واقع القطاع العام في سوريا.. قراءة سياسية

دهام حسن

يعرف ـ عادة ـ القطاع العام ، بأنه تلك المؤسسات التي تدار من قبل الدولة ، أو تقع ضمن إطار وإشراف ممثليها من الرؤساء والمديرين ، لذلك ليس هناك ما يميز القطاع  العام عن قطاع الدولة ؛  والقطاع العام ، ينبغي ألا  ينظر إليه بأنه مجرد مؤسسات فحسب ، بل  يعتبر شكلا من النظام الاقتصادي ، أيا كان تقييمك له ، ولا توجد في العالم دول دون قطاع عام ، قطاع دولة واسع ، وإن اختلفت المواقف منه
وهذا الشكل من الإدارة في الاقتصاد ، يجيز للدولة التدخل في مختلف أوجه  النشاط  الاقتصادي ، وأعتقد أن التقييم والاختلاف يأتيان من الحالة السياسية في البلد المعني ، توفر الحريات أو انعدامها، طبيعة السلطة الحاكمة ، ديمقراطية أو شمولية ، ورؤيتها  للتدابير الاقتصادية ، والتحولات الاجتماعية، الإصلاح الزراعي ، التأميمات ، أو بالضد  من ذلك كالتدابير الليبرالية في الاقتصاد ، أو تقوية العلاقات مع السوق الرأسمالية …
بعد الحرب العالمية الثانية حصلت سوريا على الاستقلال إثر الجلاء الفرنسي عنها في عام  1946 وتشكلت أول حكومة وطنية بعد الاستقلال  بمنأى عن الاحتلال  المباشر ، وإذا كان  ما يزال الاستقلاليون حينذاك تحت  تأثير النموذج  الرأسمالي السائد للتنمية ، وكانت الليبرالية في السياسة والاقتصاد هي الإطار  الذي تحرك من خلاله الاستقلاليون ، لكن وتيرة التنمية ، بسبب التراكمات خلال فترات طويلة ، ظلت بطيئة ، واصطبغ  الواقع القائم بسمة التخلف والفقر والجهل بامتياز ، وكانت جريرة ذلك كله تحمل للمستعمر الأجنبي ، لم يتح للاستقلاليين ـ وقتها ـ  من الاستفادة أو الاقتداء بالتجربة الرأسمالية في التنمية ،  فحرمت سوريا باعتقادي من هذه  التجربة ، ربما كان من الممكن أن تنقل سوريا إلى مناخات أفضل ، هذا مجرد احتمال ، ولكن لا أحد يستطيع أن يرجم بالغيب ؛ حيث أننا ما زلنا نتذكر أسماء بعض الشركات ومؤسسات القطاع الخاص ، التي ساهمت بقسطها في التنمية ، ترافق ذلك مع توسع في الحريات العامة  نسبيا ، لكن التجربة لم يكتب لها  الدوام  فقد تم وأدها في المهد ، حيث توقف  ذلك  نهائيا بوصول القوى  الراديكالية  إلى  السلطة ، وتوج ذلك  بإقامة الوحدة المصرية السورية في عام 1958…
كانت الأفكار الاشتراكية هي التي تلهم هؤلاء الثوريين الراديكاليين ، والتجربة السوفييتية ما زالت طرية في الأذهان وهي تغريهم ، فقد  كانوا مسحورين بالنظام السوفييتي ، ودولة “العمال والفلاحين” كما كان رائجا  ومتداولا ، فقاموا على شاكلتهم  بضرب الركائز الاقتصادية المتمثلة بتأميم المؤسسات الإنتاجية ، وضرب البرجوازية المنتجة ، ومصادرة أراضي الملاكين الكبار ، والتركيز على القطاع العام ، كونه  قطاع اشتراكي حسب رؤيتهم ، علما أن الواقع يكذب ذلك ، وهذا النمط من القطاع لا يمت إلى الاشتراكية بشيء .

