دهام حسن
هل يحق لنا، أو يصح أن نقول: بتعددية ماركسية.؟ أي بمعنى آخر، هل هناك أكثر من ماركسية واحدة ؟.. للجواب لا بد لنا بداية من تعريف الماركسية، ومن ثمّ بيان مصادرها، وبالتالي التوافق عليها أو الاختلاف حولها.! وفي ضوء ذلك يكون التعليل والتقرير بالتعددية أو خلاف ذلك في الآخر …
علينا أن نقرّ أولا أن الماركسية علم ينتسب إلى العلوم الاجتماعية، وكونها علما، فهي لا تعرف الثبات، ومن سماتها بالتالي التغيير الحتمي على صعيد المجتمع البشري، فمثلا.. أي اكتشاف علمي جديد في ميدان ما، لا بد أن يضفي على الماركسية في ميدان البحث العلمي بعدا جديدا، بل نظرة علمية هي أقرب إلى الصواب والواقع المعيش للفترة الراهنة نفسها، الماركسية -أيضا- هي نظرية هي رؤية للعالم، ومنهج للتفكير لمعالجة الواقع الراهن، ودفعه للتغيير نحو الأفضل، لكن كل هذا ليس ممهدا بشكل مثالي، أي لا بد أخذ الظرف وطبيعة المجتمع بالحسبان، وأمور أخرى سنأتي عليها لاحقا..
ما أثرناه في مستهل مقالنا يمكن أن نتفق عليه، أو دون تباين يذكر فيما بيننا من اختلاف، أو حتى لو ظهرت تباينات في تعريف الماركسية، لكن الخلاف والاختلاف سيبدو جليا عند الإشارة إلى مصادر الماركسية، فهل الماركسية هي كل ما كتبه ماركس وإنجلز فحسب.؟ أم أن الماركسية فضلا عن كتابات الرجلين، فهي أيضا تشمل كتابات بليخانوف ولينين وستالين والمناشفة وغرامشي كاوتسكي وتولياتي وماوتسي تونغ وسواهم عديدون… وهنا لا بد أن يتوسع بون الخلاف، فلقد كانت المدرسة السوفييتية ممثلة بحزب لينين قد ادّعت بالصوابية المطلقة وبالتالي احتكار الماركسية.. أما الآخرون فكانوا إما منحرفين أو انتهازيين أو مرتدين..إلى آخرها من الوصفات أو الأوصاف التي كانت تضفيها المدرسة السوفييتية على الآخرين،.. لكن لن نقف عند المدرسة السوفييتية في هذه النقطة، لأننا لن نحقق أي تقدم، بيد أننا سنعود إلى نقطة الانطلاق وهي التعددية الماركسية..
ننوه هنا بأنه كان لابد من هذه المقدمة، فتعريف الماركسية والوقوف عند مصادرها والاتفاق أو الاختلاف حولها، كان ذلك ضروريّا كمدخل للحديث عن التعددية فيها…
علينا بداية أن لا ننسى أن الماركسية ولدت في أوربا، وأيضا جاء ميلادها في القرن التاسع عشر وهذا جدا مهم عند المناقشة، فقد جاءت الماركسية هذه عقب ثورات برجوازية عدة في القرن السابق له، منها ما حصل في كل من بريطانيا وأمريكا وفرنسا، لتتوج منطقيا بالتالي بالثورة الصناعية، وعندما نقول أن الماركسية ولدت في أوربا، لنميز بينها وبين القارات الأخرى من حيث درجة التطور، وعندما نحدد القرن التاسع عشر بميلاد الماركسية، تكمن غايتنا في الإشارة إلى الثورة الفكرية والتنوير والعقلانية السابقة والمواكبة لميلاد الماركسية، فضلا عن الثورة الصناعية، إذن فكيف لنا أن نساوي بين ماركسية ماركس في روسيا، أو في الصين، أو حتى في العالم العربي، بينها وبين ماركسية ماركس في أوربا الغربية المتطورة نسبيا..!؟ وهل يمكن لوصفة علاجية واحدة أن يصح تعاطيها لمختلف هذه الحالات.؟ وبتعبير آخر، هل يمكن لنا أن ننسخ الماركسية ابنة واقع يختلف عن واقعنا، ثم نسقطها بحرفيتها على واقعنا.؟
