دهام حسن
سأتناول في هذا المقال وجهتي نظر لكل من فرانسيس فوكوياما الباحث الأمريكي المعروف من أصل ياباني والدكتور سمير أمين الاقتصادي المصري الماركسي الأبرز، الأول يقول بمسألة ديمومة الليبرالية الرأسمالية واعتبارها (نهاية التاريخ) وبالتالي عدم إمكانية تجاوزها، والثاني يرى أن الرأسمالية آخذة في التآكل والتهالك، وبدأت تستنفد فرص صعودها ولا بد لها من نهابة ولسوف يتجاوزها الزمن كسائر التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة لها..
لكل من فوكوياما وسمير أمين حججه (الوجيهة)، وقد حاولت من جانبي أن أقف بإيجاز على أفكارهما أستمزجها لأخرج بالتالي بصياغة هذه المقالة، دون أن ألتزم جانب الحياد، تناسقا مع خلفيتي المعرفية، كوني ذا ثقافة ماركسية، لهذا فجاءت مقالتي بلغتي تعبيرا عما تراودني من أفكار على ضوء قناعاتي، ودون أن أكون ناقلا عنهما فحسب…
إن الأمر الذي حدا فرانسيس فوكوياما للخروج بكتابه هذا (نهاية التاريخ) هو رصده للأيديولوجيات التاريخية وأفولها من جانب، كالملكية الوراثية عبر التاريخ، رغم بقاء بعض الرموز الملكية التي لا تعبر عن سطوة الملوك تاريخيا، فهي اليوم وجاهة وملك أكثر مما هي سلطة وسطوة كما كانت في الماضي، ثم كان سقوط الفاشية بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وأخيرا جاء تداعي الأنظمة الشيوعية الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي في الربع الأخير من القرن العشرين؛ واستقرار الحال بالنظم التي اتبعت الليبرالية في الحكم سياسيا واقتصاديا، هذا التصوّر الذي خرج به فوكوياما، هو الذي دفعه ليخرج أولا بمقالة بعنوان يحمل صيغة تساؤل لم يستقر عليه رأي فوكوياما، أو لم يؤكده بداية، السؤال جاء بعد ملاحظاته لوقائع التاريخ هو: (هل هي نهاية التاريخ.؟)، ليطلع علينا بعد ذلك بكتابه (نهاية التاريخ) في الوقت الذي كان يرى فوكوياما بالمقابل، من أن الأنظمة التي اتخذت (الديمقراطية الليبرالية) كمذهب أيديولوجي، هي التي استطاعت المحافظة على وجودها وتواصلها مع التاريخ وهي بررت أنها النظم الأنسب والأمثل، بل هي الحالة النهائية لأنظمة الحكم القادرة على التلاؤم والتواصل مع حركة التاريخ، وبالتالي، فهي النظم الأقدر على البقاء، أي بعبارة لفوكوياما هي (نهاية التاريخ) ولن يتجاوزها الزمن..
لكن فوكوياما لم يغفل عن عيوب بعض هذه الأنظمة تاريخيا التي اتبعت نظام (الليبرالية الديمقراطية) فقد عانت هي الأخرى أيضا بعض الصعوبات، لكن رغم ذلك يمكن اعتمادها، أما الأيديولوجيات الأخرى التي أتينا قبل قليل على ذكرها فقد دشّن القرن العشرون نهاياتها، فأخذت ترتد إلى أنظمة بدائية كالحكومات الدينية من جانب (أيران، أفغانستان، باكستان، السودان، إلخ..) والعسكرية الأمنية من جانب آخر، وقد شملت غالبية بلدان العالم الثالث، لهذا فتبقى الليبرالية الديمقراطية اليوم بمنظور العديدين هي أيديولوجية المستقبل دون منافس في الوقت الراهن وحتى في المدى المنظور..
فوكوياما يرى أيضا أن كلا من هيغل وماركس كانا يريان نهاية العالم، كل واحد منهما بمنظوره الخاص، فعند هيغل كانت الليبرالية هي المنتهى، وعند ماركس الشيوعية هي نهاية العالم ، لكن علينا أن ننوه أن ماركس لم يقرّ بمقولة (نهاية العالم) في التشكيلة الشيوعية، بل اعتبرها التشكيلة الأخيرة في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية، لكنه لم يقل أن التاريخ يتوقف عند الشيوعية، فقد رأى أن الصراع التناحري الحاد تخفّ وطأته في التشكيلة الشيوعية، فتبقى التناقضات التي تحلّ في سياق التاريخ ضمن التشكيلة نفسها دون توقف، ولسوف تتطور وتتبدل وتنتقل إلى شكل اجتماعي أرقى لا يمكن بيان وصفه بالدقة، لأن الإبانة والتفصيل في ذلك والحكم عليه هو مهمة الناس الذين يعيشون تلك الحقبة، فالتاريخ يعلمنا أن كل نظام اجتماعي هو تاريخي، أي أنه يبدأ في حقبة زمنية ما، ولا بد له بالتالي أن ينتهي في حقبة زمنية أخرى، ليتمخض بالتالي عن نظام جديد آخر، فالتشكيلة الرأسمالية لا تشذّ عن هذه القاعدة، فقد عاشت عمرها، واستنفدت فرص بقائها، فهي لا بد أن تفسح الطريق أمام تشكيلة جديدة خلفا لها، وأفضل منها، ستعقبها في الظهور على مسرح التاريخ وهكذا دون توقف..
