د. محمود عباس
كثرت في الآونة الأخيرة، تحديدا قبيل معركة تحرير الموصل، الحديث عن مستقبلها، ووجود عساكر تركيا على الأراضي العراقية، وقبل هذا، ما يزيد عن سنة، انتشرت إشاعات بين سكان الإقليم الكردستاني في العراق الفيدرالي عن رغبة الإقليم في الدخول مع تركيا بتشكيل كونفدرالية تركية كردية. كما كان حديث الكونفدرالية إشاعة ومستقبل موصل لا يشذ عنه، فكلتاهما إشاعات تداولتها أحاديث العامة من الناس. وعلى أساس هذه الإشاعات تراودني احتمالات عن وجود نوع من المصداقية فيها، وعليه ليس من الفضول بكثير أن نتباحث مثل هذه الإشاعات كاحتمالات لا أكثر، وإن كانت غير معقولة الحدوث، ونقول جدلا، أنه من غير المستبعد أن يطلب أردوغان، من الكرد تشكيل كردستان كونفدرالية وضمها إلى تركيا، ومعها الأرض الممتدة بخط عرض تبدأ من أرض كردستان الجنوبية على حدود إيران وحتى البحر المتوسط مارة بجنوب لواء هاتاي (اسكندرونه)
أو لم يعد مستغرباً أمام الاستراتيجية المتبعة حاليا، والتكتيكات المتضاربة، أن تقوم إدارته بضم جزء من كردستان الشمالية إلى تلك الكونفدرالية، في حالة ضمان تكوين دولة طورانية مع الجغرافيات التي صارع أتاتورك من أجلها في العشرينات من القرن الماضي، أو ما كانت عليها الإمبراطورية العثمانية قبل الانهيار، وبعلاقات جيوسياسية تابعة لمركز الدولة التركية، وبمقاييسها.
وإذا اعتبرنا أن هناك توقعات ليست غريبة في الحيز السياسي، التي تفسح المجال لطرح شتى الاحتمالات، فمثلما أتفق أردوغان مع العمال الكردستاني لبدء مرحلة الوفاق والسلام، والتي لولا بعض التغيرات السياسية الطارئة في المنطقة لاستمرت العملية وبلغت أهدافا مناسبة للكرد والترك معا، ولكن المصالح تحدد التوجهات السياسية، وهو ما يمكن توقعه من عرض هذا الطلب على القيادة الكردية، مع أو بدون العمال الكردستاني، إذا اعتبرنا أن أردوغان يدرك خلفيات مثل هذه الخطوة الجيوسياسية، وفوائدها لتركيا التي يطمح إليها، وتأثيراتها السلبية على الدول الإقليمية، بل وعلى الدول الكبرى وفي الجوار. وفي الواقع العملي، يمكن طرح مثل هذه الفكرة على الساحة، لكن قبولها ورفضها ربما يكون مرهونا بالكرد، ويبقى العرض التركي هش مقابل الرأي الكردي، ورأي الأخير يستند على عدة عوامل، منها تعامل القوى الإقليمية مع القضية الكردية، وخاصة القوى العربية، ومدى تقبلهم لحل القضية الكردية على سوية حق الكرد في تقرير مصيره ضمن الدولة الوطنية المشتركة، إلى جانب عوامل أخرى.
