حاوره ماجد ع محمد
لا شك بأن الدمار في سوريا لم يطل الأطفال والرجال والنساء والبنية التحتية فقط، إنما طال معه البُنى الثقافية والفكرية للمجتمع السوري برمته، إلّا أن الخراب المتعلق بالمثقفين حسب قُراء الواقع السوري لم يبدأ منذ انطلاق الثورة، إنما بدأ به البعث منذ استلامه مقاليد الحكم في سوريا، لذلك سيكون لقاؤنا التالي مع الشاعر والكاتب والصحفي إبراهيم اليوسف، ثقافياً أكثر ما هو سياسي:
ـ بداية الثورة كانت قامشلو وبيتك تحديداً أشبه بخلية نحل، فلماذا إذن أصاب الجيل الشاب الفتور وفقد طاقته ودوره؟ وماهي الأسباب الجوهرية لغياب حراكهم؟.
أشكرك، على التوصيف، لكن، للأسف، لم يبق شيء على ماهو: الحراك الشبابي تعرض لحصار رباعي: أحد أشكاله ناعم و تم من قبل الحزب الكردي التقليدي، وآخر عنيف من قبل ب ي د، بالإضافة إلى حصاري: النظام وواجهة المعارضة الأولى: المجلس الوطني السوري.
أما الشكل الناعم من الحصار فقد تم لسببين أحدهما بداعي ابتلاع هذا الحراك، والهيمنة عليه، أو تحسباً من النظام، أما ب ي د فقد مارس كل أشكال العنف المعنوي والواقعي ضد الحراك، وذلك عبر الضغط، والملاحقة، والاتهامات، والاختطاف، والسجن، وهناك من تمت تصفيته من قبل هذا التنظيم، كما أكدت أسرته، ناهيك عن قيامه باختراق التظاهرات ومحاولة منعها.
أما النظام فقد بدأ بتهديد الشباب وملاحقتهم، واعتقال بعضهم، وإصدار قوائم بأسماء المطلوبين منهم، ووجدنا في الجهة المقابلة أن المجلس الوطني السوري الذي بين انفتاحه على الحراك الشبابي، قد تخلى عنه، من خلال استثنائه من الدعم، أتذكر أن ممثل اتحاد تنسيقيات الكرد لم يستلم أكثرمن30 ألف يورو، منذ بداية تأسيسه وإلى لحظة تركي للمجلس في مثل هذه الأيام من عام2012، منحت له على دفعتين”باستلام ممثله” وهو مالم يكن يكفي مصاريف شقة استأجرها ناشطوه الذين تعرضوا للعوز، والتجويع في تركيا، بعد أن تم تهجيرهم، بالإضافة إلى المتطلبات اليومية لناشطي الداخل، وأسر المعتقلين، بينما كانت ملايين الدولارات تضخ على هذه الواجهة للثورة السورية.
وقد تم اختراق منظم للحراك الشبابي من قبل بعض الشخصيات، ما جعلها تفتته، بما أفاد آلة النظام” هناك من دفع لبعض الناشطين كما علمت لاحقاً”، كما أن هناك من دفع من المال لسرقة بعض الشباب، كل هذا دعا إلى فساد بعضهم، في المقابل نجد أن المخلصين من شباب الحراك، وهم الأكثرية، وجدوا أنفسهم معزولين، على حين غرة، ما اضطرهم إلى تجميد نشاطهم، مكرهين، وسفر نسبة عالية من بينهم إلى خارج البلاد، أو البقاء فيها، ليكونوا وقوداً للحرب المعد لها جيداً، وفق تواطؤ عام: إقليمي- إسلامي-خليجي- عربي- دولي…!.
أجزم، أنه من الضروري كتابة تاريخ حراك هذا الشباب، وتبيان أسباب نكوصه، وتشتته، لاسيما بعد أن بات هناك من يقدم نفسه بأنه كان قد صنع هذه الثورة، ويسطو على جهود سواه، هذا الأمر يتطلب تضافر جهود ورش متكاملة، من المنصفين، من غير المشكوك بمصداقياتهم الشخصية.