إن فوكوياما لم ينف روح التشاؤم حتى عند الأنظمة الديمقراطية في الغرب، لكنه يرى أن السوق الحرة، أو المبادئ الليبرالية في الاقتصاد قد ساعدت في تنمية وتطوير بعض البلدان، وخلق قدرا من الرخاء فيها، في حين فشلت الأنظمة الشمولية في أوربا الشرقية عن تحقيق ذلك، وكان هذا (عدم التنمية، والنظام الشمولي) من الأسباب القوية التي ساهمت في انهيار تلك النظم غير المأسوف عليها…
يرى فوكوياما أن اليسار الشمولي، أو ما عرف باليسار الشيوعي واليمين الاستبدادي كليهما عاجز عن ترسيخ التلاحم الوطني وتثبيت الحالة السياسية، والنموذجان كلاهما يفتقر إلى سلطة شرعية، وبالتالي لا يمكن مقارنتهما بأنظمة ديمقراطية من حيث النجاح في تحقيق النمو الاقتصادي، وفي التنمية البشرية، فاليسار كما لاحظنا انتهى إلى الديكتاتورية لإخضاع المجتمع والسيطرة عليه، وبالمقابل فقد ظهرت على الساحة قوى سياسية جديدة تشبثت بالأفكار الليبرالية، لاسيما في العالم الثالث إثر فشل المشاريع القومية أو الدينية أو اليسارية، أو ظهورها كقوى راديكالية فشلت في مشاريعها في النهضة والتنمية والديمقراطية، في الوقت الذي اضطر اليمين الاستبدادي فسح الطريق أمام الديمقراطية مرغما، أما اليسار الشيوعي فهو شاء أم أبى ومهما تلبس بلباس الديكتاتورية، في طريقه للتحول إلى أنظمة ديمقراطية، وبعضها على مرأى ومسمع منا، هذا هو مسار حركة التاريخ التصاعدية وبشكل حلزوني إن أردت الدقة لكن دونما توقف..
-2-
في لجّة الهجوم على الشيوعية، والنظم الاشتراكية، يبرز سمير أمين ليقول : (أنا لا أزال كاشتراكي وشيوعي أؤمن بحتمية التغيير الكيفي في الواقع الرأسمالي نحو بديل اشتراكي) ويرى أيضا أن الرأسمالية فصلت مجال السياسة عن مجال الاقتصاد، وأن المجال الأخير محكوم بقوانين وقيم أخرى مختلفة عن الواقع السياسي كالملكية الفردية وحرية التنافس، وهذه القيم والمبادئ تعمل بشكل مستقل عن مبادئ وقيم الديمقراطية في مجال السياسة، فالرأسمالية تفصل المجالين عن بعضهما، وأيضا إذا كانت الليبرالية كما يرى سمير أمين قد وعدت بالازدهار والسلام والديمقراطية دون أن يتحقق ذلك، فإن كثيرين قد وقعوا في فخ هذا الوعد الوهم، والتحق بركبهم كثير من اليسار، لكن سرعان ما تبدد هذا الوهم ليخلف الواقع الراهن مزيدا من التراكم الرأسمالي لدى حفنة قليلة من البشر، هذه الحفنة استطاعت أن تفرض نفسها كقوة موضوعية للسيطرة على مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، مما زاد في تدهور الأوضاع الاجتماعية لأكثرية شعوب العالم والطبقات الكادحة، وفقدان فرص العمل، وكانت عسكرة النظام العالمي لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقبله انكفاء الماوية، والأزمة الاقتصادية المالية (الراهنة) التي عصفت بمؤسسات النظم الرأسمالية في عقر دارها، كل هذا راح يبدد آمال الليبراليين وأحلامهم بدوام الازدهار..
