هذا الجليد بعد صيحات الحرية التي علت بعد ربيع 2011. 
و مع تشكل النوى المعارضة المتعددة المشارب و الولاءات. أصاب الكرد شيئاً من الارتكاس و الجمود السياسي إزاء التطورات الجارية آنذاك. بدا التردد و التمهل لسان حالهم رغم انخراط الشباب الكردي في التظاهرات السلمية منذ الشهر الأول من انطلاقة الثورة السلمية، لكن بقيت الكتلة المسيسة في حالة الترقب و الذهول. ربما يستثنى من هذه القاعدة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي حسم أمره و غازل النظام مبكراً .
على الطرف الآخر. المعارض، كان التوجس يلاحق أغلب السوريين بخصوص الصورة النمطية التي كرسها النظام ذهنياً حول النوايا الانفصالية الكردية. تلك العقدة الرهيبة المتمثلة بتكرار تجربة الجولان أو لواء اسكندرون و فلسطين. تحت هذا المسمى صودرت الهوية الكردية خلال عقود البعث، و انتقلت الصورة إلى المعارضة كإحدى المسلمات التي لا جدال فيها، وربما كانت لمخاوف بعض الدول. مثل تركيا يداً في الدفع نحو هذا المنحى و زيادة تضخيمه. 
لذا تم شيطنة الكرد عن سابق إصرار و عمد، و لم يعد التخلص من هذه الوصمة بالأمر الهين. إذن الهوية الوطنية للكردي منقوصة و مشكوك بها. و تم تعميم هذا الأمر. 
على الجبهة الأخرى. حيث النظام الذي دأب على تسمية الصراع و الثورة بالأزمة. كان لا يجد حرجاً في تبديل الخطط و الاستراتيجيات، من الألف إلى الياء، و منها  ما كان يجيز لنفسه التقسيم و المحاصصة. رغم ذلك لم يشكك به قط، و لم يحاسب كمقتطع لجزء من الأراضي السورية، أو ساع لتقسيم أوصال الدولة الوطنية. و قد يبدو للمراقب عن كثب تقلبات النظام، تبعاً لتغيرات حليفه ب ي د الذي كان في واقع الحال ليس أكثر من مردد لصدى  تلك الخطط و التنقلات، تارة بإعلان الإدارة الذاتية و أخرى بفيدرالية ألّبت السوريين على الكرد و صرفت الأنظار عن جرائم النظام الذي وصل لمرحلة الأمان بعدما تأكد له أن المجتمع الدولي قد يحميه من الوصول إلى الرمق الأخير.
أما الكتلة الكردية المتمثلة بالمجلس الوطني الكردي بقي مشروع اللامركزية السياسية بالنسبة إليها مجرد شعار، دون أن يبذل جهداً يذكر في تحويله إلى مشروع. يخرج البلاد من عنق الزجاجة. لحل وطني سوري شامل بل إن بعض الأحزاب ما زالت برامجها السياسية كما كانت قبل 2011. الحقوق الثقافية و إزالة الغبن الذي ألحق الكرد. مرد ذلك ربما يعود لكل ما سبق من معيقات، في مقدمتها ذهنية النأي بالكرد عن الأدوار السيادية في طرح مبادرات على مستوى عموم الوطن السوري. لذا نجد أن جزئية القضية الكردية هي وحدها المسموح مناقشتها بالنسبة للكرد المتواجدين في صفوف المعارضة، وكأن سوريا لا تعنيهم ولا تخصهم، مع الأسف يبدو الكرد أيضاً راضين و مقتنعين بهذا الدور.
استمرارية هذا النمط كردياً. أي بعدم كسر طوق العزلة و المشاركة المنقوصة في صياغة المشروع الوطني السوري العام يضع الكرد أمام مشاريع الآخرين المبسترة و الجاهزة. المطابخ السياسية لا تختلف كثيراً عن المطابخ المنزلية، وقد تقود صناعة خلطات عجائبية من السياسات لفرض مفاعيل جديدة قد تمتد لعقود أخرى من العسف و الاستبداد. نتيجة كيمياء الطعام الفاسد هي حتماً أمراض جديدة. مستعصية، لا تنذر سوى بالوفاة. قد تختلف الأعراض المرضية لكن النتيجة واحدة.
و بالرغم أن المجلس قد عمل مؤخراً على مشروع. رؤية فيدرالية للمناطق الكردية. قد يجده البعض انجازاً رغم تأخر الطرح و هناته إلا ان المشروع يتطرق للوضع الكردي الصرف، وكأن الكرد يعيشون بمعزل عن الصراع السوري الدائر، وأن ما يجري في دير الزور لن يؤثر على القامشلي و عفرين تعيش في قارة أخرى. بعيدة عن جارتها إدلب و إعزاز. يبدو القصور الكردي واضحاً في التحين للظرف المناسب من أجل المباغتة في طرح مشروعهم الفيدرالي بمعزل عن المحيط السوري العام. تلك مقتلة. كان الأجدى إقناع السوريين بمدى أهمية الفيدرالية بالنسبة لابن دمشق ودرعا و الدير وحماة. عندما تحقق مصالح الآخرين ضمن مشروعك تضمن ديمومة المشروع من جانب، و تحقق أهدافك من جانب آخر. لم تخرج الطروحات الكردية حتى اللحظة بمشروع فيدرالي جذاب. مشروع. أفقي، لدولة يتم فيها توزيع الثروات و السلطات على امتداد كامل الوطن، عكس شاقول الدولة المركزية التي تتركز فيها كل السلطات أعلى الهرم، و عملت فيما مضى على ترسيخ صورة الكردي الانفصالي.     
أخيراً أثبتت التجارب أن النظم الاستبدادية لا تشكل خطراً على شعوبها فقط إنما يطال حتى جيرانها، لذا من مصلحة المكونات السورية أن تتنازل عن مصطلح الأقلية والأكثرية. قومية أم دينية، وأن تسعى معاً لبناء سلم مستدام مبني على التشاركية و المكاشفة. أهم مرتكزاته هو بناء دولة القانون كخطوة أولى . دولة تحترم حقوق الإنسان و الشعوب في حياة حرة و كريمة. أما الدولة المركزية مهما حاول البعض تجميلها و ترقيعها، أو ادعت تمثل قيم المواطنة في العلن لكنها في الخفاء لا تعمل سوى على إفراغها من محتواها الجميل. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…