ثم جاء  التركيز أيضا على شمولية  الدولة ، أو دكتاتوريتها على نمط الاتحاد السوفييتي ، وقد عرف هذا النمط من حصر السلطات بيد  الدولة  بالدولنة ، أي إتباع سياسة اقتصادية اجتماعية تكفل هيمنة  الدولة على مجمل النشاط الاقتصادي الاجتماعي …
صحيح أن  القطاع  العام  قد  يعيق فرص استسهال المستعمرين من استغلال الشعوب ، وتغلغله في اقتصاد البلد ، من جهة ، لكن بالمقابل عندما تحصر السلطة في أيدي أقلية محدودة  قد تكون مطية سهلة في السيطرة والتحكم من قبل الدول الرأسمالية نفسها ؛ ثم أن القطاع العام أو قطاع  الدولة في الأنظمة الشمولية ، تغدو مؤسساته مرتعا للفساد , ومسرحا للبيروقراطية ، فتنمو شريحة  متنفذة في سائر مؤسسات قطاع الدولة ، تنهب شطرا محسوسا من الثروة  دون أن تتملك  هذه الشريحة أي موقع إنتاجي ، أو مؤسسة ما تدر عليها  بهذا الثراء ، سوى سلطة إدارية ، وعقلية أوامرية .

هذه  الشريحة البيروقراطية لا يملك أفرادها سوى مكتب وموبايل ، بعيدين عن المواقع الإنتاجية ، رغم ذلك  يجنون أموالا  طائلة  بفعل سحر ساحر ، أي بمكتب  وقلم وموبايل ..!
إن طبيعة أي نظام ، ووجهته السياسية ، والقوى الطبقية الفاعلة فيه سياسيا ، هي الركائز التي تمدنا بما يمكننا أن نحكم على القطاع العام عن  مدى  جدواه ، أو مدى استغلاله من قبل أفراد متميزين ، يتمتعون بمزايا خاصة ، بل قل شديد الخصوصية ،  كما أوضحنا  قبل قليل ، ثم إن الاتكاء على القطاع  العام وحده ، وإهمال القطاع الخاص أثبت فشله وعدم العقلانية في معالجة العقد الاقتصادية والاجتماعية ..


بداية ـ لا بد للقطاع  العام لكي يؤتى ثمره أن يقوم على أساس نظام ديمقراطي ، يشارك في إدارته مختلف الشرائح الاجتماعية ، ويكون تحت سمع وبصر الرقابة المجتمعية ، وتختفي عن إدارته العناصر الفاسدة المتنفذة ، وكل هذا لابد أن يترافق مع قطاع  خاص منتج مرادف للقطاع العام ، فيما إذا أردنا التنمية الحقيقية للبلد ..
لقد  أدرك  لينين أهمية القطاع الخاص ، أدرك بأنه لا يمكن معالجة التعقيدات الروسية السوفيتية من نواحي الاقتصاد والمجتمع وتجاوز معضلة التنمية  دون إعادة الاعتبار للقطاع الخاص ، فأطلق الحزب الشيوعي في عام 1921 سياسة اقتصادية جديدة عرفت بالنيب ، يتم بموجبها الجمع بين القطاع العام ” قطاع الدولة” وبين القطاع  الخاص أو الملكية الفردية ، واستقدام الشركات الأجنبية للاستثمار في الاتحاد السوفييتي ، وتشجيع المستثمرين من داخل البلد ؛ لكن هذه السياسة الاقتصادية  ما لبثت أن توقفت بل قضي عليها من جانب البيروقراطية الحزبية ، ليعود القطاع العام قطاع الدولة من جديد حاضنة للفساد والفاسدين ..
قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بسنوات قليلة ، خرج لنا اقتصادي كبير ، من خلال ندوة بعنوان “البيروسترويكا عربيا” عقدت في دمشق بما يفيد..