موصل وحلب، وهناك كركوك، هي المدن التي لم تغب يوما عن ذاكرة القوميين الأتراك، كبعد جغرافي وبمصلحة قومية قبل المصالح الاقتصادية، فالعنجهية القومية، عند بعض الشعوب ومنهم الأتراك، تتجاوز المصالح الاقتصادية، وإصرار أردوغان الاشتراك في عملية تحرير موصل، تختلف عن غايته في تحرير الرقة، أو احتلاله الأراضي السورية وبرفقة المعارضة العربية السنية. فغاية اشتراكه في تحرير الموصل، من حيث البعد الاستراتيجي، تحقيق للحلم التركي، وقد يكون تمهيداً لبلوغ كركوك، أو لربما ضم كل كردستان بوعد إقامة كونفدرالية تركية، أما في الجانب التكتيكي، لربما هدفه الحفاظ على أطراف من منظمة داعش، وبلوغ ملفاتها السرية قبل أن تصلها قوى أخرى، ولا شك أنها تحوي الكثير من العلاقات التي كانت بينهما، وتبدأ من لحظة احتجاز داعش لأعضاء السلك الدبلوماسي في قنصليتها ضمن الموصل، والتي من حينها بدأت تتعمق العلاقة، وعليه تم تسهيل المرور البشري والأسلحة وغيرها من الدعم اللوجستي عبر مطاراتها وحدودها والسماح لطائرات تجار الحروب استخدام مجالها الجوي دون اعتراض، ولاشك هناك أرشيف مليء بالصفحات السوداء، عنها وعن دول إقليمية عديدة، ومثلها لأمريكا وروسيا، وعلى الأغلب لا توجد دولة مشتركة في الصراع إلا وكان لها نكاح مع داعش العاهرة، ولهم منها وليد يخدم أجنداتهم. أما في عرضها على الأمريكيين المشاركة في تحرير الرقة بشرط عدم إشراك قوات الحماية الشعبية الكردية، تبين وبشكل جلي غايتها، وهي القضاء على القوة الكردية أو على الأقل إرضاخها لأجنداتها، وبالتالي فرض شروطها عليهم، وعلى الأغلب هذه العملية ستستمر، حتى ولو اشتركت القوى الكردية الأخرى في العملية السياسية والعسكرية الكردية في غربي كردستان، ما دامت خارج مصالحها القومية، وكان الأولى بالحركة الكردية السياسية القيام بعملية التقارب، والكلمة موجهة لكل الأطراف، وخاصة المسيطرة، ليست لدحض جدلية أردوغان بل لتقوية الجبهة الداخلية من جهة، وتمتين الموقف الأمريكي الروسي في دعم الكرد كقوة ديمقراطية في المنطقة، ومواجهة الحجة التركية على أنها تحارب العمال الكردستاني، وليس الكرد، وهي حجة ملغية جدلا لكنها تحتاج إلى تفعيل دولي أوسع.
تبين بأن أردوغان وإدارته الجديدة، بعد التطورات المتسارعة التي حدثت ضمن تركيا، قادر على تجاوز جميع الحواجز، والتعامل مع أي طرف دولي ليبلغ حلمه، ولن يألو جهداً لإعادة تشكيل الخريطة السياسية الناتجة من الصراعات الدولية في الشرق الأوسط بعد انهيار إمبراطورية الرجل المريض، ففي علاقاته الدبلوماسية يتبع تكتيك أتاتورك، وبمنهج السلاطين، يملك مرونة في التغيير، وتحت منطق لا خجل في السياسة، ولا مبدأ أمام المصالح، وعلى استعداد أن يضعف من رباطه مع الحلف السني ليكسب الشيعي، والانتقال من الإمبريالية إلى حفيد الشيوعية، وعلينا أن لا نجد غرابة في تصريح قادم قد يطالب بالخروج من الناتو، وهو الاحتمال الأصعب، لأن البديل لن يكون بتلك القوة، وهي نفس الاستراتيجية التي تتبعها روسيا وأمريكا في علاقاتهما الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وهو من أحد الذين أدركوا هذه الجدلية بعمق ويحاول تطبيقها قدر الإمكان، لمصلحة وطنه وشعبه وبالتالي حزبه.
