د. محمود عباس
لا يزال أمام الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترمب شهرين قبل أن يستلم زمام الإمبراطورية الأمريكية، ويتعمق في مستنقع الشرق الأوسط، وحينها لا يستبعد ظهور قرارات قد لا تتوافق وطروحاته المبنية على مقاييس رئيس إمبراطورية إحدى أكبر شركات العقارات في العالم، وتطبيق نهج لا تعكس مصالح العامة، أو الطبقة المستخدمة في شركاته، أو لتصريحاته التي استند عليها في المرحلة الانتخابية، والتي كانت من إحدى أسباب تفوقه.
فهو لا يزال يدرس الاستراتيجية الأمريكية بعمومياتها، وفي بدايات تشكيلة طاقمه التنفيذي، والعالم تتعامل معه على أساسها، وبناءً على دراسات الذين كانوا يحاطون به في داره المرصع بالذهب، أو يسافرون معه في طائرته الخاصة، والتي هي بحجم طائرة الرئيس حتى ولو كانت دونها خواص وجودة وإمكانيات دفاعية عسكرية، أو في الفترات الترفيهية ضمن منتجعه في ولاية فلوريدا المقارن مجازا بمنتجع كامب ديفيد الرئاسي، فإن تحولات بينة ستجرى في استراتيجيته، وفي الاتجاهين المعاكسين، التطرف في جهة مقابل المرونة في الجهة الأخرى، لكن معظم المتتبعين لأسلوب حياته وزوجته السلوفينية، يتوقعون مرور فترة غير قصيرة قبل أن يتعود أو يرضخ لرسميات البيت الأبيض، ويقال أن زوجته ستمكث فترة ما في بيتها في نيويورك قبل الانتقال إلى البيت الأبيض تحت حجة مدرسة أبنها.
الانتقال من إمبراطورية كان يضع فيها شروطه حتى على طاقم حراسته، إلى إمبراطورية كل خطوة محسوبة، وتحت مراقبة دائمة، سترضخه إلى تغيير الكثير من مفاهيمه عن السياسة العالمية، وماذا تعني إمبراطورية الدولة، والتي لا تقارن بإمبراطورية الشركة، لخاصة وأنه لم ينغمس بعد في ثنايا المراكز الاستراتيجية، وتصريحاته الحالية، علماً أنه المراقبين بدأوا يلاحظون أن تصريحاته أقل تطرفاً عن سابقاتها، تحمل مساحات دبلوماسية لرئيس، وتتماشى وبدايات تشكيل السلطة التنفيذية، علماً بأنه ظهرت أسماء معروفة بعنصريتها ضمن طاقمه المتوقع استلام وزارات. ويتوقع أن يتغير أكثر في نهجه مقابل موجة عنصرية تبرز إلى الشارع الأمريكي وتستخدم اسمه، وهي ذاتها التي يتوقع بأن تمثل إدارته نهجه، وهو يمثل سوية رئيس على استراتيجية الحزب الجمهوري. مع ذلك وكما ذكرناها سابقاً، قد يتأثر أكثر، عندما يطلع على أسباب تراجع الهيمنة الأمريكية في الخارج بسبب إدارة أوباما المرنة على مدى السنوات الثمانية الماضية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وخلفيات تصاعد الهيمنة الروسية، والتوسع الإيراني؛ والمنظمات الإسلامية التكفيرية الإرهابية، ولماذا عالجت إدارة الديمقراطيين هذه القضايا بمرونة أكثر من اللازم، ولم يستخدم براك أوباما الاستراتيجية الأمريكية، من حيزها كإمبراطورية، ولم يبالي بما سيخسره من هيبة ومعها جغرافيات اقتصادية؟
مع ذلك، من المبكر الحكم على ما سيحدث في الشرق الأوسط في الشهور القادمة، وفي سوريا بشكل خاص، لكن المؤشرات تبين أن المصالح الأمريكية العسكرية والاقتصادية معرضة إلى خطر نفس التراجع السابق، ويتوقع العديد من المحللين الاقتصاديين، ألا يثبت دونالد ترمب، خلال السنوات القادمة، في انحرافه إلى أقصى اليمين، كطريقة لتغيير الاستراتيجية الأمريكية المرنة، أو استخدام استراتيجية التعامل مع روسيا في خططها ضمن الشرق الأوسط، والتي قد تؤدي إلى استمرارية خسائر الإمبراطورية الأمريكية لمزاياها بطريقة أخرى، أمام الطموح الروسي، أي أن النتيجة ستكون هي ذاتها، إذا ظل ترمب موافقا على السياسة الروسية، خاصة في سوريا بالحفاظ على سلطة بشار الأسد، والتغاضي عن التوسع التركي، وترك التدخلات الإيرانية بدون حسيب، وإذا لم يتم الانتقال من تصعيد الدعم العسكري للكرد إلى الاعتراف السياسي ضمن سوريا فيدرالية، وخلق كيان اصدق، من سلطة بشار الأسد في سوريا، لمصالح أمريكا، وهذه الاستراتيجية بحد ذاتها محل شكوك فيما إذا ظهرت أسماء الجنرالات المعروفة بتطرفها، والتي قد تؤدي إلى بروز صراع مشابه للحرب الباردة وبإشكاليات أخرى.