ـ ما سبب الهوة بين المعارضة السورية والمثقفين الكرد؟.
في بداية الثورة كان الإحجام عن الانخراط في نصرة المعارضة بداعي الجبن، في ما بعد فإن تزمت مواقف بعض ممثلي واجهات الثورة من الانتلجنسيا الثقافية والنخب السياسية كرس ردود الفعل، لاسيما إنه كان هناك تشجيعاً من قبل أدوات النظام للتركيز على الفصل مابين شارع الثورة والكرد، تحت يافطات كثيرة، وقد تعزز ذلك بعد تمكن بعض الشوفينيين الذين لا يختلفون عن النظام إلا في التواجد عبر مبدأ المصادفة في مركبة الثورة من تسيد بعض مواقع واجهات الثورة ما شكل نفوراً لدى المثقف الكردي، أضف إلى ذلك أن أي مثقف مبدئي لم يكن له المكان في هذه الواجهات ما دام أنه يمارس دوره النقدي حتى في مواجهة أمثال هؤلاء الثورجيين القومجيين أو المتأسلمين الجدد، من دون أن ننسى حجم ضخ الدعاية المضادة للثورة واتهام المنتمين إليها بشتى نعوت اللاوطنية والفساد، هذا بالضبط كان مناخاً ملائماً لبعضهم كي يمارسوا جبنهم وسط خلل المعادلات المهيمنة ..!.
ـ في حوارٍ مع مجلة السلام السويدية دعوتَ إلى تحويل مناسبة توزيع نوبل، إلى كرنفال في وجه مصانع الأسلحة، ولكن بعد فوز دونالد ترامب في سباق الرئاسة بأمريكا فهل ترى بأن الدعوة التي أطلقتها ستتحقق أم ستتجه نحو الأفول؟ .
وصول دونالد ترامب إلى سدة رئاسة أمريكا جاء كنتيجة طبيعية لحالة الأزمة الأخلاقية السياسية، على المستوى العالمي، وإلا لما كانت آلة الدمار والحرب قد تركت وراءها كل هذه الويلات، لاسيما في بلادنا، ووطننا، بما يشكل نواة فتيلة لحرب عالمية كبرى بدأت عملياً، وما تسليم مفاتيح شفرة غرفة أسلحة التدميرالكونية لشخص مشكوك باتزانه العقلي، إلا عبارة عن إيذان ببدء المصير الكارثي الذي لا منجى فيه لأحد..!.
ـ هل ترى بأن الربيع العربي كان محكاً بالنسبة للأحزاب اليسارية في دول المنطقة، فأظهر عدم إيمانها بحقوق الإنسان بدءاً من اليسار العراقي إلى الشيوعي السوري ومواقفه السلبية من الثورة ودعمه للنظام؟
عند التحدث عن الشيوعيين، فإنني أفصل بين مبادئ هذا الفكر وبين الممارسة، لأن الشيوعية ـ كما أرى ـ هي بذرة الخير البشري الكوني، في جوهرها. وعندما انتسبت للحزب الشيوعي السوري فإنني كنت أرى فيه: مهاد الروح الثورية، وموطن إحقاق أهداف المظلومين، ومن بينهم أبناء شعبي. ولكن تدريجياً وبسبب الهوة بين النظرية والتطبيق. ابتعدت عن التنظيم الحزبي لتبقى رؤاي في العدالة الإنسانية كضرورة تاريخية كما هي. بعيداً عن تفاصيل بعض ما أثبت لا جدواه في النظرية ذاتها. وعندما بدأت الثورة السورية، فإنني كنت أتوهم أن الفرصة التاريخية لهذه المدرسة العريقة قد حانت. لاسيما بعد انخراط تنظيم قاسيون في التظاهرات، وتقديمه عدداً من الشهداء في بداية الثورة. غير أن عدم قراءة الشيوعيين- واليسار كاملاً- للوحة السورية، بشكل صحيح، نتيجة تشويش النظام على الثورة، ودخول القوى الأصولية – على الخط- من دون أن نعلم. بل ونتيجة تمسك بعض المستفيدين في قيادة الجبهة الوطنية بمكاسبهم، أدى بهم إلى الانحياز إلى مصلحة النظام، في مواجهة مصالح الشعب السوري، بدعوى الحرص الوطني.
