ابراهيم محمود
1-داعش قبل مائة عام
الإسلام بريء من داعش، أو: داعش جسم غريب على الإسلام! مقولة باتت مستهلَكة عند البعض، أو حتى الكثير من المعنيين بالموضوع، ومن كُردنا بالذات، لطغيان الديني على عالمهم وفي مستويات مختلفة، وربما لم يجد المأخوذ بالإسلام كدين وتوجه عقيدي في الحياة نفسه محرجاً كما هو اليوم. فداعش ليس نباتاً اصطناعياً، إنما له أصول تاريخية، مهما حاولنا الفصل بين داعش كتنظيم يمثّل أقصى درجات الإرهاب في الإسلام العملي حتى الآن، والإسلام كدين.
ومن المؤسف أن الذين يتحسسون من إثارة أي موضوع ديني، وفيه صلة بالعنف أو القتل، أو التمثيل بجثث الأعداء، وبين المسلمين أنفسهم، وحين يكون الدين رأس حرب المسلم ضد ” أخيه ” المسلم، أو يحوَّل الإسلام إلى علامة قومية متطرفة ” شنيعة ” ضد قومية الآخر بدعوى تطهيره من ” لوثته ” القومية، كحال الكرد، يطيحون بتاريخ الصراعات الدامية بين عتاة المسلمين على امتداد تاريخهم، كما لو أن الذي ورد في أدبيات تاريخية ” للطبري، اليعقوبي، المسعودي، ابن الأثير، ابن كثير…الخ “، وعلى أرضية التذابح المذهبي حتى اللحظة بالمقابل، خرافات تاريخية، كأن اعتبار داعش ” بمحكومية معينة “، يعني إقصاءه من كل رابط ديني، في الوقت الذي نجد أعداداً هائلة تمثّل سلوكيات داعشية وباسم الإسلام، وسواها تدعمها وتكون منخرطة في لعبتها، طالما أنها تمضي ساكتة، كما في غزوه الهمجي على شنكّال أو إقليم كردستان العراق ، وروجآفا بصورة رئيسة، وفي ذلك تعتيم على حقيقة تاريخ داعش ولادة وصلات قرابة وعلاقات بالدين.
من المؤسف أنهم لا ينظرون إلى الإسلام،كيف بات أكثر من كونه حمّال عقائد متطاحنة ضمناً!
في كتاب : العراق في رسائل المس بيل1917-1926، طبعة مزيدة ومنقحة ترجمه وعلق عليه : جعفر الخياط، تقديم المؤرخ عبدالحميد العلوجي، الدار العربية للموسوعات،بيروت،ط1، 2003 ، أنقل الواقعة التالية، وهي مؤرَّخة بـ” 13 شباط 1921″، حول نقاش بين مجموعة متدينين” غريبة ” وهم متحلقون حول المائدة، وكما كتبت المس بيل داهية السياسة البريطانية ذات يوم( شكري رجل الآخرة العالم المسن ينصت إلى أحمد الثنيان وهو يصف له تقدم شأن الطائفة الوهابية، الأخوان، في نجد، ومحيي الدين السياسي الهادىء العالم… وأحمد بوجهه الطويل الغائر المنوّر بروحية الإسلام المتعصب الطاهرة. وكان أحمد يقول” إن الإمام حفظه الله يقود العشائر بعون الله إلى الطريق السوي”، فرد عليه شكري معلقاً بقوله” الحمد لله”- ثم استطرد أحمد يقول” إنهم يتعلمون الحكمة والدين وفقاً لقواعد الأخوّة “- شكري أفندي:” الله أكبر، عسى أن لا يكونوا قد أظهروا العنف “- أحمد أفندي: ” لا سمح الله، إن هذا يقع عندنا كما وقع في أوربة على عهد محاكم التفتيش ومع الكالفينيين- ” وأقول لكم بالمناسبة أن الأخوان يقتلون جميع الجرحى في الحرب، ويقتلون بعد ذلك نساء وأطفال العدو لأنهم كفار، وإلّا لما حاربوا الأخوان …” وقد دخل ضيوفي العرب الأربعة في مناقشة حادة بينهم. فبحثوا في الأدوية وخصائص الأعشاب، فأشار الدكتور بالمناسبة إلى أن البخور يُعد في مقدمة المواد المعتمة، ثم بحثوا في مناخ نجد وعاداتها، وفي شؤون مهمة أخرى. أما أنا والميجر أيدي فقد جلسنا نستمع، فشعرت كأننا أرواح متجردة يتكون منها الجمهور والمستمع للمحاضرة الشرقية ذات المواضيع المتعددة، ولم يؤخر حضورنا مطلقاً سير الحديث الذي تعوَّد متعلمو الشرق على خوضه فيما بينهم…ص 300.. ).
