د. محمود عباس
أقل من شهرين ستبدأ الانتخابات الأمريكية، والتنافس لا يزال سخناً بين الجمهوريين والديمقراطيين، وفجأة وفي هذه الفترة الضيقة تنتقل إدارة أوباما من أقصى الليبرالية والتعامل الدبلوماسي في السياسة الخارجية وخاصة مع الكتلة الروسية -الصينية، إلى حد التهديد العسكري، وعلى لسان أحد أكبر جنرالاته، حددت الجغرافيات المحتملة توجيه القوات العسكرية إليها. وعلينا أن ننتبه إلى أن صراعهما اليوم لا تشبه الحرب الباردة، ولا تعاد فيها مفاهيمها وجدليتها وقيمها المبدئية، فقد كانت الاتحاد السوفيتي في صراع إيديولوجي مع الولايات المتحدة وحلفها، خسرا حينها الكثير من مصالحهما لهيمنة الشيوعية أو الإمبريالية، وتنازلوا عن مصالحهما من أجل كسب بعض الشعوب والأنظمة إلى أيدولوجيتهما، واليوم، انقلبت المعادلة، يتخلون عن الإيديولوجيات من أجل أجنداتهما ومصالحهما.
ومثال التقارب التركي الروسي تعكس الجدلية هذه، فروسيا تدرك تماما مدى المساعدات والخدمات التي قدمتها والتسهيلات التي وفرتها لداعش وللمنظمات التكفيرية الأخرى تحت صفة المعارضة، وكيف أنها تحت غطائهم قضت على الجيش السوري الحر، ونتذكر القصف الروسي لقافلة صهاريج النفط الداعشية المتجهة إلى تركيا، فقط لتعرية العلاقة بين تركيا وداعش، ولم تقصف روسيا ولا سلطة بشار الأسد داعش ثانية بعد ذلك بشكل جدي.
وحتى لو شبهنا صراعهما بالحرب الباردة، فستندرج ضمن خطط توزيع المصالح وتقسيم المناطق، ففي السابق كان وزراء خارجيتهما قلما يلتقيان مرة خلال السنة، والحوارات كانت تغرق في التهجم والانتقادات، واليوم يلتقون ببعضهم ويتلفنون أكثر مما يلتقون برؤسائهم أو حتى بعائلاتهم، ونادرا ما يوضحون نقاط الخلاف حتى لحلفائهم، ولإبعاد هذه الشبهة، قيل على لسان جون كيري بأنه سيطلع نظراءه من الدول الأوربية على نتائج مباحثاته في لندن في يوم الأحد 16/10/2016م مع لافروف. يتكتمون على سرية الاتفاقيات لأنها لا تتناسب ومصالح الشعوب المعنية، وخير مثال، ندامة الطرفين على إزاحة بعض الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، وتقارب رأيهما على أن البديل الذي سمحوا لهم باستلام السلطات ليسوا بأفضل من الذين عزلوهم.
كما وأن أحد خلافاتهما التكتيكية، هي أن أمريكا تطالب الفصل بين المناطق المتنازعة عن المتفقة عليها، وتعرض على روسيا أن يتم وضع المقارنات أو التوازنات على أسسها. والشرق الأوسط من أحد أهم المناطق المتنازعة عليها، والكارثة السورية بشكل خاص من القضايا التي تندرج ضمن الحالتين، متفقون على كليتها، ومختلفون على الجزئيات، وأحد أهم نقاط الخلاف هو أن يتم الفصل بين الحالتين. ومن المهم التذكير بأن العديد من المحللين السياسيين لا يرون أن الصراع بين الإمبراطوريتين هي نتيجة السياسة البوتينية المتشددة والليبرالية المرنة من الديمقراطي براك أوباما، بل سببها التراكمات التاريخية ونتاج الخلفيات السياسية والأيديولوجية الماضية والتي لم تتأثر بالتغيرات التي حدثت في نهايات القرن الماضي إلا شكلياً، والمتأثر بها التأييد الجماهيري للسلطات الروسية في كل أشكالها وأطوارها، وعليه لا يتوقعون أي تغيير جوهري في علاقاتهما، حتى لو حدث تغيير مفاجئ لبوتين المتشدد وأبن ك ج ب، أو التغيير القادم للرئاسة الأميركية، ولو قدم عليها الجمهوريون.