على ما يبدو أن خريطة الشرق الأوسط، لن تكون على ما هي عليه، قالها أكثر من سياسي، ومسؤول حكومي من الدول الكبرى والإقليمية، والذين يتشدقون بالحفاظ على الماضي هم الذين يسيطرون الآن على مقاليد السلطة، علماً أنهم أكثر المناهضين لتقسيمات سايكس بيكو الجغرافية، ولا يعني هذا أن ما يطمح إليه أردوغان تندرج ضمن جدلية سياسية مقبولة، بل تدخلاته العسكرية وبشكل فظ في سوريا والعراق، ومن خلال تصريحاته تتبين بأنه لم تعد بحاجة إلى تحليلات وتأويلات لتبيان ما يطمح إليه لتغيير الجغرافية السياسية الحالية للمنطقة، فهو بذاته ومسؤولون كبار من إداراته لم يعد يخفون طموحاتهم، حتى ولو كانت مغلفة بالأغطية الدبلوماسية.
من الملاحظ أن بعض القوى السنية تؤيده، وقد لا تتوانى في قبول الانضمام إلى طموحاته، وهو ما يحصل في شمال سوريا، حيث المنظمات السنية المعارضة بدأت ترفع العلم التركي في المدن السورية، كما وهي مرسومة أمام بنايات في جرابلس، بدلاً من علم الثورة السورية، وما تعكسه كذلك تصريحات بعض قوى السنة في الموصل، ونحن هنا لا نحتاج إلى ما تقوم به المنظمات التركمانية في الدولتين، والأغرب أن كل هذا يجري وبصمت من الدول العربية السنية، ومجملها نابعة من مخافة المد الشيعي في المنطقة، والواضح من خلال التدخلات الإيرانية في هذه الدول، والتي هي بدورها لم تعد تخفيها، بل تدرجها ضمن استراتيجية الهلال الشيعي أو ما يمكن تسميتها الاستراتيجية الروسية بالغطاء الشيعي، والخلاف بينهما، أن تركيا تطمح إلى مد سياسي-جغرافي، وإيران تكتفي بالمد المذهبي-السياسي، وفي الواقع السيطرة الإيرانية أعمق وأخطر من الحلم التركي في المنطقة. والدول العربية ترهبها المد المذهبي أكثر من الجغرافي، لأن الأول من السهل لها اجتياز الحدود والتغلغل في مؤسساتها، وإدارتها، والثاني أي المد الجغرافي واضح وقد يحد بالطرق الدبلوماسية ويقف عند حدود الدول التي لتركيا طموح فيها وهي سوريا والعراق.
ضمن الصراعات المتداخلة في الشرق الأوسط، أصبح الكرد بشكل أو آخر، الورقة الأكثر استخداما، ومتاجرة بها، ومن الغرابة أن معظم القوى تستخدمهم، وتتخلى عنهم بنفس السهولة التي جندتهم، ولهذا فالجميع يحافظون على أن يبقى الكرد قوى متنافرة، ولا يهمهم أي كانت الأسباب، أيديولوجية فكرية؛ أو انتماءات سياسية؛ أو علاقات تكتيكية؛ أو استراتيجية، المهم هو عدم تكوين القوة الكردستانية، والمتوقعة في حال تحالفها في جبهة متفاهمة، أن تكون على سوية المواجهة مع القوى الإقليمية، ورفض الإملاءات، وقد تبلغ سوية فرض شروطها، وعليه ومن خلال تطور الأحداث المتسارعة والتي تتبين مدى التخلي الأمريكي والروسي وقريبا القوى الإقليمية المشكلة أحلافا استراتيجية ثم تَخَلّيهم عن الكرد، وقد تعود بهم التحالفات السياسية إلى نقطة الصفر، لا يبقى أمامهم إلا تحالف ذاتي، والانطلاقة من على المنصة الكردستانية، حينها على الأغلب ستزداد نسبة النجاح والبقاء كقوة مؤثرة في المنطقة، وبالتالي بلوغ الغاية، وإلا فأفضل حظوظهم ستكون بيد تركيا الحالمة بالتغيير الجيوسياسي، واستخدامهم كأحد أوراق العملية، أو ضمن الورقة المذهبية الإيرانية وبالتالي تحالفات الأسد وإيران، وعندها السقوط من جدول مصالح أمريكا وروسيا، ولربما العودة إلى البدء.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/10/2016م