إن ابتعاد الشيوعيين عن الانخراط في الثورة أدى إلى تضاعف فرص اختراقها من قبل القوى الرجعية، والمتأسلمة، وهذا مايرتب على هؤلاء مسؤولية عظمى لاتغتفر. أما في مايتعلق ب”تيارقاسيون” الذي عملت فيه، حوالي ثلاث سنوات. قبل أن أتركه وأعمل في” اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين. وكانت هذه الأخيرة أشبه بتجمع وطني مفتوح: للشيوعيين والإسلاميين والقوميين إلخ فإنها أبدت مواقف إيجابية في مواجهة النظام. أضف إلى أنها كانت خارج ماتسمى ب” الجبهة الوطنية التقدمية” شأن “تيارقاسيون” وذلك من خلال نقد سياساته، بل إنها وتيارقاسيون شاركا، وشجعا أول التظاهرات التي تمت في دمشق. بل إن تيار قاسيون كان شريكاً رمزياً مع تظاهرة “يكيتي” أمام البرلمان من خلال بعض مندوبيه: أحدهم كان صالح نمر. وتم ذلك من خلال العلاقة بيني وعبدالباقي يوسف آنذاك وكان الدافع وراء قيادة تلك التظاهرات تدريب الشارع في وقت مبكر للتعبير عن ذاته – وهي نقطة يجب ألا ننساها عند نقد هذه الجهة، ولقد كان خطا فادحاً من قبل الشيوعيين مشاركة النظام في الحكومة – وزارات وبرلمانات – بعد كل هذا الدم الذي كان لايزال يسيل- حتى وإن كان هناك ضوء أخضر روسياً أو غيره بدعوى الاستلام التدريجي في مجال” تحول السلطات”..! ومن جهتي فلقد مارست نقد الشيوعيين، منذ بداية الثورة، أكثرمن مرة، في مواجهة الشيوعيين السوريين، من خلال أول محاولة من قبل طرف حزبي للتشويش على الحراك، أوالمشاركة في حكومات النظام، المتشكلة، بما ينم عن مسؤولية -قيادات- الحزب الشيوعي التاريخية أمام دماء السوريين، أياً كان المسوغ التكتيكي المزعوم من وراء ذلك، أما ما يتعلق بالأحزاب اليسارية العربية، والدولية، التي وقفت مع النظام، أو حتى تلك التي تغض النظر عما يتم، فهي جميعها مدانة، بل شريكة في الجريمة، بسبب عدم انفتاحها على الثورة السورية، ونصرتها للنظام الدموي القاتل: سكوتاً أو تواطؤاً أو تخندقاً..!؟.
ـ باعتبارك رئيس مجلس الإدارة في منظمة (ماف) المعنية بحقوق الإنسان، فهل حاولتم أو استطعتم ضمن الإمكان غرس ثقافة حقوق الآخر في تربة العاملين في حقول الثقافة والإبداع ليتخذ منحىً سلوكياً لديهم؟.
إمكاناتنا لاتزال بسيطة، بالرغم من أن عمر المنظمة قد تجاوز اثني عشر عاماً، لقد ركزنا منذ تأسيسنا على جوانب محددة منها: نشر ثقافة حقوق الإنسان- رصد الانتهاكات، وها نحن منذ تأسيسنا لا نتخلى عن الأهداف والبرامج التي وضعناها، لكن، ماذا بوسع منظمة حقوقية أن تفعله أمام هذا الدمار الروحي والنفسي المنظم.؟ لسنا يائسين، ولذلك، فإننا نواصل مهماتنا، بأعلى ما لدينا من وتائر.