تصعيد الأمريكيين للهجتهم السياسية والدبلوماسية وبشكل مفاجئ، رافقتها رد فعل عكسي من الإدارة الروسية، ومنها ألغاء الاتفاقية البلوتونيومية بينهما، وكذلك عدم الالتزام بما اتفقا عليه بالنسبة لسوريا، من الهدنة إلى منع أدخال المساعدات الإنسانية إلى حلب، وبالمقابل حاولت الولايات المتحدة نقل الكلام إلى الفعل، وهو ما قامت به في اليمن، بتقريب سفنها إلى شواطئها لتصل إليها الصواريخ الحوثية الإيرانية الصنع، وتحصل على حجة الضرب بالمقابل، وقد سبقتها طلب من المملكة السعودية تحت صيغة التحالف الخليجي بضرب المواقع الإيرانية –الحوثية في اليمن، وإعطاء الضوء الأخضر لبعض من جنرالاته بالتشديد في تصريحاتهم، وطلب البيت الأبيض لبعض المستشارين العسكريين لبحث احتمالية أرسال قوات عسكرية لسوريا، وتحديد منطقة حظر جوي في أجزاء من سماء سوريا، علماً أن أغلب المحللين يبعدون احتمالية تطبيقهما.
سوريا فتحت عليها أبواب على أبواب، بعد التصعيد الأمريكي الكلامي، ومنها تكثيف المساعدات العسكرية للمعارضة باستثناء المضادة للطائرات، واحتمالية إرسال قوات مشتركة مع دول أوروبية فرنسية أو بريطانية، وأتبعها الرد الروسي، بقبول مباشر لبعض الشروط الأمريكية، وتهديد غير مباشر، بأنها ستقبل القوات البريطانية في سوريا شريطة محاربة المنظمات التكفيرية، والتحذير من التعرض لسلطة بشار الأسد. وكما ذكرنا سابقا أن روسيا لا تفصل في مجريات مباحثاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بين المناطق الساخنة المتفقة أو المتخاصمة عليها، لذلك فالتصعيد على حلب لها علاقة مباشرة مع نهاية عهد أوباما، والتكتيك الروسي يتبين بأنهم يسرعون في الانتهاء من المعارضة السورية في حلب، وتسند سلطة بشار الأسد في عمليات انتقامها من المجتمع السوري، قبل انتهاء الفترة الرئاسية الأمريكية، وتشكل الإدارة الجديدة والتي ستحتاج إلى تجديد المباحثات غير المتوقعة.
ولا يستبعد أن التصعيد المذكور ظهر لإحساسها بخسارتها لبعض من مصالحها في الشرق الأوسط، إلى جانب استراتيجية الحزب الديمقراطي مع الناخبين الأمريكيين، وهي بأنهم لا يزالون يحافظون على هيبة الإمبراطورية الأمريكية، وخداع المواطن الأمريكي وأغلبيتهم يملكون شعور إنساني، وروسيا من جانبها تدفع بأمريكا للتصعيد، لإثارة القضية الأوكرانية، ومواجهة توسع الناتو، وضمهما كمعادلة متكاملة إلى المباحثات، ودمج القضايا بشكل مباشر مع الحصار الاقتصادي الأوروبي الأمريكي على روسيا رغم أنها تهددهم بحصار مماثل، وخاصة على الدول الأوروبية من خلال غازها الممول لأكثر من ربع استهلاكهم العام.