ويتسابق البعض من المراقبين الاقتصاديين، الربط بين الداخل الأمريكي واستراتيجيتها في الخارج، ومنها القضايا المتداخلة في الشرق الأوسط، ويتوقعون أن تؤثر على اقتصادها وتتفاقم ديونها، وقد تبلغ عدة تريليونات من الدولارات، خاصة إذا بقي على قراره بتخفيض نسبة الضرائب، وزيادة مصاريف الدولة، والتي ستكون لها إيجابياتها في الداخل الأمريكي لمرحلة معينة، مقابل سلبيات في الخارج، وفي هذه الحالة على الأغلب سيحاول التعويض عن بعض هذه المصاريف الخارجية بالضغط على حلفائها الأغنياء كاليابان وكوريا الجنوبية والسعودية وبعض الدول الأوربية لحمل عبئ تكاليف الناتو، وحروبها، وهي النقطة التي سيقف عليها استراتيجييه مطولا عند التركيز في تعزيز القوة العسكرية الأمريكية، وإعادة ترتيب الناتو.
وهذه بشكل ما ستؤثر في علاقات أمريكا الاقتصادية والسياسية مع دول الشرق الأوسط، وقد فعلها كل من رونالد ريغن، وجورج بوش، فعندما انتهت مدتهم الرئاسية، كانت أمريكا غارقة في الديون، تسلمها الديمقراطيين والعجز في الميزانية كانت تقترب من سوية الدخل القومي العام، وهي ذاتها التي استلمها أوباما واحتاج إلى ثمانية سنوات لينقص من ثلث ديون أمريكا، والبالغة في فترته الأولى حدود 20 تريليون دولار، أي بمقدار ميزانية أمريكا، وحينها ولأول مرة في تاريخها اعتبرت أمريكا دولة غير رصينة بمدفوعاتها، والتي عادة تقدر بخمس نقاط، وخسرت نقطة، واستمرت في تلك الحالة لمدة سنة كاملة، وعليه تم توقيف العديد من مؤسسات الدولة لفترة أسبوعين تقريبا، وكانت شبه صراع بين الحزبين، حول كيفية حل قضية دفع الديون المستحقة، ولا شك حدثت مثلها سابقاً عدة مرات، لكن كان الصراع سياسيا وفي هذه المرة سبقتها قضية الديون، وهي الأن مديونة بمقدار يتجاوز النصف من الدخل القومي العام، ويتوقع المراقبون أن تزيد استراتيجية ترمب الاقتصادية من عجزها بمقدار 30% في السنوات الأربع القادمة، والبعض يقلص الفترة الزمنية.
لكن بالمقابل، يؤكد استراتيجيي الحزب الجمهوري، والمؤيدين له، بأن المشهد سيكون أكثر تفتحا على الشعب الأمريكي وانتعاشا للاقتصاد، وستتراجع نسبة البطالة، وتتزايد جودة البنية التحتية، وستتحسن الخدمات، والبنية التحتية، لكنهم يؤكدون بأنه على إدارة دونالد ترمب، اتباع استراتيجية حزبه الجمهوري، لمعالجة تزايد الديون، برفع نسبة الضرائب على الطبقة الفقيرة والمتوسطة، ودعم الشركات الكبرى لتحفيز الاقتصاد، وبالتالي تطبيق استراتيجية ترمب في فرض مدفوعات على البعض من حلفائها. وهي سياسة لا تقل فشلا بالنسبة لأمريكا كإمبراطورية تحكم العالم عن المستخدمة سابقاً، وخاصة في الخطوة الأخيرة، فهو على الأغلب لا يزال يتعامل مع العالم الخارجي على منطق علاقات الشركات الرأسمالية الخاصة، حيث الربح والخسارة بتراكم الرأسمال في البنوك أو تزايد الأسهم والعقارات، وليس من منطق الإمبراطورية السياسية العسكرية والاقتصادية، حيث الربح والخسارة المستندة على الهيمنة والمواقف الحاسمة في المناطق الساخنة.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
19/11/2016م