مشاهدات : الطريق إلى تخوم بعشيقة المحاصرة – الجزء الاول

 خاص «ولاتى مه»: 
كان عليّ أن أبسط أمامي خارطة المكان المرسومة في ذاكرتي ، كي تقودني السيارة مرة أخرى إلى الأمكنة التي أحببتها ، الأمكنة التي أفزعتني ذات مساء حين تلقيت نبأ استشهاد الأخ والصديق البيشمركة العميد مغديد هركي ، ذات الطريق التي تسلقتها إلى جبل زردك ، بعد أن مررتُ على حسن شام ، نعم .. حسن شام ، القرية التي ارتاحت على ربوتها ، بعد أن أزاحت الكابوس عنها أرواح شهدائنا ، البيشمركة الشهيد الملازم جومرد ورفاقه ، تلك الطريق ، ستأخذني وصحبي فيما بعد إلى جبل باشيك ، حيث رائحة البارود الممزوجة برائحة تراب الوطن الذي بدا وهو يتنفس الصعداء للتو ، بعد أن انتفض في وجه الغزاة .
ضللتُ الطريق ، كان عليّ أن أسلك مفرق الشهيد فريدون جوانروي ، ولكنني ضللت ، ولكن .. من يتبع دماء الشهداء وأسماءهم لن يضلّ الطريق ، وبعدئذٍ التقيت بقاسم ، قاسم الكوردي الأصيل الأصيل الذي أصر على دعوتنا لتناول الغداء ، مع أن الوقت كان مبكراً جداً ، وبعد أن قدّمنا له شديد اعتذارنا ، أشار إليّ أن ألبيّ دعوته في طريق العودة . لا أعرف أين يخبّئ الكوردي كل هذا الود والطيبة والبساطة وصدق المشاعر؟.
الطرقات العسكرية التي سلكناها كانت وعِرةً ، وعِرةً جداً ، ولكن لاسبيل للوصول إلى الهدف إلا عبرها . وكان الهدف جبل باشيك في مرحلته الأولى ، ومن هناك سننطلق إلى محور ناويران ، ومن ثم إلى خطوط التماس التي سأتحدثُ عنها لاحقاً . وهذا يعني أننا سنسلك طريقاً يلتف على مدينة الموصل ، من شرقها ثم إلى شمال غربها . وكانت بداية انطلاقنا من هولير .
 
   على طريق خازر ، وبعد أن تركنا مدينة خبات خلفنا ، التقينا برتل صغير من قوات الجيش العراقي ، لاأدري لماذا شعرت بأن ذاك الرتل كان يتقدم في حياء وتواضع ، ربما .. أقول ربما لقلة مركباته ، ولكننا تجاوزناه بعد عبورنا الجسر الحربي الواصل بين ضفتي الزاب  والذي أقامته قوات البيشمركة ، إبّان نسف داعش للجسر الإسمنتي ، إبّان تقهقره أمام ضربات بيشمركة كوردستان . لم نلتق بأي مركبة عسكرية بعد ذاك حتى بلغنا مفرق مارمتى ، التي ترتاح في كنف جبل ودير مار متى ، والذي بدوره سيقودنا إلى مقر اللواء 7 قوات بيشمركة على قمة جبل باشيك .
 
كان بانتظارنا الأخ حيدر شيخ عريف شيخ ياسين دوسكي ، وهوشقيق مدير محور باشيك جنرال بهرام دوسكي ، الذي كان قد قاد قواته في عملية التفاف واسعة ، تلاها خرق بالمدرعات لصفوف داعش بغية عزل قرية فازلية والقرى التي تجاورها ، تمهيداً لتنظيفها وتطهيرها من جيوب الدواعش . التحق بنا بعد ذاك فريق سي إن إن ، وفريق أسوشيدت برس ، وهناك تعرفنا على مرافقنا مقدم بيشمركة عبدالله تتّو القادم من جبال بارزان ، تناولنا طعام الغداء ، شربنا الشاي ، ودخنّا بعض السجائر ، وسرنا في قافلة ، وجهتنا التالية مواقع المواجهة الصباحية ، التي كان قد تم تحريرها قُبيل ساعات ، والتي أمست خطوط تماس .
 