وبما أن سوريا من أحد أهم المناطق التي تندرج ضمن المناطق المتفقة والمختلفة عليها، فالمحادثات لن تنقطع، وهي في عمقها ليست على ما يجب أن تؤول إليه سوريا القادمة بقدر ما يتباحثون فيها على مصير المنظمات العسكرية المعارضة، وليست تلك التي لا خصام عليها بأنها من المنظمات الإرهابية بل التي تدرجها أمريكا ومعها السعودية وبعض الدول الأوروبية ضمن المعارضة المعتدلة، ولا يستبعد أن مصير الأسد متفقون عليه حتى ولو كانت روسيا تشدد على بقائه، لكن على الأغلب كمرحلة مؤقتة، والمحادثات في لوزان يوم السبت بتاريخ 15/10/2016م، وبتحضير الدول المعنية بالقضية، وغياب أصحاب القضية، سلطة بشار الأسد والمعارضة، والتي تبين بانهما لم يعد لهما أهمية، ووجودهما كعدمه، ولا يمثلان المجتمع السوري.
سوريا تنتقل بشكل أو آخر من الاستقلال إلى الانتداب، والمرحلة غير محددة، كمحدودية وجود القوى الخارجية، ومتى ما بدءا أصحابها مرحلة التنفيذ على المتفق وتثبيت الانتداب، فالوجود الإيراني ومثله التركي والمنظمات المتنوعة الأشكال ستنتهي أدوارهما، والتي هي ليست سوى أدوات ضمن لعبة مصالح الإمبراطوريتين. أما النتيجة الكارثية، شبه العدمية بالنسبة للشعوب السورية دون القوى المتصارعة على السلطة، تتفاقم كلما تزايدت أعداد القوى ضمن سوريا، لذا على الجميع تقبل ما سيفرضانه على سوريا بأسرع ما يمكن، وفي الواقع الشعوب السورية هي الوحيدة التي تعاني وتتدمر، خاصة وأن عمليات القضاء على المنظمات المنسقة في السجل الروسي كإرهابيين، إلى جانب النصرة وداعش، مفروغة منها، وعلى الأغلب ستعود حلب بكليتها إلى أحضان السلطة حتى ولو كانت أنقاضاً، وستستمر روسيا بالقصف والتدمير، وأمريكا ستصعد من لهجتها، إلى أن تنتهي المقاومة، أو تتم وضع حل لها وإخراجها من حلب، مثل غيرها من المناطق، وبموافقة أمريكية ضمنية، وتركية والسعودية اللتان اجتاحا الحدود السورية فقط لتقطيع المنطقة الكردية الفيدرالية عن بعضها، وهم صامتون أمام ما تفعله الطائرات الروسية وسلطة بشار الأسد بحلب وريفها!.
المسرحية ستنتهي عندما يأتون على أخر المنظمات المواجهة للسلطة، ولا نعني فقط التكفيرية، بل البقية الباقية من المعارضة الوطنية التي تعكس مفاهيم الثورة، وحينها سيذوب التكفيريون وفي مقدمتهم داعش والنصرة، فالذين صنعوهم سيزيلونهم، وبعد حلب سيتم الاتفاق على وقف إطلاق النار، ومن ثم إيصال المساعدات الإنسانية، ليغطوا الكارثة بالعاطفة والحنان الإنساني! وسيبدأ الانتداب، وسيتم تشكيل حكومة وطنية، شكلية بإدراج بعض الوزراء في حكومة بشار الأسد، تحت صفة مشاركة المعارضة، ومؤتمر لوزان الجاري ولندن القادم، وقد يلحقهما مؤتمرات ومشاورات أخرى متسارعة، لدراسة الجزئيات، ولا يستبعد بعد بداية الانتداب عزل قاتل سوريا، بشار الأسد، والبعض من شريحته المجرمة، وإخراجهم منها بدون محاكمة، وهو احتمال ضعيف لكنه مطروح ولا اعتراض روسي جدي عليه. وقريباً ستدلى الستارة على الكارثة البشرية السورية، لتبدأ الدعاية الإعلامية حول المساعدات الإنسانية التي ستقدمها الدول الكبرى للشعوب السورية، ليغطوا بها وجوههم الإجرامية الشريرة، بقناع النفاق، والطرق أخبث من عملية التدمير ذاتها.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
14/10/2016م