ابراهيم محمود
ها هي قرابة خمسة عشر شهراً، ولم أستحم بقامشلو ماءً وهواء وتراباً وناراً، رغم تنامي نسبة الشوائب في هذه العناصر، ورغم أن المسافة الفاصلة لا تتعدى حدود ساعات أربع انطلاقاً من دهوك حيث أقيم. ثمة الحد المائي: دجلة، كما لو أنه متدفق ناراً حارقة محرقة، ويترجم تضارب السياسات الكردية- الكردية قبل غيرها، وانعكاسها على وجدان كل كردي يريد ” عبوراً ” لا يجاز بسهولة، والتلفريكية المسمّاة هنا وضعية تحليق وتعليق في الأعلى، وتخوَّف من الجغرافيا التي تعيش مخاض مضاربات جانبية ولعبة الأيدي، وما أكثرها، في تسعير نارها ومدارها.
***
صحبة العائلة كنت، إنما صحبة هواجس لها من المصداقية الكثير في الحالة هذه، إزاء تردّي الجاري وما يمكن أن يجري خارج مساره، ويحضر الكردي في الواجهة تباعاً: أي كردي هو، أي كردي يكون، سيكون، أي كردي سيتشكل، أي كردي يتجزأ من الداخل، أي كردي يعيش مرارات عمر يمضي سريعاً، فبين دهوك وقامشلو أكثر من جغرافيا، أكثر من تلوين لمشهد الجغرافيا، والمتنقل فيها، يعيش جغرافيات، رغم أن اللغة المسموعة واحدة، لكن اللسان الناطق مختلف، وعلى المتنقل بين الجهتين أن يعيش هذه الجغرافيا المثقلة بالتلوينات، ليكون أكثر من كردي ودونه.
***
في التوجه إلى قامشلو كسواي، ثمة دائماً ما يشد إلى اللقاء رغم المحاذير، ليس الشوق هو راعيه، إنما الانجراح الماضي في كامل الجسد: حالة وفاة، مرض شديد وتوقع الوفاة في أي لحظة، وتلك وثيقة تاريخية غير مسجلة عن المعاناة التي يعيشها المتوجه إلى قامشلو أو القادم من قامشلو، وقد نزفت من أهلها الكرد الكثير، لتبدو غريبة اسمها وصوتها ولسان حالها وقيافتها في السنين الست الطوال جداً جداً.
***
ليس في وسع أي كان أن يدّعي أنه يتجه إلى قامشلو أو بالعكس، وهو لا يعيش مغصاً ” دماغياً ” لأن المسموع والمرئي والمعايش يعني نفاذ فعل المتشظي الكردي- الكردي، ومآله، وما يبقيه نشطاً، ويستثنى من ذلك من يتلمس في هذا التشظي فرصة تأكيد ذات لا يخيفها مشهد التشظي هذا، إنما الخوف من اختفائه، وهذا وجه لافت في تصريف كردي معلوم لكردية لا يُراعى فيها إلا إمكان حرصه على مصيبة تعدُه بثواب من نوع خاص، باعتباره المتطفل كردياً.
***
وأنت على سفر، يجب أن تكون على حذر، رغم أنك لست في سفر، وإنما ما يشبه السفر، تجاوباً مع وضع يبلبل عليك نوعية التنقل في مكان يحمل اسماً واحداً: كردي العلامة، لكنه الأبعد عن حمْل صفته جرّاء المتلبَّس به كردياً- كردياً.
