كفاح محمود كريم
ذات يوم من تلك الأيام الغابرة في وقعها وأحداثها، من أيام أواخر ثمانينات القرن الماضي، وبينما كان المئات وربما الآلاف يقترفون جرائم الابادة ضد الكورد في أبشع حرب عرفتها البشرية بعد فاجعة هيروشيما وناكازاكي، كان احدهم يتمتع بأجازته الدورية، وهو جندي احتياط قدم توا من ارض العمليات في منطقة حلبجة وشقيقاتها من مدن الشمس في كوردستان.
سألته عما يجري هناك، فقال ضاحكا منتشيا: ( لقد حولناكم إلى كباب، وأرسلناكم أفواجا إلى الجحيم، لن تقوم لكم قائمة بأذن الله الى يوم القيامة )!؟
لم يكن هذا الرجل قائدا في الجيش أو عضوا قياديا في حزب البعث الحاكم آنذاك، اللهم إلا انه كان عضوا عاديا في صفوف البعثيين ومديرا لأحدى المدارس الابتدائية، كما لم يكن أيضا ممن نفذوا الضربات الكيماوية فقد كان جنديا احتياطا، يعمل في احد الأقسام الإدارية لوحدة من وحدات العتاد الخاص ( الكيماوي ).
إلا أن نبرات حديثه وأسلوب رده يُظهر بجلاء لا غبار عليه تلك المنظومة الفكرية الغارقة بالشوفينية والحقد الأسود تجاه الكورد وكوردستان، وهو لم يفعل بيده شيئا في تلك العمليات القذرة بل مر بها وشهد فصولها وأفصح عن إيمانه وقناعته ورضائه عنها بتصريحه حينما سألته عن الأوضاع في قاطعه الذي يخدم فيه عسكريته الاحتياط.
وذكرني موقفه هذا بموقف رجل آخر تصرف بمثل حماقة وتفاهة هذا الشخص حينما ركل جثمان احد ضباط حركة عبد الوهاب الشواف الملقاة في احد شوارع الموصل في عام 1959 وهو يهتف ( ماكو مؤامرة والحبال موجودة )، علما بأنه لم يقتل ولم يسحل ولم ينتمِ أيضا لأي تيار سياسي إلا لحماقته وعقده السيكولوجية، والتي كلفته حياته بعد عدة سنوات من هذا التصرف الأحمق، حيث أعدمه البعثيون عام 1963 بتهمة قتل ذلك الضابط؟
في هذين المشهدين والموقفين نستقرءُ ثقافة بائسة لدى شرائح واسعة من مجتمعاتنا العراقية أو ربما تراكمات من أنماط تربوية وتوجيهية منذ الصغر في تهميش الآخرين واستصغار حياتهم أو ربما إيقافها لأي سبب كان.
والسلبية في التعاطي مع الأحداث الخطيرة والانسياق دونما عقلانية أو وعي وراء حوادث مثيرة في شكلها وجريمة كبرى في مضمونها، كتلك الأحداث التي أومئ إلى أصحابها بشتى النعوت والصفات كما حصل في جرائم الأنفال، حيث أفهم الكثير وأغلبيتهم من القرى والفلاحين السذج بان الكورد مرتدين عن الدين أو كفرة ملاعين، كما اقنع الكثير أيضا من البائسين بان كل أولئك الأشخاص الذين اشتركوا أو لم يشتركوا بل أيدوا حركة الشواف في الموصل بأنهم عملاء أمريكا وسيدمرون جمهوريتنا الخالدة وبذلك فان قتلهم من الموجبات، وان مجرد الاشتراك في سحل جثامينهم هي روح الوطنية الحقة!
وهنا تم العبث بمفاتيح الغرائز لدى الرعاع والمنفلتين اجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا وهم قطاعات واسعة في المدن والأرياف، وتم تجنيدهم لاقتراف تلك الجرائم الكبرى بحق الشعوب العراقية وقواها الوطنية منذ تأسيس دولة العراق والى يومنا هذا.
