ماجد ع محمد
“المعرفة شيء وامتلاك شجاعة إعلانها شيء آخر”
أنتوني دو ملو
في معجم الأسماء المستعارة يقول الكاتب اللبناني يوسف أسعد داغر (إنّ الرمز من الأساليب التي عمد إليها الإنسان منذ أقدم العصور في التستّر والتخفي عند البوح بأفكاره، والتعبير عن خلجات النفس الدفينة، وإن ظاهرة التخفي وراء اسم مستعار عرفها الأدب العربي القديم منه والحديث، إذ أخذ البعض من كتابنا ومؤلفينا قديماً وحديثاً، يتخفّون وبينهم الكبار أخذوا ينشرون بنات أفكارهم، وراء أسماء قلّما اتخذوها وعرفوا بها في دنيا الأدب) فإلى جانب حداثة التجربة قد يكون خوفهم من المجتمع أو من عسس الدولة سبب بارز من أسباب اللجوء الى استخدام الأقنعة،
وفي عالم الإبداع ربما كان الأمر متعلقاً بالخشية من الإخفاق، إذ أن بعضهم خشية من الفشل في التجارب الأولى يلجؤون إلى استخدام الأسماء المستعارة، أما لدى أغلب الكتاب في منطقة الشرق الأوسط فسببه ربما يعود للخوف من الأنظمة وجلاوزتها والبيئة المحيطة، وقد يلجأ بعضهم للأسماء المستعارة كنوع من التحايل على القارئ ليس إلا، أو التحايل على القوانين والشرائع الاعلامية مثل: نشر الكاتب لأكثر من مادة في عدد واحد من الصحيفة أو من المجلة، وهو ما كان يحدث بكثرة في جرائد النظام السوري، وغالباً ما كان بهدف الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من العوائد المالية عن مساحات النشر والكتابة، لأن الأنانية والجشع كانت صفة طاغية لدى الكثير من الصحفيين وكتاب النظام، كما أنه في بعض الأحيان كان يكتب بعضهم باسمين أو أكثر، إن كان من جماعة النظام أو المعارضة في الصحف أو المجلات التي يكتبون بها بسبب فقر وشح المواد المرسلة إليهم، لذا كان الصحفي يضطر في بعض الأحيان لأن يكتب باسمه واسم أو اسمين آخرين لملئ المساحة، والشيء الجدير بالذكر في هذا الخصوص أن أغلب من اشتهروا بأسمائهم المستعارة كان المحيطون بهم يعرفونهم، وحتى المجتمع القريب أيضاً كان يعرف أغلبهم، وذلك إذا ما أراد معرفة الاسم الحقيقي لذلك الكاتب أو تلك الفنانة، وفيما يتعلق بالكتاب العرب والأجانب المشهورين الذين كتبوا بأسماء مستعارة فقد أحصت الكاتبة زينب مرعب اللامعين منهم إن لم نقل معظمهم في مقالة لها نشرت المادة في صحيفة (الإمارات اليوم) بتاريخ 4 أبريل 2008.
ذلك كان بالنسبة لأهل الكتابة والفن ذكوراً أو إناثا، ولكن بعد الثورة التي أحدثتها التقنية في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، غدت عادة اللجوء الى الأسماء المستعارة ظاهرة مزعجة جداً، لأن الكثير من الأفراد راحوا يستخدمون عدة أسماء مستعارة في اليوم الواحد من خلال تعاملهم اليومي مع وسائل التواصل أو المواقع الالكترونية، لا لأن لدى واحدهم شيء مفيد ويخشى من الأنظمة للبوح بها، أو يخاف من أن يتعقبه المجتمع، إنما لعله يريد من خلال تلك الاقنعة أن يظهر حقيقة ما يكنه بدون أن يحاسبه أحد على ما يتفوه به ويعبر عن مكنونه بدون أن ينال العتاب من أحد، ففي الفيس بوك والتويتر منهم من يستخدم كذا قناع في يومه، وكله لإخفاء جوهر ما يكنه، لكي يطرح هنا وهناك ربما كل سخافاته المستبطنة من خلال ذلك القناع، وهذا الأمر ليس فقط صار مقززاً، إنما راح يسبب إزعاجاً يومياً للناس، بحكم أن ذلك الذي يستفرغ كبته من خلال قناعه الآخر ضامنٌ بأن لا أحد يعرفه، لذا تراه يرمي كل أمراضه الجوفية بغلاظة ووقاحة لا نظير لها في وجه الناس بدون أن يرف له جفن.