ـ لكل تنظيم سياسي ناجح حامل أو سند فكري ثقافي يدافع عن نهجه وعند الضرورة ينتقد ممارساته وتقويم الاعوجاج فيه، فهل برأيك قدر الاتحاد الديمقراطي على أن يستقطب خلية حقيقية من المثقفين بعيداً عن العقائدية وهاجس الارتزاق؟.
إذا كان الناشط البسيط ممكن الاصطياد من قبل أية مؤسسة، انطلاقاً من الشعارات البراقة التي تطرحها، فإن المثقف عليه ألا يسقط في هذا الشراك. لاسيما بعد أن يرى أن هذه المؤسسة بعيدة عما يعول عليها، وأنموذج المثقفين المتهافتين على المكاسب باتت دائرتهم تتوسع، منذ بداية الثورة السورية وحتى الآن، وبات المثقف هو الأقل جدوى في اللوحة، بعد أن تنازل كثيرون عن الدور المطلوب منهم، لقاء مكاسب افتراضية، أو واقعية.
ـ يا ترى هل الانشقاقات المرضية للأحزاب الكردية كانت سبباً رئيسياً لوجود أكثر من اتحاد للكتاب والصحفيين الكرد وعدم قدرتهم على تشكيل إطار واحد لهم؟.
هنا، وللحقيقة، فإننا لا نستثني أي طرف من التدخل في شؤون المثقفين، نتيجة تهافت بعض أدعياء الثقافة، بعيد انطلاقة الثورة، على أمل إحراز منافع ما، الآن، بات واضحاً لجميعهم أن من قبل بوصاية الحزبي، وخضع لسطوته، لا يستطيع إفادة شعبه، إلا من خلال رضوخه، وخنوعه، وقبوله بدوره كمجرد مكتب ثقافي أو إعلامي لهذا التنظيم أو ذاك.
ـ أعيد بطريقة أخرى طرح سؤالٍ طَرحتَه في مقالٍ لكَ ألا وهو هل ترى بأننا قد نلمس مع الأيامِ قراراً ثقافياً كردياً، حراً له فعلاً دوره، حضوره وتأثيره؟.
بالرغم من اغتراب نسبة كبيرة من مثقفينا عن الانخراط في الدفاع عن مصير ذويهم، إلا أن ذلك الأنموذج الذي تحدثت عنه، الأنموذج الذي لم يسلم قراره للمغامر السياسي موجوداً، وهو يلعب دوره الذي يرعب من هم وراء شل دور المثقفين، وإرضاخهم. ومن هنا، فإننا نجد التفافاً صميمياً من قبل أهلنا تجاه هذا الأنموذج. بالرغم من محاولات بعض القوى السياسية المغتربة عن مصلحة أهلها، أو المناوئة لها، أو الخانعة، على حد سواء، بالرغم من محاولاتها إظهار بيدقها الثقافي- وهو في الغالب مثقف الدوكمة الشعاراتي- في مظهر الجماهيري، لاسيما بعد انتشار وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي التي توجه -كردياً- من لدن بعضهم حزبوياً. وقد نجح هؤلاء كثيراً في مهمة الفتك بالجسد الكردي والكردستاني.
ـ أما زلتَ متفائلاً بأنه لايزال هناك من يمسك بجمر الثقافة، ولا يتنازل عن دوره، لأية جهة متنفذة، مهما كان توصيفها الوطني أو الأيديولوجي؟.