إذاً، إذا كنت على سفر وفي وضع اضطراري، عليك بالحذر مما أنت فيه وعليه كونك كردياً، وما أكثر ما عاناه الكردي من نفسه ومن كرديه، ما لاقاه بنفسه ومن مثيله، ربما أكثر من عدوه المرئي واللامرئي، لأن الوضع غير آمن: لا الهواء آمن جرّاء المعتمَل فيه من روائح، لا الماء آمن، جرّاء النافذ في الأرض من مسمومات، لا التراب آمن وما يستولده ظاهراً، جرّاء الداخل في تكوينه من مستقدم خارج ” إرادته “، لا النار آمنة جرّاء المسهِم في اشتعالها وما تبثه من روائح تتنكر لها النار ذاتها. كن على حذر من نفسك، ومن ظلك، ومن حركة تفسَّر بشبهة، من نظرة عابرة تستوقفك، من نبرة صوت تعيدك إلى الوراء، وأنت بين مطرقة وسندان كرديين، كونك تحمل صفة ” لاجىء “، مهما في موقع شهرة، واللاجىء حامل ضعف، وطالب حماية، فمصيره مرسوم في الخارج، واللاجىء مثقَل بالتفاسير والأقاويل الجانبية من الجهتين، لأن الكردية المجتباة لما تزل في انتظار اسمها، وتأكيد الحذر له ما يُسوّغه، فما أكثر من حالات تصدم الكردي ” المسافر ” أي المتجه إلى جهته الأولى قامشلاوياً وخلافها، أو وهو خارج منها، وما يقال في إثره أو يتقدمه. حذر الكردي من الكردي ربما يفوق حذره من ألد أعدائه في بعض الحالات، كما هو الآن، فلا أسهل من أن تنال منك وشاية كردي كان جارك سابقاً، وهو الآن بالقرب منك، لكن تحولات المكان أحالته رقيباً عليك بصورة ما، كما هي متطلبات كرد يعتبرون ذلك ميزة الكردي في تثبيت المكانة، وللناظر فيما يعيشه اللاجئون الكرد في هذا المخيم أو ذاك، أن يتسقط أخباراً يومية عن مثل هذا العلاقة وكيف يوقع الكردي بالكردي، ولا داعي للاسترسال في هذا المضمار، فحسبنا النظر في القنوات الكردية وقد تعددت حدود دزينتين، ليكون على بيّنة من حكمة ” وأنت على سفر، كن على حذار ” .
***
لم أشأ اصطحاب ” اللابتوب من باب الحذر، وكما نبّهت من أصدقاء لي، إذ لا أسهل من أن يخسر الكردي في لحظة غير متوقعة ما كان أعِدَّ له، واستهلك عمراً من قبل من يتربص به على غفلة، أو لأن ثمة إشارة على اسمك الذي لم يعد اسمك كما تريد أو تتصور. وهي حالة ربما لا تكون دقيقة، إذ قد يمضي السفر في الذهاب والإياب بسلام، سوى أن هاجس أخذ كل شيء بحسبان له ما يبرّره، وهو يترجم تصدعات المشهد الكردي بجلاء، إلى جانب حسابات أخرى طبعاً، حيث لا أسهل من أن يواجهك أحدهم حين يلمحك هناك بما لا تريد سماعه: لقد أصبحت مشبوهاً إذاً! وبالمقابل، صعب عليك أن تقنع نفسك، وأنت بصفة اللاجىء أن تغيّر صفتك وهي أنك تعيش كردياً كما كنت هناك، فبطاقة ” الإقامة ” لا تمنحك حق التحدث كأهل المكان، رغم التأكيد الرسمي والإعلامي أنك بين أهلك وفي أرضك، وهذا يعيدنا إلى واقعة الكردي الذي تقاسمه الأعداء، وعلى منوالهم تقاسم هو ذاكرتَه ونفسه ولغته وأهله .
***
سلاماً يا قامشلو حيث يتلعثم فيك السلام! سلاماً يا قامشلو الحب المتيّم بأهله، أعني الميتّم باسمه، أعني خديعة المحتوى، وفيه ما ليس يفيه من دقة المعنى، فلكم يُطعَن في هذا الحب، لكم يُساق إلى أكثر من جهة مجهولة! سلاماً يا قامشلو السماء المحدودبة من الداخل تحت وطأة عنفيات مأثورة ومتكاثرة وبأسماء كردية أو عبرها سلاماً يا قامشلو وأنت متشحة بسواد أدخنة تروّع الأجنة في أرحام أمهاتها، وتلزِم الأنوف بلزوم التنفس على حذر، حيث الهواء يشهد على هذه الواقعة !