والسؤال الذي يطرح نفسه فيا ترى إذا كان الكتاب والفنانون قد استخدموا في بداية ظهورهم الأسماء المستعارة حتى يثبتوا أقدامهم في عالم الفن والابداع، ومن ثم يعلنوا عن أناهم بعد أن يحقق الواحد منهم مبتغاه، فما هي الغاية الكامنة إذاً خلف لجوء المواطن الواحد الى استخدام عشرات الأقنعة في اليوم أو خلال اسبوع؟ غيرالتشويش والإزعاج وإطلاق العنان لغاياتٍ خبيثة طال فترة ركونها في قاع صاحبها، وقد وجد لنفسه المنفذ للتخلص منها، فيا ترى ألا يُفهم من ذلك التصرف بأن من يلجأ إلى هذه الآلية من الممكن أن يكون أحد دوافعه هو عدم إمتلاك واحدهم لأصغر مقومات الشخصية مثل باقي الأسوياء من البشر، باعتبار أن السوي لا يحتاج إلى البراقع ليخفي وجهه عن الناس، ولا يعاني من العلل النفسية أو من الجبن الصرف كما هي العادة لدى الكثير من المقنعين في وسائل التواصل الانترنيتي، إذ أن هذا المرض بدا واضحاً في النت بوجهٍ عام، وهي كظاهرة غدت عند الكثير من الأنفار أفضل طريقة لحضور أذى النفرِ وغياب أناه، وذلك من خلال اقترافه الممارسات السخيفة التي لا تعبر في الكثير من الأحيان إلا عن الإنحطاط الخلقي لصاحبه عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وقد تحدث عن بعض الملامح السلبية لوسائل التواصل وبروز الأنوات الهزيلة من خلالها الكاتب الإيطالي الراحل امبرتو ايكو بقوله: “أن شبكات التواصل الاجتماعي تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.
عموماً قد يُعفى من الطعن الكثير من مستخدمي وسائل التواصل باعتبارها في متناول جميع البشر على اختلاف صنوفهم ومشاربهم الأخلاقية أو الثقافية، ولكن وكما يدرك أهل المعرفة بأن قارئ الكتب والمقالات هم أكثر ثقافة من غيرهم، ومع ذلك نرى الكثير ممن ينتمون الى تلك الفئة مثلهم مثل العوام، يدلقون كل ما يضمرونه من خلال الأقنعة، ولا يجرؤون على إظهار أنواتهم قط، حال بعضهم كحال أرذل الناس، بل تصرفهم قد يكون أكثر قبحاً من العوام، باعتبار أن على واحدهم أن يكون ممتلكاً شيئاً من الشجاعة، وقادراً على أن يُعبر بفخر واعتزاز عما يريد قوله ويؤمن به، ويظهر بكل صراحة ما يستبطنه من خلال هويته المعروفة للناس، وهو إن دل على شيء فهو يدل على أن هذه الفئة المسماة بالمثقفة لا يقل نسبة المرضى بينهم عن الدهماء، وإلا لكان واحدهم في القرن الواحد والعشرين ارتقى على الأقل الى مستوى سقراط الذي بالإضافة الى الفكر والفلسفة كان كتلة من الصدق والإباء والشجاعة، والذي تجرع السم كعقوبة له بكل أريحية، لأنه لم يرد التهرب من مسؤولية ما كان ينشره بين الناس، مع أنه كان بمقدوره التخلص من عقوبة الموت مسموماً لو أراد ذلك.
ولكن لنفترض بأن المثقف أو الكاتب مطلوب منه التخفي تحت اسمٍ ما ليقدر على متابعة دوره التنويري، أو يقوم بارسال وإيصال رسالته من غير أن يتعرض للاعتقال والمضايقة مِن قبل الأنظمة الدكتاتورية، وهذا قد يكون مقبولاً في ظل الحكومات الشمولية في الشرق، وعلى سبيل المثال فإن صاحب هذه المقالة نفسه كان قد استخدم لفترة طويلة في سوريا اسماً مستعاراً هو:( م. حج كبه) مع العلم أن أغلب الأصدقاء والمعارف كانوا على علم بهويته، لئن لم يكن الهدف من الاسم المستعار إخفاء شخصيته الحقيقية عن المجتمع، إنما فقط ليخفيها عن أجهزة أمن النظام وجلاوزته، وهو على ما أعتقد الاسلوب الذي فضّل اتباعه زمناً طويلاً السياسي الكردي صلاح بدر الدين من خلال تسميته بالنضال النصف العلني، أي أن يكون الناشط أو الكاتب أو السياسي معروفاً من قبل الناس ولكنه غير معروف من قبل الأجهزة الأمنية.