في حلبجة تم تثقيف الرأي العام بأنها قد احتلت من قبل الإيرانيين وان من تبقى فيها من السكان ما هم إلا من ( سليلي الخيانة ) الذين يوجب إعدامهم بتهمة الخيانة العظمى، وهكذا تم تسويق وتبرير عملية القصف الكيماوي لحلبجة والعديد من القرى والبلدات في معظم مناطق كوردستان، طبعا مع تسطيح كامل للعقول واستغلال جوانب كثيرة في البناء السيكولوجي للقوات العسكرية والميليشيا والعبث بمفاتيح غرائزهم الحيوانية في الافتراس والاغتصاب، وإباحة النهب والسلب واعتبار كل الأموال والممتلكات التي يحصلون عليها إنما هي تلك الغنائم التي جاء بها الدين الإسلامي لهؤلاء المجاهدين، في واحدة من أقذر عمليات التشويه للدين الحنيف وتشبيه تشريعاته وحلوله لفترة ما قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، بما كان يقترفه المجرمون في كوردستان المسلمة بأغلبيتها في أواخر القرن العشرين.
في كل العمليات العسكرية التي جرت في كوردستان، أباحت قيادات الجيش ومن معها من الميليشيات بكل تسمياتها وأفكارها من ما كان يسمى بأفواج الدفاع الوطني والمعروفة في كوردستان بـ ( الجحوش ) إلى الجيش الشعبي، أباحت السرقة والنهب والسلب وحتى الاغتصاب لكل من يدخل منهم القرى والبلدات في طول كوردستان وعرضها.
وقد امتلأت أسواق الموصل وبلداتها وكركوك وديالى وحتى بغداد بما تم سلبه ونهبه من بيوت ومزارع القرى والبلدات التي تم الاستيلاء عليها في تلك العمليات المسماة بالأنفال.
إن حصر الجرائم في حلبجة والأنفال بزمرة الرئيس السابق وأركان قيادته العسكرية والحزبية هو تقزيم لتلك الجرائم الفظيعة وتضليل الرأي العام والتعتيم على الكثير من أسرار واحدة من أبشع ما اقترفته تلك الزمر والعصابات المتوحشة تحت تسمية القوات المسلحة أو أفواج الدفاع أو ميليشيا الجيش الشعبي مع كامل تلك الطواقم الإدارية التي حكمت مناطق العمليات القذرة في كوردستان ودورها المؤثر بأي اتجاه من الاتجاهات، وكشف مواقفٍ بطولية ومشرفة لأناس في مفاصل كل هذه التشكيلات ممن اعترضوا عليها بالقول أو الفعل أو الاستقالة أو الهروب من مؤسسات الجيش والأفواج والجيش الشعبي من العرب والتركمان والكورد، ومِن مَن ساهموا في تلك العمليات بشتى الأساليب لكي نكتب تاريخا دقيقا لشعبنا في كوردستان والعراق.
إن ما جرى للكورد منذ شباط 1963 ولغاية انهيار نظام البعث في نيسان 2003 يقع تحت طائلة الأنفال، التي تميزت بعمليات التطهير العرقي والابادة الجماعية للسكان وجرائم الحرب التي تم الاتفاق عليها دوليا في معاهدات الأمم المتحدة ومنظماتها، ولا يمكن تحجيمها بالفترة الزمنية الممتدة بين 1987 و 1988 لأنها كانت فعلا قد بدأت تحت مسميات أخرى منذ تسلط العنصريون الشوفينيون على مقاليد الحكم في العراق أبان انقلابهم على حكومة عبد الكريم قاسم عام 1963، والتي بدأت بأبادةٍ منظمة للكورد الفيليين في بغداد والفرات الأوسط والجنوب تحت تسمية التبعية الفارسية أو الإيرانية والتي امتدت لغاية الثمانينات من القرن المنصرم، ذهب ضحيتها ما تجاوز النصف مليون إنسان، تم قتل خيرة شبابهم ورجالهم وقذف ما تبقى من عوائلهم إلى ما وراء الحدود الدولية مع إيران، ومصادرة جميع ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة ومنحها الى قيادات حزب البعث وأجهزته الخاصة في الأمن والمخابرات والاستخبارات وغيرها، إضافة إلى ما جرى في عمليات التغيير الديموغرافي لمدن كركوك وسنجار والموصل وخانقين ومندلي ومخمور والشيخان وزمار، وتهجير الآلاف من سكانها أو تعريبهم قسرا بعمليات اقل ما يقال عنها إنها متوحشة وبدائية متخلفة، حيث أجبر السكان على تغيير قوميتهم تحت طائلة التهديد بمصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة وترحيلهم إلى خارج هذه المناطق، وما حصل في زمار والشيخان ومخمور وكركوك من عمليات استقدام العرب وتوطينهم في أراضي السكان الأصليين وتمليكهم إياها ونقل نفوسهم إليها وتهجير سكانها الأصليين وتصفية المئات منهم، ما هي إلا حلقة من حلقات جرائم الأنفال.