سلاماً حيث تفرَّق شمل السلام كثيراً، رغم الوعود والموعود، سلاماً حيث تبلبلت لغة السلام، وتناثرت وجوه في جهات وجهات، فأي قامشلو بقيت من قامشلو، أي قامشلو تُسمّى في قامشلو، أي قامشلو تستحق المصافحة والمؤاساة ؟
***
وللعين أن تسمع وأن تلمس كل ما أمكنها التقاطه وسماعه وتذوقه وجس نبضه بدءاً من لحظة العبور الفاصلة، بدءاً من ” بيش خابور “، بدءاً من نقطة التفييز والسير في أرض تعنيك وتأويك، وليست ضامنة سلامتك، وهي تعيش أهواء سياسات شتى، وللكردي فيها نصيب ونصيب، للعين أن تراقب وتتوج خيفة مما يمتد ويشتد وطأةً، ويعاين حدة، ويستغرق مدة..
للعين أن تقرأ الروائح الحراقاتية، أن تتحرى المنتشر في ” الدم ” الأسود الموزع حول هذه البئر النفطية، أو في الجوار، كما لو أن كائناً مزّق واستبيح دمه، وفاحت منه رائحة كريهة جرّاء تعفنه، للعين أن تسأل وتسأل وتطلق العنان لأجوبة وتصورات عما يجري حيث الطريق مطعون في نقاط كثيرة منه مطباتياً، وخاضع لتمريرات وانعطافات على وقع تقديرات تحمل طابعاً أمنياً، للعين أن تتقصى الممتد في المكان والناس الذين لا يمكنهم إخفاء أوجاعهم حتى بلوغ قامشلو.
للعين أن تتنفس بعسر، وأن تتلوى في أصل حدقتها، كما لو أن القلب مودع فيها، وأن تصبح ذاكرة ذات طيات .
***
ما الذي تقدَّمه قامشلو للميمّم وجهه نحوها وهو منها وإليها، حيث أكون المعني هنا ؟ أبالعزاء، بالمؤاساة، وهي تعيش عزاءها الجمعي، مؤاساتها الجمعية، جرحها الجمعي حضوراً وغياباً ؟ بأي نوع من الورود المضخّمة ” بدماء من رُسِموا شهداء، ومن مضوا وصاروا في خانة الشهداء، ومن يهيمون على وجوههم وتنتظرهم لحظات غافلة لتصيرهم في مقام الشهداء، ومن يجهلون نوع الموت الذي يتربص بهم، حتى وإن كانوا في عقر دارهم”، تفتح ذراعيها المشدودتين إلى أرض تتنفس بصعوبة من وطأة العذابات والصور والعبارات التي تعدُ بالمزيد من ” زلزلة الأرض زلزالها “؟
ما الذي أبقي لقامشلو لتبقى قامشلو على وقع قام شلو إثر شلو، في جهات الأرض الأربع؟ أين قامشلو تقيم في قلب قامشلو الذي لم يعد يتسع لقامشلوه، وقد انفضّت قامشلو من حول قامشلو واصطحبت قامشلوييها وهم الألوف المؤلفة؟ كيف يمكن التعرف على قامشلو، والتفريق بينها وبين قامشلي كما يعلم صرّافو اسمها من الكرد وغير الكرد، ومعرفة نسبة المتبقي من المفارق، والمهدور من الاسم قياساً إلى المقهور في الاسم واستناداً إلى المنكوب في الاسم؟
عن أي قامشلو أسائلها وأنا على حدودها، وهي مفتوحة، كما هي الجغرافيا دون تحديد، حدود لم تعد تعرَف دقة؟ كيف أحدد في قامشلو ما كنت أعيشها قبل سنوات، وأنا على مشارفها، وقد عبرت عشرات الحواجز، وأنا على يقين أن كل حاجز يحمّل جسد قامشلو عبئاً نارياً مضاعفاً؟ كما لو أن المطحنة التي تبرز عالية، وهي تطحن خواء، وما فيها يفصح عن مفارقات الاسم والداخل في بنية الاسم، حيث المطحون خلاف سلفه” الصالح ” بصورة ما؟