وإذآ ما آمنا بأن الخوف من عسس النظام هو سبب رئيسي للتخفي لدى بعضهم، حيث أن خشيتهم على حياتهم من عسف الدولة قد يكون سبباً مقنعاً للتواري، وإذ ما آمنا بأن تخلف المجتمع هو أيضاً سببٌ آخر للجوء أهل الإبداع أو العاملين في حقول السياسية للتقنع، ولكن هل بمقدور أحدهم أن يبرر لجوء الناس المقيمين في الدول الغربية إلى ذلك القناع القميء؟ القناع الذي بحثت طويلاً عن أية فضيلة له فلم أجده، خاصة بالنسبة لكل من يتنعم في الدول التي تحترم حقوق الانسان ويتوفر فيها كل مقومات احترام وحرية الرأي، وإذا كان القناع وسيلة من وسائل الهرب والدفاع عن الذات فممن يهرب المقنع يا ترى؟ وهل الدفاع عن الذات يكون من خلال نشر مقابحها نيابةً عن حضور صاحبها وذلك لإعادة الاعتبار لها؟ أم بإبقائها ذاتاً متوارية، خنوعة، خجلة من ذاتها، هاربة، متسللة، متخفية، غير قادرة على المجابهة وإعلان أناها؟
لذا أتصور بأن ثمة نموذجين من الناس الذين يلجأون الى الأسماء المستعارة من الذين يقيمون في أحضان الدول الغربية، منها أن واضع القناع أو المتخفي، إما أنه يعيش نفاقاً حقيقياً في دخيلة نفسه قبل أي شيء، ولا يستطيع أن يعيش كأي إنسان سوي سيكولوجياً ومتوازن بين ما يظهره وما يعلنه للناس الذين يعرفونه، أو أنه بالأصل يعاني من الخوف الشديد من الآخر، ولا جرأة لديه للتعبير عن آرائه خوفاً من أن يواجهه أحدهم بناءً على ما يكتبه هنا أو هناك، أوأنه يتصرف كذلك بسبب تناقضاته البنوية كشرقي مبتلي بعشرات العلل مع ما يدّعيه في العلن بين من يقيم بين ظهرانيهم في الدول الغربية، إذ يبدو وكأن التقية التي عاشها الشرقي في بلاده عقوداً من الزمان لم تشبع نهم إخفائه لهويته أو حقيقته الغير مرحب بها، لذا أخذها معه إلى بلاد الحرية من باب حبه لمعايشتها، إذ أن من إحدى تعريفات التقية (إخفاء الحقّ ومصانعة النّاس والتّظاهر بغير ما يعتقده، ومنها اتَّقى بالشَّيء: جعله وِقاية له وحماية من شيءٍ آخر، أو التَّقِيَّةِ إِخْفاءُ الشخص مَذْهَبِهِ والتَّسَتُّرُ عَلَيْهِ خَوْفاً وَخَشْيَةً)، فأية خشية يا ترى يشكو منها النفر الذي يعيش في قلب أوربا حتى يتخفى خلف عشرات الأقنعة في مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر تعليقاته كل مرة باسم جديد في المواقع الالكترونية؟ وبالنسبة للأخير فلا شك بأن من يتابع المكتوبات بشغف هو جدير بالاحترام ليس كذات يعيش التقية، إنما باعتباره يتابع المقالات والأبحاث والدراسات في زمن سطوة القراءات الصاروخية الفيسبوكية والتويترية وقلة القراء، كما أن من ضمن الفئة الأخيرة من يعلقون حقيقةً بمعلومات قيمة جداً، ولكن أية قيمة لمعرفة الشخص وعلومه إن كان الشخص نفسه رعديداً جباناً، ولا يتجرأ على أن يُعرّف بنفسه أو يكشف عن هويته كذات فاعلة؟ باعتبار أن الذات الفاعلة تُعلن عن أناها بكل فخر ولا تخجل مما تصرح به، وهو ما أشار إليه الكاتب أنتوني دو ملو في (أغنية الطائر).
ختاماً ففيما يخص المعلق الذي لا يتجرأ على ان يصرح بكل شجاعة عن آرائه في المجتمع، أليس يدل تصرفه على أنه منافق في الحياة الواقعية؟ وأنه بناءً على تصرفه يؤكد بأنه يظهر للناس في الشارع والمحافل العامة بخلاف ما يضمره في دخيلة نفسه، لذا فيكون الشخص في التعليقات عادةً غيره في الزقاق، ثم ألا يقول المنطق بأن كل من يخفي آراءه وهو في ظل الحكومات الديمقراطية ينبغي عدم التعامل معه بأي احترامٍ يذكر بل ولا بأس حتى تم تجاهله بالمطلق، بكونه أهلٌ لذلك التعامل، بما أنه هو من وضع نفسه بنفسه موضعَ الشكِ فيما يكنه، بل أليس عارٌ على مواطن في القرن والواحد والعشرين ومقيم في الدول الغربية، في أمريكا، بريطانيا أو إحدى الدول الأوربية وهو يخشى من عواقب ما يقول، بينما الفيلسوف الاغريقي سقراط الذي أشرنا إليه أعلاه تجرَّع السم قبل الميلاد بثلاثمائة سنة تعبيراً عن شجاعته ومسؤوليته عن كل ما قاله بين الرعية؟ علماً أن سقراط لم يهرب مثلنا أو كما فعل معظم مثقفي الشرق من خلال خلاص الذات والفرار إلى أوروبا، وكان بمقدوره أن يفر وقد هيأ له صديقه أقريطون درب الهرب للخلاص من عقوبة الموت، لكن الفيلسوف الساطع أبداً كالشمسِ عِبر التاريخ أبى وواجه مصيره بكل فخرٍ وعزٍ وإباء.