وفي كل هذه الجرائم لا يعقل أن يكون رأس النظام وأركان حكمه وحدهم المسؤولون عنها طيلة ما يقارب الأربعة عقود من الزمن، فقد شاركهم المئات من المجرمين وفي كل صنوف الجيش وميليشيا حزب البعث بشقيها الحرس القومي والجيش الشعبي، والعشرات من رؤساء الوحدات الإدارية وقوى الأمن والشرطة وغيرهم.
وهناك أيضا الكثير ممن اعترضوا عليها من منتسبي هذه الجهات ودفعوا ثمن ذلك الكثير من حياتهم.
إزاء كل هذا لم تعد هذه الجرائم قضية كوردية فحسب بل هي قضية إنسانية كبرى، وهي أيضا ليست من مسؤولية أشخاص بحد ذاتهم تنتهي بنهايتهم، بل هي ثقافة وسلوك عنصري وشوفيني اسود ما يزال يعشش في عقول الكثير ممن لو امتلكوا آليات صدام حسين لتجاوزوه في جرائمه ولكنهم كما يقولون هم عن أنفسهم إن أياديهم الآن مكسورة!.
فهم ما زالوا يعتبرون كل ما فعله النظام السابق في كركوك والموصل وديالى وسنجار وخانقين ومخمور والشيخان وزمار وتلعفر ومندلي وعشرات البلدات والقرى عملا مشروعا وما الكورد إلا ضيوفا أو نزلاء فندق في هذه المناطق ولا يتجاوزون كما يفكرون هم أكثر من ثلاثة بالمئة من السكان، فهم بذلك قد حكموا على الأكثرية المطلقة هنا بالإعدام أو تغيير القومية كما فعله العنصريون قبلهم خلال أربعة عقود من حكمهم.
إذن لم تعد قضية الأنفال جريمة اقترفتها مجموعة من الأشخاص يتم محاكمتهم الآن، بقدر ما هي سلوك وثقافة وأفكار عنصرية شوفينية هدامة تهدد العراق وكوردستان ومستقبلهما، وعلى العالم وقواه الديمقراطية محاربة تلك الثقافة وذلك السلوك المنحرف والأفكار الشوفينية التي باتت تهدد العالم المتحضر بأجمعه وليس كوردستان أو العراق لوحدهما، فهي امتداد لذلك الفكر النازي الذي يلاحقه القضاء الأوروبي والإنساني المتحضر منذ أكثر من خمسين عاما.
لم يكن هذا الرجل قائدا في الجيش أو عضوا قياديا في حزب البعث الحاكم آنذاك، اللهم إلا انه كان عضوا عاديا في صفوف البعثيين ومديرا لأحدى المدارس الابتدائية، كما لم يكن أيضا ممن نفذوا الضربات الكيماوية فقد كان جنديا احتياطا، يعمل في احد الأقسام الإدارية لوحدة من وحدات العتاد الخاص ( الكيماوي ).
إلا أن نبرات حديثه وأسلوب رده يُظهر بجلاء لا غبار عليه تلك المنظومة الفكرية الغارقة بالشوفينية والحقد الأسود تجاه الكورد وكوردستان، وهو لم يفعل بيده شيئا في تلك العمليات القذرة بل مر بها وشهد فصولها وأفصح عن إيمانه وقناعته ورضائه عنها بتصريحه حينما سألته عن الأوضاع في قاطعه الذي يخدم فيه عسكريته الاحتياط.
وذكرني موقفه هذا بموقف رجل آخر تصرف بمثل حماقة وتفاهة هذا الشخص حينما ركل جثمان احد ضباط حركة عبد الوهاب الشواف الملقاة في احد شوارع الموصل في عام 1959 وهو يهتف ( ماكو مؤامرة والحبال موجودة )، علما بأنه لم يقتل ولم يسحل ولم ينتمِ أيضا لأي تيار سياسي إلا لحماقته وعقده السيكولوجية، والتي كلفته حياته بعد عدة سنوات من هذا التصرف الأحمق، حيث أعدمه البعثيون عام 1963 بتهمة قتل ذلك الضابط؟
في هذين المشهدين والموقفين نستقرءُ ثقافة بائسة لدى شرائح واسعة من مجتمعاتنا العراقية أو ربما تراكمات من أنماط تربوية وتوجيهية منذ الصغر في تهميش الآخرين واستصغار حياتهم أو ربما إيقافها لأي سبب كان.