وأنا أوزع ناظري على ” العنترية ” ومفارقة الاسم، إذ عن أي عنترة كردية بالإنابة يمكنني مكاشفة بنية الوجه البائس، رغم استماتة المجابهة قاعدياً من أجل البقاء، كم عنترة يتداخلون في العنترية في سنّيها الشِداد هذه؟
***
لا يحتاج الناظر في الممتد بنياناً وأحياء المكان إلى سماع صوت أو ترجمانه، ليعرف يقين المكان من زيفه؟ ليعرف أهليه من أهليه، كرده من كرده من كرده هذه المرة، حيث مشاهد الصور المتداولة، والنياشين، واللافتات، والعبارات التي تتقاسم جهات شتى من قامشلو، وقامشلو نهب يقين موجّه، وكردية تتلكأ في التعريف بنوعها وجنسها، تعلِم هذه مجتمعة عن أن قامشلو التي تحفَظ في الصدور غير التي تدَك في الصدور، قامشلو التي هزلت، وشحب لونها على وقع مئات ألوف من بنيها وبناتها، صغارها وكبارها، وقد سلَّموا رقابهم لمجهول تعجز قامشلو عن بلوغه.
لكم هي الحواجز باعثة على الخوف والتحفظ، رغم كل ما يمكن التنبه إليه” احتياطات أمنية “، لأن الخرسانة التي تتقاسم أحياء وحتى بيوتاً وثمة فوهات لا تعرف المزاح إن نطقت بغتة، أو أجيز لها النطق، وحدها في الإجمال تظهِر البطاقة الجديدة لقامشلو، وفيها من لاقامشلييها، ما يجعل قامشلييها غرباء المكان واللسان، كلما تقدمت بك الخطى صوب الداخل المزدحم بوجوه أسلمت قامشلو المجال مرغمة لها، وتلك هي إحدى رزايا المحيط وأقطاره وأوتاره، ولا يعلَم موقع قامشلو وجوارها لصق أي نقطة محيطية، أو قطر، أو وتر، وكيف يجري تدبير مصيرها؟!
***
أعانق أهلاً لكم تغيّروا، لكم تغيرت أنا، لكم تغيَّر المكان بهم، تغير الزمان بنا وفينا، وأوغلت فينا السنون مضاعفة أوجاعاً ضاغطة، كما تقول شهادة تجاعيد الوجوه، غضونها، تقطيبات تتاخم الأعين، بياض نهم يخترق سواد شعر الرأس، أين هم أطفال الأمس وقد كبروا بما لا يقاس، كما لو أن ثمة خوفاً خاصاً يهيب بهم لأن يكبروا ليسندوا أهلهم الذين تقوست ظهورهم، وقلصت مساحة الرؤية؟ أصافح أيد متوترة، برزت فيها عروق، وهي تشكو ضعف الاتصال، وعزلة المكان عن العالم، وهي ترتجف قبل حصول المصافحة، تأكيداً على خطب جلل يتعشش في الداخل.
لكم كبرنا وصغرنا، لكم صغرنا لحساب من يكبروا ليزيدونا أثقال ترّهاتهم ونزواتهم ووصاياتهم، وبسرعات قياسية، إدراكاً منهم أن الزمن المفتوح غير مباح لهم، لهذا يكبرون ويكبرون وهم يصغّرون سواهم، ليكونوا برسم الأوصياء عليهم، دونما انتظار للاستفسار، أو الاعتراض، أو التساؤل، لكم صغرت قامشلو الأمس، وكبرت قامشلي اليوم.
أبحث عن وجوه تعنيني، كما لو أنني أبحث عن إبرة في بيدر قش، أعثر بصعوبة على بعض أثير منها. كما لو أن اللقاء المباغت إحالة إلى أن المكان بزمانه دخل دفعة واحدة في لامعقول لا يحسن الزمان والمكان تبيُّن لونه وساعته.
