محمد قاسم “ابن الجزيرة ”
الجمعة 19/6/1981
تحت شجرة تين عجوز انكمشت أوراقها، وتقلصت أغصانها بفعل الأيدي العابثة التي تناولتها، إضافة إلى عوامل الزمن. جلست متوجها نحو الجنوب، ساعدني علو المكان الذي جلست فيه على رؤية مسافات بعيدة.
أرض يابسة تظهر فيها الحجارة السوداء، ومساحات من الأعشاب اليابسة البيضاء …
يبدو أمامي -مع ميل خفيف نحو اليمين-جبل السماقيات على مسافة لا تتجاوز ثمانمائة مترا، تقديرا. تلٌّ قمته في أقصى اليسار، ثم يميل ميلا سريعا، ويخف الميل من القمة إلى اليمين. وإذا شئنا أن نعبر عن ذلك بلغة هندسية، واعتبرنا نقطة القمة. فإن المستقيم الممتد منها نحو اليمين، والماس لسطح امتداد التل، والمتقاطع مع المستقيم بسطح امتداد التل نحو الأسفل من اليسار… شكّلت معنا زاوية منفرجة تقدر بـ 120درجة.
يغطي الشجر الكثيف، السطح المقابل لنا (الشمال الغربي). ويبدو، أن خلوّ مساحة قليلة في الأعلى، مردّه إلى إزالة اصطناعية من قبل الإسرائيليين (بالمناسبة فان التل تحت سيطرة اليهود حتى منتصف السفح المقابل لنا).
يجاور التل من ناحية الغرب؛ تل العباسيات، الذي يشكل حلقة في سلسلة تلول تصل حتى نهاية جبل الشيخ الغربية.
أما عن طبيعة الأرض، فإنها تبدو كهضبة تنتهي غربا بالتلال، وتنحدر شرقا، بميل خفيف حينا، وكبير حينا آخر، ثم تظهر ارتفاعات تشكل تلاعا تتخلل سطح الهضبة المائلة عموما نحو الغرب… وكلما اتجهنا غربا ظهرت قساوة الحياة والطبيعية فيها أكثر، حيث الحجارة السوداء البركانية، وجفاف الأرض، وعدم صلاحيتها للزراعة.
من موقعي الذي يتوضّع في بداية القرية الشركسية المسماة (بريقه) أرى البيوت المتجاورة التي تبدو جميلة وصالحة -على الرغم من هجران اصحابها لها.
إنها مبنية من الحجار السوداء، ومغطاة بسطح قرميدي على طراز الأبنية الأوروبية في العصور الوسطى. والامر الذي لفت انتباهي ان واجهات الدور جميعا هي نحو الشرق. كما لاحظت أن العناية بالأبواب والشبابيك الكثيرة، كبيرة.
ولعل الأجمل كما رأيته، مشهد الأشجار التي تنتشر بين البيوتات المتجاورة، مشكلة لوحة جميلة، تتعانق فيها خضرة الأشجار بفروعها المتشعبة في عناق مع حمرة القرميد، أو زرقة الأحجار التي يظهرها تكحيل الاسمنت الأبيض مربعات؛ تتناغم مع معطيات الطبيعة. مشكلة جميعا، جمالا يزداد عمقا بمشاهدة المظهر الريفي. (المداخل والشوارع وحيوانات البيئة كالأبقار والخيول).
ما يزعج جدا، وينفذ إلى قلب الإحساس بهذا الجمال هو: مظهر الهجران الذي يتجلى في بيوت تهدّم فيها بعض جدرانها، أو تناثر بعض من قرميد أسطحها، أو انهار بعض جدرانها المبنية من الأحجار السوداء. خاصة تلك التي سيّجت الدور والحقول…أو كما يتجلى هذه المظهر المؤلم في المطحنة الوحيدة المعطلة. وهي على الطراز القديم.
أما ما ينعش النفس أحيانا، فهي نسمات عذبة تهب باستمرار، تنشط أحيانا، وتخف أحيانا. كان الوقت، منتصف النهار. وقد سألت زميلي-وهو شركسي من أبناء المنطقة-اسمه في البيت “قوموق أديب” لكنه في الجيش ” أديب صادق” عريف يمثل النقطة الطبية في السرية.