أحسب أن ما كان جارياً قبل قرابة قرن غير منفصل عما يجري اليوم، وأن ما كان يمارَس حينها، لم يكن منفصلاً عما كان سابقاً عليه، وما كان يمارس وقتذاك، لم يكن مقطوع الجذور بما كان قبله… وهكذا دواليك.
ما الذي يخيفنا من قول الحقيقة؟ وككرد قبل كل شيء، ربما هو الخوف من مواجهة الحقيقة والتي تضع المعترف بها في الحالة هذه في مواجهة نفسه، في مواجهة تاريخ طويل، يعتبَر الكثير مما دوّن فيه على مستوى السلوكيات الدينية: الإسلامية جناية على الحقيقة بالذات، وذلك يبعدنا عن دراسة نفسية المندفع تحت تأثير جاذبية الدين العمياء، وذروتها في الأعمال الانتحارية وعلام تقوم من منظور تربوي وسيكولوجي مدروس ومنظَّم هنا.
وكأن الاعتراف بالحقيقة هذه انسلاخ من الإسلام كدين دون رجعة، وما في ذلك من وهم الكُلّية!
في كتاب فرهاد خسرو خافار: شهداء الله الجدد في سوسيولوجيا العمليات الانتحارية ، ترجمة: جهيدة لاوند، معهد الدراسات الاستراتيجية، دار المدى، دمشق، ط1، 2007، وهو مفكر فارسي ومقيم في فرنسا، وله مؤلفات قيّمة في هذا المضمار، وبالفرنسية، ثمة فائدة كبيرة في إضاءة هذه العلاقة/ الجانب، كما في تناوله لمفهوم الشهيد في الإسلام، من ذلك ( يحمل الشهيد في ذاته علاقة معقدة تربطه بالمطلق، عندما يجازف بحياته بهدف تحقيق مشروع مقدس.ص239…وكذلك: إن الشهادة ليست مرضاً خلقياً أو طفولياً يعانيه الإسلام، بل وسيلة للارتقاء بالكرامة في أوضاع تكون فيها هذه الكرامة ممنوعة على المسلمين، وهي وسيلة للتنصل من المصاعب وتغييبها عبرالهروب نحو الموت، مع عزاء ضعيف وخطير يكمن في جر الأعداء والذات إلى هذا الموت.ص 365.).
بإيجاز شديد: إن وصول أحدهم إلى مرتبة الجهادي وهو مهيَّأ لأن يمثّل في جسد الآخر” المسلم بالذات “، يعادل استعداده لأن يموت في أي لحظة، لأن الشهادة مثمنة في ذهنه ونفسه، كما هي بنية الدورة المكثَّفة التي يخضع لها حيث تلتقي فيها السماء بالأرض، وبقدر ما يكون تمثيله بـ” أعدائه ” يكون نيله للثواب ومقامه عالياً في الجنَّة المصوَّرة له.
ثمة الكثير من المسلمين” مسلمينا ” ومن كردنا المتأسلمين بالذات، يقطعون جسر الاتصال بين داعش والإسلام، ليس لأنهم يكرهون داعش في الصميم، إنما – ربما- لأنهم في قرارة أنفسهم يرون أن هؤلاء الدواعش قد يسدّون طريق توجههم إلى الجنة التي يحلمون بها، وحينها قد يحرَمون من الحور الأربعين، والأنهار التي هي من خمر، وسواها من أطايب الفردوس.
دهوك- في 15 تشرين الأول 2016