أجل. ثمة من لا يساوم على دوره. ثمة من وقف مع الثورة السورية، ولايزال يقف مع أهدافها الأولى قبل أن تنحرف، وقد تعرض لمواجهات حملات بعض أغبياء الحزب الكردي التقليدي- وأقول: البعض منهم في بدايات الثورة عندما كان هؤلاء يعملون على جبهتين: مناوأة واجهات الثورة على أنها”أردوغانية” من جهة، والتفكير بكرسي أمينهم العام أو سكرتيرهم، في انتظار رفع آلة الخوف، بعد أن وجدوا في الأنموذج الذي وقف مع الثورة خطراً على مؤسساتهم، كما أنهم تعرضوا ولايزالون يتعرضون لحملات بيادق ب ي د، ناهيك عن حملات بعض الذين استفاقوا مع الثورة، ووجدوا أنفسهم عراة، من ورقة التوت أمام من سبقهم إلى اتخاذ الموقف. أحد هؤلاء- وهو زميل لنا في إدارة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين- عرضت عليه، وبإلحاح، مهمة أن يكون سفيراً- للثورة السورية- في هذا البلد الأوربي أو ذاك وبراتب مغر، غير أنه رفض، مكتفياً بكتابة”بوسته” الأكثر تأثيراً في شارعنا الكردي” أليس هذا مواصلة لمهمة القبض على الجمر؟ ” تم تهديد العديدين من زملائنا بالتصفية في الداخل ولا يزالون يعملون أليس في هذا مواصلة للقبض على الجمر؟.
ـ هل ترى بأن السياسي لا يزال يستثمر المثقف كواجهة تُجمِّل بعض مقابحه، أم الآخر هو الذي تنازل عن مشروعة التنويري ويتقرب من السياسي مقابل بعض الأعطيات؟.
لا يمكن للسياسي أن يستغل ذلك المثقف المبدئي. إن التواطؤ لا يتم إلا من قبل هذا الأخير. وإن كنت لا أعفو السياسي من كل ما مارسه لتفكيك جبهة المثقفين منذ بداية الثورة لئلا تكون لهم كلمة. ولأكن صريحاً، هناك، أكثر من قيادي في الخط الحزبي الأول هددني بشكل شخصي تارة لأن بيتي منطلق لأحد بواكير الحراك “إلى جانب بيوت قليلة مشابهة يسجل لها” وتارة لأننا نمارس عملنا النقدي. نتيجة استقلاليتنا إلخ..
ـ أشرت في نص لك (لا تزال الأمهات تنجبن الشعراء) إلى التضخم الذي أصاب البعضَ لأنه رأى منبرأ يطل من خلاله: فهل تتصور بأن وسائل التواصل رغم فوائدها قد تكون مدمرة للثقافة الجادة والمُنتج الأصيل؟.
قبل كل شيء. إن وسائل التواصل الاجتماعي كرست مشاعية المعلومة وعملت على إسقاط سلطة النشر. بل وإسقاط أي جدار للخوف. هذا على صعيد الإعلام. إلا أن ما يحدث هو أن كثيرين باتوا يستسهلون النشر والكتابة. من خلال محاكاة نماذج إبداعية معينة. صحيح أن التراكم الكمي قد يؤدي إلى التراكم النوعي. إلا أننا وبعد كل هذه السنوات من انتشار وسائل التواصل لم نجد انعكاس ذلك، إبداعياً، على شكل لافت. كما أنه في الجانب الآخر، نجد أن استكثار الكتابات الهابطة، المبتذلة، إلى حد الإغراق، في المفهوم الإلكتروني. أفقد ثقة المتلقي بالإبداع الحقيقي، وجعل فرصة قراءة الإبداع الحقيقي قليلة. أمام إقبال أوساط واسعة على ما هو رخيص ومبتذل. ما شكل فجوة بين المبدع الحقيقي وقارئه..!. أجل. رغم مثل هذه الإشارة، إلا أن الشعر لما يزل يكتب. والقصة لما تزل تكتب. والرواية لما تزل تكتب والمقال الأدبي لمايزل يكتب؟.
ـ ينسب إليك أنك كتبت في العام 2003 مامعناه :إننا نعيش زمن المقال؟ ماذا كنت تريد أن تقول؟
آنذاك. لم تكن وسائل التواصل منتشرة. لا أتصور أن أحداً ما قال من قبل: إننا نعيش زمن المقال. وحقاً، ها نحن نجد الإقبال على قراءة المقال جد منتشر، على حساب الأشكال الإبداعية كلها..!.