***
وبعض من رؤية الأحبة منشّط لذاكرة قامشلو الأمس، أحبَّة مازالوا أحبَّة، ونحن نتحدث سريعاً، كما لو أن هناك خشية من تصدع المكان أكثر مما هو متصدع، وفينا حرص على أن نعيش قامشلو الأمس في الشارع والساحة والبيت، وفينا ما يشدنا إلى غد لا نعلم بحقيقته، ربما شعوراً منا أن بعض الوهم مفيد في حالة كهذه لنعيش تفاؤلاً- ولو- عابراً.
في بيت ضمَّنا نحن أصدقاء قامشلو الأمس، حيث كان فرزند، محمود، راج آل، نضال، صحبة عائلاتهم الكريمة، وهم بكرم الأمس معزَّزون، احتفاء بما كان، وكنت صحبة زوجتي بالمقابل، وكانت ساعات عدة تعبيراً عن معايشة زمن مصرَّف خارج المكان ذي الحواجز، والزمان ذي الحواجز، والكلام ذي الحواجز، فشكراً لهم وألقابهم.
شكراً لأصدقاء كانوا كرماء بعلمهم النطاسي في تدبر حالتنا الصحية أنا والعائلة، الدكاترة: ماروكي، مصطفى، فرات، عبدالقادر، حيث أفصح الاهتمام عن أن قامشلو الأمس لما تزل تقاوم.
***
ما أكثر المخاوف التي تتلبس وجوه الناس هنا، ما أكثرها من مخاوف مستحدثة في ضوء الدمار المديد الذي يتملك المكان، لا استثناء من الخوف، حتى لو الفاعل مولّد خوف، فربما يبث خوفاً هو خوفه بالذات. أذكر هنا، أن سائق تكسي ” سرفيس، خط الكورنيش “، أعلمني أن أمرأة حاولت أن تفتح باب سيارته على غفلة، وهي مسرعة، إثر سماعها لصوت إطلاق رصاص، كونها تعيش رعب كل لحظة، وليس قامشلوياً من لا يعيش الخوف الدائم والمنتشر في كل مكان.
***
لكم شدَّتني خطاي إلى محلات، مكاتب لأصدقاء قامشلو الأمس، وقد فارقوا المكان مرغمين، كما هو وضعي، وتركوا بيوتاً تبكيهم، كما هو بيتي المضعضع. لكم اندفعت لاشعورياً صوب هذه الجهة أو تلك، إدراكاً مني أن هناك من ينتظرني أو أريد رؤيته في قامشلو الأمس. أين أنت يا محمود، يا عدنان، أنطوان؟ أين أنت يا سيف ” لوند داليني “، وأنا أقدّر الآن فاجعتك برحيل والدتك في ” 19-1-2017 “، وأنت هناك موزع بين ألمانيا والبرتغال، وصوتك مبحوح، وروحك مبحوحة، حيث تعجز عن وداع والدتك التي رحلت إلى مقرها الأبدي؟ أي موت مضاعف هنا، موت يضاف إلى سواه، إلى سواه، جرّاء الرحيل المتسلسل لأحبتنا، ومن هم في حكم أحبتنا، ونعجز عن القيام بإيقاف مسلسل الرحيل عن بعد؟!
في السياق، وفي عزاء صديق آخر” جمعة جمعة ” حيث رحل والده، والتقيت هناك بوجوه لم تغب عن البال، صحبة الصديق أمير، لكم كان المشهد مؤلماً، حيث كان جمعة وحده، وأخوه عالق في نقطة حدودية بعيدة، لا يحسن التقدم أو التراجع، وقد أعلِم برحيل والده الأبدي؟ هل يمكن للغة ما أن تنقل رعب المعاش الوجداني إلى كتابة بيسر؟
***
التقيت بباسيل الأرمني، بزهير السرياني، بمحمد العربي، بياور الكردي..أصدقاء يتقاسمون البلد بأسمائهم ودلالاتها وجماليات هذا التوزيع الأثير، وما أكثر ما خسرته قامشلو الأمس، تحت ثقل قامشلي اليوم. إذ لا أجمل من التحدث بلغات هؤلاء القلبية، والشعور ببعض العزيمة التي تحافظ على حرارة الأمس حباً بالآتي وما بعده.
