خوشناف سليمان
ثمة علاقة جدلية بين قوة الإقتصاد والعملة المحلية، إدراك كنه هذه العلاقة يسمح الى حد بعيد معرفة التحولات الجارية على قيمتها، حيث هناك عدة عوامل تؤثر على قوتها أو ضعفها؛ منها إقتصادية مثل أسعار الفائدة والتضخم، وسياسية مثل الانقلابات والحروب والثورات.
سعر الفائدة (إقراض المال، مقابل سعر يسده المقترض نظير دينه تجاه المُقرِض). وهو واحد من أهم محركات السوق، حيث يقوم البنك المركزي بتحديد معدل الفائدة الأساسي، ويستخدمه كأداة لتسيير الاقتصاد، أما بزيادته لكبح جماح التضخم، أو خفضه لتعزيز النمو. البنك المركزي يقرض المال للبنوك، وهي من جانبها تمنحه للمستهلكين، مقابل نسبة فائدة معينة.
رفع سعر الفائدة، ستزيد أعباء التسديد، وبالتالي يتناقص مقدار المال المخصص للإنفاق من جانب المقترضين، الأمر الذي ينعكس سلباً على الاقتصاد. لكن، في المقابل، أن أرتفاع سعر الفائدة يجذب رؤوس الأموال، ويزيد الطلب على العملة. والعكس صحيح ايضاً، أي إنخفاض معدل الفائدة، يؤدي الى تقليص الإستثمار فى العملة الوطنية، والتوجه الى شراء عملة أخرى ذات معدل فائدة مرتفع. عموما، زيادة سعر الفائدة يهدف الى جذب الإستثمارات الأجنبية، التي تساهم في إستقرار العملة المحلية. وهو أمر في غاية الأهمية، يجب دراسته بدقة من قبل السلطات النقدية، بسبب أن إرتفاع سعر الفائدة قد ينعكس سلباً على عملة البلد.
التضخم وهو مؤشر يقيس وتيرة إرتفاع أسعار السلع والخدمات في فترة زمنية محددة، زيادة معدلاته تؤدي الى تراجع دخل الناس وإضعاف القدرة الشرائية لهم، الأمر الذي ينعكس سلباً على قيمة العملة. ونتيجة لذلك قد يقع الاقتصاد في شرك الإنكماش، ما يولد شعورا لدى المستثمرين بأخطار محدقة. وهنا بالذات، تكمن وظيفة البنك المركزي في تحديد مستوى مقبول من معدل التضخم، على سبيل المثال بنسبة 4٪ كحد أقصى. في حال ترواح التضخم ضمن هذا النطاق، فأن قيمة العملة تبقى مستقرة نسبيا، بينما تزداد سوءً كلما ابتعد المعدل عن تلك النسبة. وبالتالي كلما زاد معدل التضخم، إنخفض قيمة العملة بالمثل، لذلك تميل البنوك المركزية الى رفع أسعار الفائدة، من أجل حماية المستهلكين من التضخم المفرط. الوظيفة الأساسية لأي بنك مركزي هي الحفاظ على قيمة المال، أي على ثبات الاسعار، وذلك من أجل التوصل الى أستقرار إقتصادي، وخلق ظروف ملائمة لنمو الإنتاج.
في الحقيقة، أن إستخدام معدل التضخم كمؤشر لتحديد مسار قيمة العملة، هو أمر في غاية التعقيد والتداخل. لذا يتم عموما إستخدام مصطلحي “تشددي” و “تخفيفي” لتحديد موقف البنك المركزي في إدارة التوازن بين التضخم والنمو. فإذا كان البنك المركزي قلقاً بشأن التضخم، فالسياسة التي سيسلكها ستكون تشددية، وسيتوجه نحو رفع أسعار الفائدة، وإذا كان قلقاً بشأن النمو، فالسياسة التي سينهجها ستكون تخفيفية، وسيتوجه نحو خفض أسعار الفائدة.
تفاقم الأجواء السياسية والأمنية في تركيا بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة منتصف يوليو/تموز الماضي، والتي كلفت إقتصادها نحو مئة مليار دولار، إضافة الى توتر الأوضاع الجيوسياسية المحيطة بها، ساهمت في تعميق أزمة الليرة التركية، وتدني قيمتها الى مستويات قياسية لتصل سعر صرفها الى 3.58 ليرة للدولار الواحد. وبهذا تصبح واحدة من أسوأ العملات في سوق التداول. وقد أعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عملية التراجع، بأنها “آلاعيب”، تمارسها قوى معادية، وناشد مواطنيه الأتراك بتحويل ما بحوزتهم من عملات أجنبية الى العملة المحلية، مشدداً الى أنه لا خيار آخر غير تخفيض أسعار الفائدة، لتحفيز النمو. بينما يرى الخبراء الإقتصاديين، أن أردوغان يسعى من وراء ذلك الى بسط سيطرته على توجهات البنك المركزي، وهو موقف قد يثير قلق المستثمرين الأجانب، بإعتباره مُبني على حسابات سياسية، يمكن أن تقضي على إستقلالية القرار لدى المصرف. فأردوغان يدعي أن خفض أسعار الفائدة، سيؤدي الى تراجع معدل التضخم الأساسي في البلاد، والذي بلغ وفق بيانات معهد الأحصاء التركي ٧% في المئة على أساس سنوي. وهذا خطأ فادح، يتناقض مع مبادئ علم الإقتصاد. ولكي تتمكن الحكومة الخروج من المأزق، ينبغي عليها التركيز على خطر تواصل نمو ديون الشركات الخارجية التي بلغت 170 مليار دولار، وتضخم ديون البلاد الخارجية، التي تخطت حدود 420 مليار دولار، والتي تلتهم مع الفوائد المترتبة عن ودائع الديون الجزء الأكبر من واردات الدولة، بالإضافة الى العجز الدائم في الميزان التجاري، ونوعية مكوناته وهيكلته وليس قيمته المطلقة. كلها مؤشرات إقتصادية هامة، تجعل العملة المحلية أكثر حساسية وعرضة للمخاطر.