ـ في احتفالية الشعر الكردي في إيسن لوحظ بأن معظم المشاركين كانوا من المقيمين بألمانيا، بينما دور النشر الكردية تقول بأن أكثر النتاجات الكردية هي في السويد أما ألمانيا بالرغم من العدد الكبير للكرد فيها فهي فقيرة جداً بالإنتاج الكردي فما تعليقك على ذلك؟.
أتصور، أن مرد ذلك يعود إلى أن مملكة السويد تعنى بالأدباء والكتاب، بعكس جمهورية ألمانيا، إذ أن من يبدع -في ألمانيا- إنما يقوم بذلك على حساب وقته، وجهده، بعيداً عن أي تفرغ، أو تشجيع. حالياً، أعداد الكتاب والمبدعين، من اللاجئين الكرد، ازدادت في ألمانيا. أتمنى أن ينعكس ذلك، كي تتشكل ظاهرة جديدة في هذا العنوان من درب اللجوء في زمن الحرب المدمرة.
لا أخفي عنك، أننا تفاجأنا في الاتحاد بطلبات انتساب كثيرة، من كتاب وإعلاميين كرد جدد، في ألمانيا، و أوربا، ومن داخل الوطن. ولعل ذلك تم، بعد أن تأكد لجميعهم بأننا أصحاب مشروع ثقافي كردي أصيل. وقد كانت ولادة هذا المشروع في زمن التحدي والخوف. كأداة لمواجهة الدكتاتورية ومحو الهوية، وليس كطفرة، أو ورقة يانصيب من أجل المكاسب. ولدنا كي نضحي، لا لكي نعتاش، ونتكسب. تلك علامتنا الفارقة.
ـ منح الاتحاد العام للكتاب والصحفيين جائزة الفنان عمر حمدي هذا العام للفنانين الكرديين بهرم حاجو و خليل عبدالقادر، وكذلك نال الشاعر دلداري ميدي جائزة جكرخوين الشعرية، السؤال: هل تتوقع بأن الإنتاج الإبداعي سيُضاعف في الأعوام القادمة أم أن الاندماج في المجتمعات الغربية سيكون سبباً مباشراً لتقهقر الفن والأدب فيما بعد؟.
لا أرى في أي مستقبل لإبداعنا، إلا ضمن فضائه المكاني. إن من يكتب الآن، ويواصل نشاطه الثقافي، يفعل ذلك، تحت وطأة حماس وغيرة، يستمدهما، من أرومة علاقته بترابه. أجل. قد يبدع أمثالنا- الآن- كثيراً، بعد أن تم استقرارهم، والتخلص، من بعض المتاعب، إلا أن ذلك، لا يمكن أن يكون مقياساً لنتاجات أبنائنا، وأحفادنا. إننا الآن، في أول طريق التيه، والضياع، وفق ما تم التخطيط له. الإبداع الأصيل والعظيم هو الذي ينتمي إلى فضائه الزمكاني..!.
إن جكرخوين كتب قصائده الإبداعية، وربما ازداد إشراق بعضها، بتحس ظروفه، في مهجره الاسكندنافي، واشتعال أتون نوستالجياه، وشوقه لأطلال ذكرياته، غير أن أدوات إبداعه كانت من صناعة مكانه الأول. ربما تقدم الأجيال المقبلة إبداعات إنسانية، في أمكنة لجوئنا، إلا أنها ستحسب في رصيد المكان الجديد، كلما تقادم زمن نأي هؤلاء عن المهاد الأول…!