رفع ماركس وإنجلز الشعار الشهير (يا عمال العالم اتحدوا) فأخذنا هذا الشعار بحرفيته وأسقطناه على واقعنا المغاير، عندما كنا نعيش في مجتمع زراعي عشائري شبه إقطاعي، لا وجود للعمال فيه، أو في حالة جنينية في أحسن تقدير، علما أن لينين أدرك كنه المسألة، فأخذ واقع روسيا بالحسبان، وطعّم الشعار بعبارات أخرى ليصبح أخيرا ملائما لظروف روسيا آنذاك، فكان الشعار بصيغته الجديدة هو: (يا عمال العالم وياأيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا) ثم علينا أن لا نضفي على الماركسية هالة من القداسة كأصحاب العقائد الدينية، فالماركسية ليست عقيدة دينية، ولا ماركس بنبي معصوم، فالأخطاء سوف تظهر في كتاباته، وهو أشار إلى بعض مواطنها، فمثلا في الأيديولوجية الألمانية يشير كيف أن ماركس وإنجلز قد عرضا بعض ما كتباه (لقرض الفئران) دون أسف، للدلالة على أن ما كتباه إما بان خطؤها، أو تجاوزها الزمن، وفي إحدى طبعات (البيان الشيوعي) لماركس وإنجلز جاءا بمقدمة بعد صدور البيان بنحو ربع قرن، أشارا إلى أن البيان ظهر في ظروف تاريخية معينة وأن بعضا من فقراته قد شاخت، حتى أننا وجدنا مثل هذا المسلك عند بعض أئمة الإسلام المتنورين في قولهم: تتغير الأحكام بتغير الأزمان، وهذا دليل على تاريخية النص، التي تمسك بها ماركس أو تميزت بها الماركسية، أي جاء النص في واقع وتاريخ محدد، ويجب الاستئناس به بالتالي على هذا الأساس، لا أخذه على أنه صالح لكل زمان ومكان..
لم يعد اليوم شعار ماركس وإنجلز أو مقولتهما (ديكتاتورية البروليتاريا) محبذا، فقد رفعته كثير من الأحزاب الشيوعية عن برامجها، فكما في القرآن فيه منسوخ كذلك يوجد مثله في الماركسية، لذلك فمن الخطأ اعتبار ما قاله ماركس بمثابة (الإكسير) المعالج لكل أدواء المجتمع، هذا ضرب من السلفية والتقديس، يمكن اعتبارها مرشدا ودليل عمل، وأنها بحاجة دوما إلى إضفاء وتجديد، تجود بهما قريحة العلم الذي لا يعرف السكون أبدا، كما ينبغي عدم أخذ المقولات العلمية لماركس في النطاق الاجتماعي، كما في العلوم الطبيعية، بشكل حسابي حرفي كمعادلة (1+1=2) علينا أخذ الزمن والمكان والمجتمع ودرجة تخلفه أو مستوى تطوره ونضجه كلها وسواها بالحسبان، ومدى استجابة المجتمع لكل هذا، لذلك ينبغي علينا ألا نحمّل الماركسية أكثر مما تحتمل، فهذا يشابه إلى حد بعيد ما ينادي به الإسلامويون في كفاحهم السياسي بالأمس واليوم: (الإسلام هو الحل)..