ضمناً، التقيت بالصديق صلاح أبو كيم في صيدليته، وأنا أتطمأن على صحته، وطال بي الجلوس في صيدليته، لأن ما عشناه من هموم مشتركة، عما يكونه كرد الأمس وكرد اليوم وكرد الغد، وما نكونه نحن، تطلَّب ذلك، وثمة من يشاطروننا في هذا المعترك النزفي الأوقيانوسي، وفي زحمة الأخبار المتضاربة، ومن ينتشون بشعارات كردية وغير كردية.
وفي مفارقة لافتة، أن ” كوني ره ش “، وقف فجأة على مدخل باب الصيدلية، وفي لمح البصر رآني، وفي لمح البصر توارى عن الأنظار. يا للبائس المسكين، أما زال يفكر على طريقة الأمس البعيد؟ أيظن هو ومن هو على شاكلته، أن المضي قدماً على مكابرة مزيفة في الابتعاد والقطيعة، يمنحه سموَّ مقام؟ ما الذي يضير لو أنه تقدم إلى الداخل، وخفّفنا من وطأة المعاش؟ ومازال البائس المسكين يعيش حيفاً مضخماً، ينسف فيه مصداقية كونه كاتباً جملة وتفصيلاً!
***
وعلي أن أشير إلى ما لا يختَتم من قول، وهو أن القانون الجائر مرفوض أخلاقياً، سوى أنه في حالة ما، قد تفرض حضوره، عندما يُعرف بأنه القانون الوحيد، وما تعيشه قامشلو هو أن هناك أكثر من قانون يحكم، رسمي وباسم الرسمي وما يعتبر لا رسمياً، ولكل قانون منطقة نفوذه، أو جنوده وعتاده وعدته، وما أصعب التعايش والتفاهم مع كل ذلك، حيث يوجد قانون ولا يوجد، يوجد من يفرض قانونه كما يريد، وهو نفسه يخضع لقانون، يوجد قانون ومن يحاول تطبيقه، سوى أنه عاجز عن تأكيد قانونيته، يوجد قانون مرسوم ومنفَّذ، وقد لا ينفَّذ تبعاً لإرادات ليست واحدة.
***
خرجت من قامشلي، خرجت من بيتي المشبع بالرطوبة والغبار، خرجت من حارتي المتغيرة المعالم، خرجت من زحمة قامشلي الحواجز والمتاريس والشعارات والمحاذير وقصص لا نهاية لها، خرجت من محيط قامشلي، وأنا أيمم وجهي صوب ” بيش خابور “، خرجت من محيط ” بيش خابور “، وما أكثر القرى التي أرشفتها في واعيتي بالعين الموزعة بأنظارها، وفي العمق كانت ” Digir “، حيث ذكّرتني بأحبة لي من آل عباس: محمود، خيرو، عباس، وبأحبة مضوا وهم مودعون في مقبرتها الأثيرة” حمزة مكسي، قاسم مقداد، مجيد حاجو آغا…”، وحين عبر” تربه سبي ” تذكرت الصديق عزيز توما، ولكم تمنيت رؤيته فلم أفلح لأسباب خارج إرادتي.
خرجت دون أن أصاب بأذى، سوى أن الذي لم أخرج منه، هو أنني لم أخرج من قامشلو الأمس، ومن نطاق أصدقاء قامشلو الأمس، وحميمية قامشلو الأمس، فهل من آت قريب يضمي بي، إلى قامشلو الأمس، قبل أن يمضي بي إلى حيث أغيب عن الأنظار كلياً ؟
دهوك- في 20-1-2017.