من أن من بين كل ثماني مؤسسات سوفياتية ، ثمة مؤسسة خاسرة ، وأخرى بهامش ربحي ضئيل ، ومن دون أن ينال هذا القطاع وسواه من القطاعات الأخرى ، أي تقييم  صادق وبناء ، تقييم  نقدي واقعي وموضوعي ، يقوم على أسس علمية مدروسة وواضحة ، سوى ما تعودناه من تصفيق حاد ، طالما الإشادة بهذا التدبير الاقتصادي أو ذاك ، أو بإنتاجية هذه المؤسسة أو تلك ، صدرت من جهة مسؤولة ومتنفذة لها القول الفصل ، لهذا كان غورباتشوف يقول : “إننا نكسب من التقييم النقدي الجاد لتحركاتنا ومبادراتنا أكثر مما نكسب من التصفيق الحاد لأي شيء  نقوم  به” وقد سبق للصين أن سعت للاستفادة من الشركات المتعددة الجنسية ، لكنها نشطت بالتوجه إلى هذا المجال أكثر في العقود الأخيرة لاسيما بعد الانهيارات التي عصفت  بالمنظومة الاشتراكية…
إننا حينما نشير إلى مثالب القطاع العام ، قطاع الدولة ، مدركين أن السبب الأول لهكذا تصنيف إنما هو  طبيعة النظام السياسي القائم ، أي النظام الشمولي المحتكر لكل إرادة اجتماعية ، كما أن دعوتنا لإعادة الاعتبار للقطاع الخاص لا يفوتنا القول أن على هذا القطاع أن يعمل في الحقول الإنتاجية ، وأن يكون مراقبا من قبل الدولة من حيث الضريبة التصاعدية طردا مع ما يجنيه الرأسمالي من أرباح  طائلة ، وتراكم رأسمالي كبير ، كما لا بد من مراقبة حقول العمل ، واختيارها وفقا لحاجة  البلاد ومصلحة المواطنين ، فضلا من أن تنشيط هذا القطاع يفضي  بالضرورة إلى امتصاص نسبة من البطالة ، باستثمار الأيدي العاملة في حقول العمل   والتوظيف ، وعلى أن تكون ثمة  ضوابط  تحول دون الاحتكار والاستغلال والتبعية ..
الأمر الغريب الذي  يبعث على التساؤل هو رغم خسارة القطاع العام نرى أعدادا غفيرة  تتمسك بالقطاع العام ، والكلمة التي تعقب ذلك هو الدعوة الخجولة بتحسين القطاع العام  وتطويره ، ناسين أن القطاع  العام لا يمكن إصلاحه أو تحسينه أو تطويره إلا بإصلاح النظام السياسي ، وهناك شرائح بيروقراطية واسعة ،تستفيد من القطاع العام بوضعه القائم .
إن القطاع العام في أي بلد يعطيك صورة نظام ذاك البلد ، وإن فساد القطاع العام ، يعني فيما يعنيه ، هو تآكل النظام ، وتورمه من الفساد ، فكل مدير أو مسؤول تراه ينفرد بالمؤسسة يغتني هو، وربما أعلنت الشركة أو المؤسسة عن إفلاسها ، ففي سوريا اليوم لايمكن للتنمية أن تتم ، ولا يمكن الحد من ظاهرة الفساد المستشرية في كل قصبات الدولة ومنها القطاع العام ، و لا يمكن الحد من البطالة ، الحالة التي تدفع شبابنا إلى هامش الحياة ، وتدفعهم  للانكفاء أو الهجرة ، أوالارتباط الواهي بالوطن ، لا يمكن تدارك كل هذا إلا بمعالجة واعية وجريئة تتناول حزمة من الإجراءات ، تبدأ أساسا من جسم الدولة ، بالإصلاح والديمقراطية كمنظومة من الإجراءات التي لا بد منها، حتى يعود الوطن لأبنائه ، ويعودون هم إلى وطنهم …  
ألا ترى معي أننا  في أية معالجة اقتصادية أو سياسية نندار إلى الديمقراطية لنبحث في طياتها عن الحلول ، أجل … إن الديمقراطية عندما تستتب في أي نظام سوف تحل كثيرا من العقد المستعصية ، نعم إن الديمقراطية هي الإكسير لكل علل السياسة والاقتصاد وآفات النظم…        
Daham46@hotail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…