من ناحية اخرى، فأن الاحتقان والكبت السياسي، الذي بلغ ذروته على خلفية جمود الستاتيكو الداخلي، ساهم بدوره في عملية إنهيار قيمة العملة الوطنية وتفجير الحرب الإقتصادية، وهي أشدا فتكا من الحروب الاخرى. وفي هذا الإطار، يجب الإشارة الى أنه هناك خط سير معين ومرسوم مسبقاً، على تركيا أن تتبعه في المجال الاقتصادي. فدول مجموعة العشرين مثلاً، لن تسمح لها التنعم طويلا بالإستقرار الإقتصادي وبتكديس الأموال الهائلة في خزانتها، وفي نفس الوقت أن تتلذذ بترف ورفاهية الحماية من جانب حلف الشمال الأطلسي، بينما تعاني بلدانها من الأزمة المالية الخانقة. وعليه فأن تقزيم دور تركيا أو تقليصه لا يزال في بدايته. يبدو أن أردوغان أصبح يدرك هذه المعادلة، ويدرك أن أيام رخاء العيش ضمن مجموعة العشرين باتت محدودة.
عموماً، يملك الإقتصاد التركي فُرص إستثمارية واعدة وعوامل قوة عديدة، منها أن 40 في المائة من التجارة الخارجية تتم مع بلدان الاتحاد الأوروبي و72 في المائة من الإستثمارات الأجنبية المباشرة تأتي من تلك البلدان. رغم ذلك فأن شركات الإستثمار الكبرى ليست متحمسة كثيرا بتوظيف أموالها في البلاد. فالقضية لا تتعلق بالأداء الاقتصادي فقط، بقدر ما يتعلق الأمر بمنطقة مضطربة سياسيا. وعليه فأن تدهور قيمة الليرة التركية، هو بمثابة إيذان لتلك الشركات بإمكانية تعرضها لخسائر مالية في حال الإستمرار في الإستثمار. وهنا يمكن التذكير بقرار مجموعة “سيتي-غروب” الأمريكية قبل أكثر من سنة، بإعلان إنسحابها وبيع حصتها في “AkbankTAS”، رابع أكبر المصارف التركية في مجال الإقراض. إذن فأن إستمرار تدهور الأوضاع السياسية العامة في البلاد، يولد حالة من الذعر لدى الشركات الإستثمارية العالمية، التي تصنف الإقتصاد التركي حاليا في خانة الإقتصادات ذات المخاطر المرتفعة.
أن عوامل القوة المذكورة أعلاه، ترافقها، في الواقع، عوامل ضعف قد تؤدي الى إنهيار إقتصادي محتمل. في هذا الصدد، تشير بيانات صندوق النقد الدولي، أن تركيا نجحت في زيادة الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة أضعاف خلال العقد الأخير، إلا أن حصتها من الاقتصاد العالمي لم تتجاوز حدود 1,4 في المائة، وظل معدل النمو في السنوات الأخيرة أقل من نظرائها في الأسواق الناشئة، وكذلك تراجع حجم التدفقات الرأسمالية الى تركيا من 73 مليار دولار في 2013 الى 43 مليارا فقط في 2014، بينما تقلصت الإستثمارات الأجنبية المباشرة الى النصف خلال عام واحد لتصل إلى 5.5 مليار دولار.
خلاصة القول، لا تقتصر أسباب الأزمة المالية الحالية في تركيا على الجانب الإقتصادي فحسب، بل تعود الى تصاعد أعمالها العسكرية خارج الحدود والإنفاق الباهظ على آلتها العسكرية الضخمة، وكذلك إنتهاج الحكومة سياسة حربية هوجاء في مدن وبلدات كُردستان، بالإضافة الى تدهور علاقاتها السياسية مع الاتحاد الاوروبي، وتزايد حدة المخاوف، من جراء سعي القيادة السياسية في الحزب الحاكم الى توسيع وتعزيز صلاحيات أردوغان. لذلك يرى محللون كثيرون، أن أسباب تراجع قيمة الليرة التركية لا تعود بالضرورة الى العوامل الإقتصادية، بقدر ما هي مرتبطة بشكل عضوي بتداعيات الأزمة السياسية، التي تجتاح البلاد.