«بغض النظر عن أي نقد يوجه لآليات عمل الجوائز، فإن لها قيمة كبرى، ودوراً كبيراً، في مجال الدفاع عن ثقافتنا، ولفت الانتباه لمبدعينا، أصحاب الجوائز»
بالنسبة للجوائز. أحاول أن أبوح هنا بسر، وهو أنني منذ تأسيسي لمجلة -مواسم- تحت إشراف اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي في الجزيرة. وضعت أمام عيني مشروعاً ثقافياً مهماً، وفق رؤيتي، وثقافتي الإنسانية، ومن ضمن سلم أولوياتها همي وألمي أن يتم نشر ثقافة كل من بذل جهداً من أجل سواه. ومن هنا، فإن مجلة مواسم أجرت حوارات واسعة مع الشيوعيين القدامى، وتقصينا سيرة جكرخوين من خلال من عاشروه: عثمان إبراهيم- رمو شيخو الفرحة – أحمدي حج عباس – ملا سليمان نسي- وآخرين. كما تناولنا سيرعدد من المناضلين، ونشرنا بعضها، قبل أن نصطدم بأحد المثبطات الطارئة. وقمنا بتكريم بعض أوائل الشيوعيين، ما جعل غيرنا من الأحزاب في ذلك المكان يلجأ لتعزيز تلك الثقافة، كما أثر ذلك في اللجوء لعلنية إصدار بعض المجلات الكردية ك: الحوار- أجراس إلخ، وبعيداً عن الاستطراد، فقد وافق تيار قاسيون الذي نشطت فيه حتى العام2003، وتركته عشية سقوط بغداد، وافق على مشروع جائزة جكرخوين، منذ بدايات انطلاقته، وأعلنت عن ذلك في مجلة مواسم، وجريدة الزمان اللندنية في العام2001. هذه الثقافة. ثقافة التكريم والجوائز كان لي دوري في إطلاقها. ولا أخفي تذمر بعض زملائي في رابطة الكتاب والصحفيين”و الاتحاد العام للكتاب والصحفيين، الآن” من ذلك، غير أنني مصر عليها، لما لها من أهمية كبرى. أعترف أن الجوائز تمنح -أحياناً- بشكل ارتجالي. وأن دراسة آثار من تمنح لهم قد لا تتم بالشكل المطلوب، وأن هناك من قد يستحقها أكثر. بل قد نستعجل في منح بعضهم هذه الجائزة أو تلك، نتيجة ترجيح القرار لصالحهم، إلا أنه ينبغي علينا إدراك جوانب مهمة وهي أن هذه الجوائز-كردياً- بدأت تحرك الركود الثقافي، و تستذكر مبدعين كرداً كباراً طالما تم تجاهلهم من قبل من كانوا مقربين منهم، في ظل الوضع السياسي، حيث لا دولة لنا، ولا مؤسسات رسمية. ومن هنا، فإن هذه الجوائز، وبغض النظر عن أي نقد يوجه لآليات عملها، فإن لها قيمة كبرى، ودوراً كبيراً، في مجال الدفاع عن ثقافتنا، ولفت الانتباه لمبدعينا، أصحاب الجوائز، ومن منحت إليهم، في ظل تجاهلهم، وتناسيهم. وبُعيد كل إعلان عن جائزة ما، أعلم، أن هناك من ينطلق من يتصرف تحت وطأة ردة الفعل. إما تحت حمى الحرص على الثقافة، أو بداعي الوصائية، والأبوة، أو الإمامة، أو ردة الفعل تجاه تجاهله، عن شن هجوم ما على أسرة الجوائز، بدلاً من دراستها، بإنصاف، والتحدث عما لها، وعما عليها، في آن واحد، وقد حدثت مواقف كاريكاتيرية، خلال السنوات الماضية، مع بعض هؤلاء، لا أريد الإشارة إليها هنا.