والسلبية في التعاطي مع الأحداث الخطيرة والانسياق دونما عقلانية أو وعي وراء حوادث مثيرة في شكلها وجريمة كبرى في مضمونها، كتلك الأحداث التي أومئ إلى أصحابها بشتى النعوت والصفات كما حصل في جرائم الأنفال، حيث أفهم الكثير وأغلبيتهم من القرى والفلاحين السذج بان الكورد مرتدين عن الدين أو كفرة ملاعين، كما اقنع الكثير أيضا من البائسين بان كل أولئك الأشخاص الذين اشتركوا أو لم يشتركوا بل أيدوا حركة الشواف في الموصل بأنهم عملاء أمريكا وسيدمرون جمهوريتنا الخالدة وبذلك فان قتلهم من الموجبات، وان مجرد الاشتراك في سحل جثامينهم هي روح الوطنية الحقة!
وهنا تم العبث بمفاتيح الغرائز لدى الرعاع والمنفلتين اجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا وهم قطاعات واسعة في المدن والأرياف، وتم تجنيدهم لاقتراف تلك الجرائم الكبرى بحق الشعوب العراقية وقواها الوطنية منذ تأسيس دولة العراق والى يومنا هذا.
في حلبجة تم تثقيف الرأي العام بأنها قد احتلت من قبل الإيرانيين وان من تبقى فيها من السكان ما هم إلا من ( سليلي الخيانة ) الذين يوجب إعدامهم بتهمة الخيانة العظمى، وهكذا تم تسويق وتبرير عملية القصف الكيماوي لحلبجة والعديد من القرى والبلدات في معظم مناطق كوردستان، طبعا مع تسطيح كامل للعقول واستغلال جوانب كثيرة في البناء السيكولوجي للقوات العسكرية والميليشيا والعبث بمفاتيح غرائزهم الحيوانية في الافتراس والاغتصاب، وإباحة النهب والسلب واعتبار كل الأموال والممتلكات التي يحصلون عليها إنما هي تلك الغنائم التي جاء بها الدين الإسلامي لهؤلاء المجاهدين، في واحدة من أقذر عمليات التشويه للدين الحنيف وتشبيه تشريعاته وحلوله لفترة ما قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، بما كان يقترفه المجرمون في كوردستان المسلمة بأغلبيتها في أواخر القرن العشرين.
في كل العمليات العسكرية التي جرت في كوردستان، أباحت قيادات الجيش ومن معها من الميليشيات بكل تسمياتها وأفكارها من ما كان يسمى بأفواج الدفاع الوطني والمعروفة في كوردستان بـ ( الجحوش ) إلى الجيش الشعبي، أباحت السرقة والنهب والسلب وحتى الاغتصاب لكل من يدخل منهم القرى والبلدات في طول كوردستان وعرضها.
وقد امتلأت أسواق الموصل وبلداتها وكركوك وديالى وحتى بغداد بما تم سلبه ونهبه من بيوت ومزارع القرى والبلدات التي تم الاستيلاء عليها في تلك العمليات المسماة بالأنفال.
إن حصر الجرائم في حلبجة والأنفال بزمرة الرئيس السابق وأركان قيادته العسكرية والحزبية هو تقزيم لتلك الجرائم الفظيعة وتضليل الرأي العام والتعتيم على الكثير من أسرار واحدة من أبشع ما اقترفته تلك الزمر والعصابات المتوحشة تحت تسمية القوات المسلحة أو أفواج الدفاع أو ميليشيا الجيش الشعبي مع كامل تلك الطواقم الإدارية التي حكمت مناطق العمليات القذرة في كوردستان ودورها المؤثر بأي اتجاه من الاتجاهات، وكشف مواقفٍ بطولية ومشرفة لأناس في مفاصل كل هذه التشكيلات ممن اعترضوا عليها بالقول أو الفعل أو الاستقالة أو الهروب من مؤسسات الجيش والأفواج والجيش الشعبي من العرب والتركمان والكورد، ومِن مَن ساهموا في تلك العمليات بشتى الأساليب لكي نكتب تاريخا دقيقا لشعبنا في كوردستان والعراق.