من المعلوم إن المادية كفلسفة، هي قديمة، حيث وجدت النزعات المادية عند فلاسفة الإغريق، وتكمن عبقرية ماركس أنه قام بنقل المادية كفكرة من مجال العلوم الطبيعية إلى ميدان المجتمع، لكن علينا التنبه، من أن ما يتحقق صارما في الطبيعة قد لا يتحقق بهذه الصرامة في المجتمع، فمثلا التغيرات الكيفية تنجم عن التراكمات الكمية بشكل أكيد وصارم في العلوم الطبيعية، لكن ذلك قد لا يتحقق في المجتمع بهذه الصرامة، وحري بنا أن نستشهد بما يقوله إنجلز بهذا الخصوص: ( لا يمكن فرض قوانين الديالكتيك على الطبيعة، بل يمكن اكتشاف قوانين الديالكتيك واستنباطها منها) ثم يمكن القول إن ما يتحقق في مجتمع ما، قد لا يتحقق في مجتمع آخر، لأسباب عديدة ربما توقفت لمدى استجابة حركة الجماهير لهذه المقولة، أو لهذا القانون، ودرجة نضجها، كما لا تتوقف على رغبات القادة، لأن التغيير من صنع الشعوب، ولا يتوقف لا على رغبة أو إرادة النخبة، أو جهد أفراد قليلين مهما أوتوا من فطنة وذكاء، لهذا لسنا مع مقول قائل: لو أتيح قائد (عبقري) لتغيرت المعادلة، دون أن نغمط الأفراد حقهم في فترات من التاريخ وهذا موضوع آخر، فالواقع يؤكد لنا التطور للخط الحلزوني في التاريخ، لكن ما وقعنا فيه من خطأ في التصور هو أن ما يمكن تحققه في أوربا، لا بد أن يتحقق في آسيا مثلا.. فلم ننتبه لا إلى اختلاف الواقعين، في أكثر من صعيد، فقمنا بليّ عنق القانون في قياس مختلف، دون أخذ الزمان والمكان والآليات والظروف بالحسبان، إذن لا بد من توفر مناخات مؤاتية لردود الأفعال وطبيعة الزمان والمكان، فالتغيرات الاجتماعية لا تتماثل لا بالقدر ولا بالقدرة نفسها، فالمجتمعات تختلف فيما بينها، وتتناقض في المصالح، وتختلف في التطلعات، لذلك فسرعة التحول تختلف من مجتمع إلى آخر..
إن القانون العام للحركة التصاعدية عموما لا ينفي أن لكل واقع خصوصيته، ينفرد بها، ودون شك سيأتي التفاعل والاستجابة مصطبغا بهذا الاختلاف، رغم هذا فنجد كثيرا من السياسيين يتحايلون على النص ويخضعونه للتأويل بما يتلاءم مع مصالحهم، أو ربما هم تكيّفوا مع الواقع الجديد، فقاموا بنثر تبريرات تسوّغ لهم ما هم قائمون عليه من مواقع أو مواقف، وبما يتلاءم مع ما هم يضمرون حتى لو كان هذا يخالف قناعاتهم، فهم بالتالي أسيرو مواقعهم بل قل مصالحهم، حذرون للحفاظ على ما حققوه من مكاسب أو بسبب الخوف الذي استبدّ بهم جراء كلّ ذلك ، يقول ماركس: (إن أول شرط من شروط التعاطي مع الفلسفة، هو وجود عقل حر لا يهاب) وهذا ما يجب التنبه له..
وفي الختام علينا أن لا ننسى، أن الماركسية هي بمثابة عدد من المقولات التي تؤسس كقوانين، ، تحدد حركة وتحول المجتمعات، هي كبوصلة يهتدي بها الطامحون للتغيير، أي للتحولات الاجتماعية، لكن تبقى الحركة والتحول رهن الواقع المعيش، وأحوال الناس والمجتمع والزمان، فما ينطبق على مجتمع قد لا ينطبق على مجتمع آخر..لهذا نقول أيضا أن الماركسية إذا كان النبع هو ماركس وإنجلز، فإن الماركسيين سيختلفون في ذلك، وسوف يضيفون أسماء عديدة ذكرنا بعضها في سياق مقالنا هذا وما لم نذكرها، ولا بد أن يختلفوا في تطبيقها وتأويلها، هذا مما لا شك فيه، لهذا نتجرأ أن نقول هناك أكثر من مدرسة ماركسية، فالمدرسة السوفييتية تختلف عن المدرسة الصينية وهذه تختلف عن الأوربية.. هذا من حيث النظرية والأفكار، فضلا عن الواقع والمكان والظروف.. ويحلو لنا أن نستشهد أخيرا وليس آخرا بالمقولة الماركسية الشهيرة التي تقول: (التحليل الملموس للواقع الملموس)..! أجل هذه هي روح الماركسية المتجددة دائما وأبدا…!