بالنسبة للجوائز هي على نوعين: بعضها اقترحتها أنا، ووافقت عليها رابطة الكتاب والصحفيين، وبعضها سلمنا إياها ذوو من سميت الجوائز بأسمائهم نتيجة ثقتهم بنا. لذلك، فإنني وأمام مسؤولية هذا العبء الكبير طرحت في المؤتمر العام للكتاب والصحفيين الذي أقيم في ربيع 2016 في إيسن باقتراح ضبط الجوائز، وتشكيل لجنة إشراف عليا، تنبثق عنها لجان فرعية محكمة، واتفقنا بأن تبدأ عملها مع بداية العام 2017 وكلف بالمهمة لتسيير أمورها- إدارياً- خلال عامين عدد من الزملاء بإشراف الصديق الكاتب فواز عبدي، ومن بين التوصيات التي أقدمها بشكل شخصي للجان المقبلة: إشراك المبدعات الكرديات في فضاء الجوائز: تحكيماً، وتكريماً. ترشيح أكبر عدد من كتابنا ومبدعينا في كل من: عفرين و كوباني. منح بعض الجوائز كل سنتين نظراً لأهميتها. الدراسة المتأنية الشاملة لمن تمنح لهم الجوائز. تناول إبداع صاحب الجائزة ومن تمنح له في دراسات وملفات أدبية تنشر في منابر الاتحاد وغيرها، على أن تطبع، أنى توافرت الظروف.
لن أتحدث أكثر-هنا- عن الجوائز، بل سأشير بأننا نرغب بأن تصبح للاتحاد العام، مستقبلاً، مؤسسة خاصة، رسمية، تشرف على هذه الجوائز، بعد أن تنتهي هذه الحرب اللعينة، كي نتمكن من إجراء حفل تكريم كبير لكل من تكريمه في الوطن المحرر.
ـ في قصيدة (إنها الحرب يا أبي) إلى (طقوس كثيرة لامرأة واحدة) لا يزال لديك نَفس ملحمي في الكتابة، والسؤال فهذا الاختزال الذي فرضته التقنية الحديثة ألم يؤثر على انسياب الكتابة لديك؟ .
الدعوة لكتابة النص الوامض، البريفيري، الفلاشوي، المشهدوي، السوناتوي، الهايكوي، قديمة، وكنا نتحدث، في الثمانينات، بل منذ أواخر السبعينيات عن ضرورة تقديم ما هو سريع للمتلقي، استجابة لتحولات العصر، وها قد بات كثيرون يرددون ما كنا نقوله، آنذاك، انطلاقاً من واقع طبيعة العلاقة الطارئة بين المتلقي الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك دقيق، ولكن، لابد لنا من معرفة أن النص الإبداعي-لاسيما الشعري منه- هومن يفرض شكله الفني. ومن هنا، فإن النص الشعري ذا النفس الملحمي لا يولد بقرار من الشاعر، لأن الشاعر الحقيقي، هومن لا يتجاوز دوره في خلق النص، باتجاه ما يقسر ولادته، ويشوهها..!.
-ـ سؤال شخصي أخير فوفقاً لوكالة أنباء الشعر صدر لك ثلاث مجموعات شعرية هذا العام وهي: مدائح البياض، وساعة دمشق وأستعيد أبي”ديوان إيسن”، كما صدر لك خلال السنة عشرة كتب أخرى ، فهلا أخبرت القراء عن سر هذه الغزارة الكتابية لديك؟.
ثمة كتب أنجزتها خلال العام 2016 ومنها كتابي السيروي-ممحاة المسافة- و خارج اللوحة- إلخ أما أكثرية كتبي، التي صدرت خلال العام2016 فقد كانت إرشيفية. كل مافعلته أنني وجدت الحماس والوقت لأعود إلى إرشيفي بعد أن ضاع مايقارب سبعين بالمئة منه، نتيجة ظروف قاهرة: إلكترونية، أو إهمال من لدن من أؤتمنوا عليه -للأسف – وعلى سبيل المثال: ماكتبته في انتفاضة 12 آذار- وبشكل يومي- افتقدت أكثره، لأن المواقع الإلكترونية التي نشرته توقفت. وكنت أظن في صديقي -غوغل- مؤتمناً على كل ما أودعه لدنه من أمانات، فقد خذلني هو الآخر. وهنا فإنني أناشد هؤلاء الذين جمعوا إرشيف الانتفاضة، وماكتبته بشكل شخصي، أن يوافوني به..!.