سألته عن الجو في الليل، فأخبرني بانه بارد. ثم توجهنا نحو القرية الشركسية الثانية والتي يقصدها الزائرون، وهي قرية” بئر العجم”.
عندما يجلس المرء على ” المصطبة ” كما تسمى، يقف تل الحارة في وجهه. المسافة تقدر بأقل من عشرة كيلومترات، ولكنها قد تزيد إذا حسبنا طبيعة الأرض المتعرجة، والتي تشكل انحناءات والتواءات، بسيطة نوعا، ضمن منخفض يتخذ شكل واد، حافته أرض قرية “بئر العجم” والمنطقة المجاورة لها، خاصة الامتداد في جهتي الشمال والجنوب منها. على السفح الشرقي من تل الذهب، تبدو قرية “بئر العجم” ببيوتاتها الحالمة…!
الطابع واحد للقريتين “بريقه” و “بئر العجم”.
البيوتات متناثرة ومتجاورة. مادة البناء فيها، الحجر الأسود المهذب والمربع…القرميد يغطي السطوح وفق نموذج بناء العصر الأوروبي الوسيط. اتجاه المداخل نحو الشرق عموما، وإن وجدت مداخل قليلة باتجاه مختلف.
ارتفاع جدران البناء واطئ، إذا ما قيس بارتفاع الجدران الأبنية الحاضرة، يقدر ب 5’2 م في حين ان ارتفاع قمة القرميد يصل إلى 5’3 مترا وأربعة في بعضها بدءا من الأرض.
الأزقة ضيقة وملتوية أحيانا، ذات طابع ريفي.
لاحظت بناء مؤلفا من طابقين، الطابق الأسفل يستخدم كإصطبل للحيوان، في حين يستخدم الأعلى للسكن. وهذه ظاهرة لاحظتها في محافظة طرطوس وقراها المتناثرة على الطريق الممتد من مصياف إلى طرطوس. وبدا لي أن هناك حركة بناء بطيئة، مادة البناء فيها الإسمنت والبلوك. وهذا ما حرمها عنصر الجمال في النموذج المغطى بالقرميد والبناء الحجري الأسود.
خضرة الأشجار الكثيفة ظاهرة طبيعية في سفوح التلال المحيطة، وفي ساحات القرية، وحول البيوت، منها شجرة “الكينا” بأعداد قليلة، وشجرات مثمرة كالتوت والتين والجوز والرمان. والملاحظ أن هذه الأشجار مجالها القرية فقط، ولا توجد شجرة الكرمة إطلاقا، وقد فسر لي “قوموق أديب” تخمينا، بأن مرد ذلك، ربما، بسبب أن الكرمة مصدر للخمور المحرمة دينيا، فالشركس شعب مسلم.
في الشمال الغربي مدرسة نموذجية
مصادر مياه القرية، ينبوعا ماء، عني ببناء جدرانهما وتسقيفهما. ومدّ من أحدهما أنبوب تحت الأرض مسافة عشرة أمتار. وقد بني لها حوض مستطيل، قليل العمق يصب فيه، ثم يخرج باتجاه المنحدر الشرقي، وهو جار دائما. أما الينبوع الآخر فيستخرج ماؤه بمضخة يدوية، وإلى جانبه كتلة من أشجار الكينا.
في القرية مسجد صغير، ولكنه جميل ومرتب. لفت انتباهي وجود خارطة ملونة على الجدار الغربي لفناء الجامع، تمثل بلدان العالم.
أهم موارد العيش هو: تربية الأبقار، والخيل، وقليل جدا من المزروعات؛ كالحّمص والعدس، وبعض القمح. وقد شاهدت قطيعا من البقر يتجاوز أفراده المئة والخمسون حسب تقديري.
كما شاهدت في عدة أماكن زوجا من الخيل مربوطا إلى أشجار محيطة بالبيوت.
وعندما توجهنا نحو قرية بريقه لاحظت بناء يحمل لائحة “اتحاد الفلاحين”.