إن ما جرى للكورد منذ شباط 1963 ولغاية انهيار نظام البعث في نيسان 2003 يقع تحت طائلة الأنفال، التي تميزت بعمليات التطهير العرقي والابادة الجماعية للسكان وجرائم الحرب التي تم الاتفاق عليها دوليا في معاهدات الأمم المتحدة ومنظماتها، ولا يمكن تحجيمها بالفترة الزمنية الممتدة بين 1987 و 1988 لأنها كانت فعلا قد بدأت تحت مسميات أخرى منذ تسلط العنصريون الشوفينيون على مقاليد الحكم في العراق أبان انقلابهم على حكومة عبد الكريم قاسم عام 1963، والتي بدأت بأبادةٍ منظمة للكورد الفيليين في بغداد والفرات الأوسط والجنوب تحت تسمية التبعية الفارسية أو الإيرانية والتي امتدت لغاية الثمانينات من القرن المنصرم، ذهب ضحيتها ما تجاوز النصف مليون إنسان، تم قتل خيرة شبابهم ورجالهم وقذف ما تبقى من عوائلهم إلى ما وراء الحدود الدولية مع إيران، ومصادرة جميع ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة ومنحها الى قيادات حزب البعث وأجهزته الخاصة في الأمن والمخابرات والاستخبارات وغيرها، إضافة إلى ما جرى في عمليات التغيير الديموغرافي لمدن كركوك وسنجار والموصل وخانقين ومندلي ومخمور والشيخان وزمار، وتهجير الآلاف من سكانها أو تعريبهم قسرا بعمليات اقل ما يقال عنها إنها متوحشة وبدائية متخلفة، حيث أجبر السكان على تغيير قوميتهم تحت طائلة التهديد بمصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة وترحيلهم إلى خارج هذه المناطق، وما حصل في زمار والشيخان ومخمور وكركوك من عمليات استقدام العرب وتوطينهم في أراضي السكان الأصليين وتمليكهم إياها ونقل نفوسهم إليها وتهجير سكانها الأصليين وتصفية المئات منهم، ما هي إلا حلقة من حلقات جرائم الأنفال.
وفي كل هذه الجرائم لا يعقل أن يكون رأس النظام وأركان حكمه وحدهم المسؤولون عنها طيلة ما يقارب الأربعة عقود من الزمن، فقد شاركهم المئات من المجرمين وفي كل صنوف الجيش وميليشيا حزب البعث بشقيها الحرس القومي والجيش الشعبي، والعشرات من رؤساء الوحدات الإدارية وقوى الأمن والشرطة وغيرهم.
وهناك أيضا الكثير ممن اعترضوا عليها من منتسبي هذه الجهات ودفعوا ثمن ذلك الكثير من حياتهم.
إزاء كل هذا لم تعد هذه الجرائم قضية كوردية فحسب بل هي قضية إنسانية كبرى، وهي أيضا ليست من مسؤولية أشخاص بحد ذاتهم تنتهي بنهايتهم، بل هي ثقافة وسلوك عنصري وشوفيني اسود ما يزال يعشش في عقول الكثير ممن لو امتلكوا آليات صدام حسين لتجاوزوه في جرائمه ولكنهم كما يقولون هم عن أنفسهم إن أياديهم الآن مكسورة!.
فهم ما زالوا يعتبرون كل ما فعله النظام السابق في كركوك والموصل وديالى وسنجار وخانقين ومخمور والشيخان وزمار وتلعفر ومندلي وعشرات البلدات والقرى عملا مشروعا وما الكورد إلا ضيوفا أو نزلاء فندق في هذه المناطق ولا يتجاوزون كما يفكرون هم أكثر من ثلاثة بالمئة من السكان، فهم بذلك قد حكموا على الأكثرية المطلقة هنا بالإعدام أو تغيير القومية كما فعله العنصريون قبلهم خلال أربعة عقود من حكمهم.
إذن لم تعد قضية الأنفال جريمة اقترفتها مجموعة من الأشخاص يتم محاكمتهم الآن، بقدر ما هي سلوك وثقافة وأفكار عنصرية شوفينية هدامة تهدد العراق وكوردستان ومستقبلهما، وعلى العالم وقواه الديمقراطية محاربة تلك الثقافة وذلك السلوك المنحرف والأفكار الشوفينية التي باتت تهدد العالم المتحضر بأجمعه وليس كوردستان أو العراق لوحدهما، فهي امتداد لذلك الفكر النازي الذي يلاحقه القضاء الأوروبي والإنساني المتحضر منذ أكثر من خمسين عاما.