إن التاريخ لا بد له أن يتجاوز الرأسمالية كنظام أو كتشكيلة اجتماعية اقتصادية، وبأن الرأسمالية كما يقول منظروها بتعبير سمير أمين: ( “ليست سوى فاصلة في التاريخ لا نهاية له” لكنّ سمير أمين يرى أنه لابد من “تجاوزها بنظام يضع حدا للاستقطاب والاستلاب الاقتصادي” وإلا “فستقود إلى التدمير الذاتي للإنسانية”).. والنظام البديل الذي يعقب النظام الرأسمالي والذي سماه ماركس بالنظام الشيوعي، أو فليسمه القارئ ما يشاء، يرى سمير أمين أن هذا النظام الشيوعي لا يمكن تشخيصه بالتعريف الدقيق إلا تحت عناوين كبيرة كنحو تحرير الإنسان من الاستلاب الاقتصادي للرأسمالية أو استتباب العدالة والمساواة بين بني البشر.. فالدقة في التحديد والتشخيص هو مهمة الجيل الذي يعيش تلك المرحلة، كما ذكرنا آنفا، لأن الشيوعية ستبقى مشروعا مستقبليا لا يتشكل إلا ضمن حركة المجتمع وبالصورة التي لا يستطيع أحد أن يتكهن بصورة المبنى الشيوعي بتفاصيله، فذلك مهمة الجيل الذي يعيش تلك التجربة كما أسلفنا..
في سياق انتقاده للنظام السوفييتي، نعت سمير أمين النظام السوفييتي بأنه يسعى لبناء دولة رأسمالية أو بتعبير آخر بناء(رأسمالية دون رأسماليين) وأن الماركسية التاريخية هي التي شرّعت لهذا الشكل من البناء في التخطيط الممركز، وكان الإخفاق هو المآل لهكذا تخطيط من أي بناء أو نظام، وكان المطاف الأخير للنظام السوفييتي كما يرى سمير أمين، وهو ما حصل، العودة إلى الشكل الكلاسيكي للرأسمالية أي (رأسمالية برأسماليين).. حتى أن جون ماينردكينز أشهر عالم ليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى بعد وفاته، فقد بقيت وصفته معتمدة حتى نهاية الستينيات..
وجّه كينز نقده لليبرالية، نسخة الغرب للرأسمالية، لكن علينا أن نعترف من أن الرأسمالية الليبرالية تغدو متوحشة ما دامت القوى الاجتماعية عاجزة عن لجمها أو تهذيبها، أو إرغامها قليلا أو كثيرا للخضوع لمتطلبات القوى الاجتماعية المناوئة لليبرالية، كما تتجلّى ملامحها المتوحشة اليوم والتي اقترنت بتسمية النيوليبرالية أي الليبرالية الجديدة، ومحاولتها التخلي عن كثير من الالتزامات التي تسنها قوانين البلد المعني والتي انتزعتها الطبقات الدنيا المكافحة، من تأمينات عديدة كالضمان الصحي عند المرض أو لدى العجز والبطالة.. ومن المعلوم أن الليبرالية ضد التظاهرات المطالبة بتحسين ظروف العمل أو زيادة الرواتب، كما أنها مع احتكار الموارد، واستقدام العمالة من الخارج لمنافسة الأيدي العاملة في الداخل، جراء الأجور المنخفضة، ونقل مؤسساتها حيث الأيدي العاملة الرخيصة دون اعتبار لبلد المنشأ، وينبغي ألا ننسى أخيرا أنها ضد النقابات العمالية وسواها من المؤسسات المطلبية، وضد فرض الضرائب على الشركات الرأسمالية العليا، وقبل كل هذا ضد تدخل الدولة بالمطلق بالسوق الرأسمالية، ربما جاء التدخل لحماية بعض الحقوق المنتزعة عبر تاريخ من النضال والاستبسال..
إن الأزمة التي تشهدها الرأسمالية اليوم، كما يراها سمير أمين هي أزمة بنيوية تلازم هيكلية النظام الرأسمالي وليست أزمة طارئة مؤقتة انتقالية لا تلبث أن تتجاوزها النظم الرأسمالية، فبحسب ما يقوله سمير أمين فإن الأزمة البنيوية هذه ستؤدي في النهاية إلى هلاك الرأسمالية حتما، لهذا فلا بد من انتهاج طريق طويل ومضن من الانتقالات غير الممهدة نحو الاشتراكية، لا كشكل من البناء مصوّره في أذهاننا حتى لا نقع في خطأ التجربة السابقة ولو نظريا، وإن الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية بوجه خاص تمهّد لعلاقات متطورة جديدة، ولم يعد الاستلاب الاقتصادي بسهولته كما في الماضي..
نخلص إلى القول في آخر المطاف.. أن لا نظام سياسيا واقتصاديا في العالم بخالد، فلا في التشكيلة العبودية كتب للسادة البقاء، ولا الإقطاعية رغم سطوتها استطاعت أن تحول دون أفولها، ولا الرأسمالية بقادرة أن تحافظ على ديمومتها، ولا حتى التشكيلة الشيوعية في درء من سنـّة التطور والتغيير نحو الخط التاريخي التصاعدي دائما وأبدا، وبالتالي فالرأسمالية ستفنى حتما على قاعدة أو مقولة (نفي النفي) وستعقبها تشكيلة اجتماعية أخرى، وبالتالي فهي ليست نهاية العالم، ليست نهاية التاريخ…!