 تحدرنا جبل باشيك باتجاه طريق شيخان الموصل ، وهو ذات الطريق الذي سلكته قوات عملية الالتفاف والاختراق ، وامتدت المسافة على تلك الطريق لأكثر من مائة وخمسين كيلومتراً ، مع أنه كان بالإمكان عبور ستة كيلو مترات فقط للوصول إلى وجهتنا ، لو أن قوات البيشمركة اقتحمت قرية فازلية عبر جبهة تقع على كتف جبل باشيك ، ولكن تعليمات الرئيس بارزاني بإخلاء السكان المدنيين من القرى قبل اقتحامها ، هي التي أفضت إلى خطة الالتفاف وإجراء عملية جراحية عسكرية ، الغاية منهاعزل القرى ، واستنزاف مسلحي داعش وتحرير السكان المدنيين ، وشاءت الأقدار أن نحضر المرحلة الأخيرة من المعارك هناك .
مضت قرابة ساعة ونصف ، قطعنا خلالها ما يقرب من مائة كيلو متر ، والتحمنا مع طريق شيخان باتجاه تل كيف ، حيث تنتشر مخيمات اللجوء الضخمة التي تم إنجازها لاستقبال النازحين الجدد ، وبدت هناك حركة كثيفة للمدنيين الذين كانوا ينتظرون أقاربهم من الهاربين من بطش الدواعش ، مالفت نظري أيضاً كثرة نقاط الإسعاف المنتشرة على طول الطريق ، والمزوّدة بسيارات الاسعاف والأطقم الطبية ، والتي كانت مهمتها تنحصر في استقبال المرضى وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصّة من النازحين ، وكانت المنطقة المتاخمة لجبهات القتال تكتظ بنقاط التفتيش وتجمعات البيشمركة ، وكانت الحركة كثيفة للغاية ، وكانت تنذر باقترابنا من مناطق العمليات . خصوصاً وأننا كنا نترك الطريق الاسفلتية ونسير على الطرقات الترابية بين الحين والآخر . والباً ما كنا نشاهد هياكل سيارات مهشمة ، كانت تعود لمسلحي داعش ، وقد قيل لنا بأنها إما كانت سيارات مفخخة تم تدميرها ، وإما تم الإغارة عليها واستهدافها وهي في طريق الفرار .
 
 عند بداية سهل نينوى ، بدا المشهد أكثر مأساوية ، وبدأت تظهر ملامح الأزمة الإنسانية رويداً رويداً ، كانت قوافل المدنيين تستقل سيارات مدنية وعسكرية ودراجات نارية ، تغادر باتجاه طريق شيخان ، أي باتجاه المناطق الآمنة ، وكثيرا ما كنت أشاهد تجمعات تعانق بعضها بعضاً ، المحررون الواصلون لتوهم والمنتظرون منذ ساعات الصباح الأولى ، كان مشهداً يرسم النسيج الاجتماعي المتماسك للمجتمع الكوردي ، ولكن السمة السائدة والتي غالباً ماكنت ألاحظها ، تلك الوجوه المعفّرة بتراب الطرقات ، والرايات البيضاء المرتفعة على السيارات .
 
 
كنت أقود في مؤخر الرتل ، وكان مقدم عبدالله يستقل السيارة التي تتقدم الرتل ، ولكن من الآن وصاعداً أصبح من المستحيل أن يبقى الرتل متماسكاً ، كنت أنظر عبر النافذة الأمامية إلى عجلات السيارة التي كانت تتقدمني ، وخيّل إليّ أن ما تتقاذفه العجلات رذاذ ماء سرعان ما يتحول إلى بخار بنيّ اللون ، ولكن الأمر لم يكن كذلك ، بل كانت التربة التي سحقتها سلاسل المدرعات ، وفتتها عجلات العربات العسكرية إبّان تقدمها باتجاه مناطق المواجهة ، فكان علينا أن نتباعد تسهيلاً لعملية الرؤية التي كانت شبه معدومة .
عند وصولنا إلى أولى القرى على مدخل الوادي ، بدأت تظهر السواتر الترابية ، التي كان العمل لايزال جاريا على إقامتها بواسطة الجرفات ، وقد اختلط الأمر عليّ بادئ ذي بدء ، فقد شاهدتُ صفّاً من السواتر على يميني ، ترتفع عليا رايات كوردستان ، وكذا صفّاً من السواتر على يساري ، وترتفع عليها رايات كوردستان ، وعلى كلا الصفين كنت أشاهد قوات البيشمركة ، ولم تكن المسافة بين الصفين تزيد عن ألف متر تقريباً ، وعلى مسافة ليست ببعيدة وخلف السواتر لمحت رايات سوداء ، فصرخت : يارفاق هذه رايات داعش ونحن نسير في وسطها . 
يتبع .. 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…