دهام حسن
تتميز غالبا سياسات الدول بالثبات، والاستقرار الظاهري، فالقائمون على السلطة، عادة لا يرغبون في التجديد أو الإصلاح أو التغيير، حرصا منهم على مواقعهم، فقد يتمخض عن التغيير إشكالات لم تكن في حسبانهم وهم – بالتالي – بغنى عنها، وبسبب هذه الخشية، فهم يجندون ويستنفرون لمهمة المراقبة والإيهام سلكي الأمن والإعلام، يجمعان بين القمع من جانب، والتضليل من جانب آخر، فهؤلاء السلطويون يطالبون بسور الصين حسب تعبير لينين من أجل صيانة مصالحهم.. إننا نشهد اليوم أن مفردة الإصلاح دخلت العالم العربي كمصطلح يحمل معاني عديدة، فالإصلاح هو في نهاية الأمر دعوة للديمقراطية والحداثة، دعوة للعدالة الاجتماعية والمساواة، دعوة للإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فمن يقفل على نفسه باب الإصلاح سوف يزاح به إن لم يتنح هو، ولسوف يتحقق ذلك لكن قد يأتي هذا بعد أن كبّد السلطويون البلاد شرّ البلاء وأنهكوا العباد..
علينا أن نعي دعوات الإصلاح وما يحمل من عناوين أتينا على بعضها الآن، لاسيما الديمقراطية، هي في حقيقة الأمر طرح لمسألة السلطة، أي من يحكم، فهل هؤلاء السلطويون مستعدون للقبول مبدئيا بلعبة الديمقراطية.؟ أي الحكم من خلال ما تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج تخوّل هذا الطرف أو ذاك بالحكم. هذه هي المسألة الأساسية في سياسات الدول عامة..
إذا كانت المطالبة بالإصلاح والتغيير من لدن الأنظمة، فإن الأنظمة التي تعد بالديمقراطية مثلا بالكلام.. سرعان ما تتراجع عنها، إذا ما رأت أن سلطتها مهددة، وتخشى من الديمقراطية عندما تتجذّر في بنية أي نظام فتصبح الحالة ثابتة كقانون عام من الصعب العودة عنها، كما علينا أن نعي أن كثيرا من الحركات السياسية طالبت وتطالب بالإصلاح والتغيير لكن بعدما تؤول السلطة إليها، تراها لا تختلف عن القوى المقصى بها، من حيث التنكر لكثير من المبادئ التي نادت بها ، فتلجأ إلى ممارسة صنوف من القمع والقهر ضد من أولاها الثقة ومحضها التأييد، وأوصلها إلى سدّة الحكم… بعض النظم تنصلا من دعوات الإصلاح والتغيير، تتذرع مرة بخصوصية طابع البلد، ومرة أخرى بالظروف الخاصة، أو التذرع بالإصلاح التدريجي، فتلجأ لبعض الإجراءات الخادعة كـ(بروفة) لكن سرعان ما تتراجع عنها السلطة ليتبدد مشروع الإصلاح كسحابة صيف، فتدعو لترحيل الموضوع إلى ظرف آخر، وهذا الظرف لن يأتي طبعا..! مثل هؤلاء لا يملكون إرادة الإصلاح، وإلا فما الذي يمنعهم من تحقيق ذلك، ولو بإجراءات أولية، كطمأنة وتأكيد للنوايا… إن نظرة متأنية إلى الواقع الإقليمي وحتى الدولي، وملاحظة هذه الدعوات الواسعة من النخب والجماهير معا للإصلاح والتغيير، تؤكد أن الإصلاح والتغيير طريق لابد من السير فيه، ولم تعد تشفع للحكومات الوصفات القديمة، هذه دولة تقدمية، أو يسارية، أو جمهورية، علينا أن نمحضها التأييد مثلا.. وتلك بالمقابل دولة رجعية، أو يمينية، أو ملكية.. علينا بالتالي تعريتها، الحقيقة لم تعد مثل هذه الوصفات السابقة مقنعة أو مرضية لإيهام الناس وتضليلهم، ولن يمر هذه المخادعة على الناس هكذا دون توقف وإعمال فكر, فأصبحت مواصفات أية دولة تصنف على طبيعة ممارستها للسلطة، وبأن السلطة منبثقة عن الشعب، وتستمد شرعيتها بالتالي من شعب البلد المعني، وعلى هذا الأساس يمكن أن ينظر العالم إلى أية دولة، ومن ثم يقيمونها، بمدى تمتع شعبها بالحرية، أو تعرضه للقمع والاستبداد يقول سبينوزا بهذا الصدد : (النظام الديمقراطي هو الذي يكفل للفرد أعظم قدر من الحرية) هكذا أصبحت تصنف الدول اليوم.. من أهم العوامل التي تدفع باتجاه التغيير، هو الوعي العام، والتقدم الثقافي والمعرفي، سعي النخب الفكرية والثقافية لبيان الحاجة والضرورة للإصلاح، وضمن هذا يأتي التذكير بمحاولات الرواد العرب في تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين في دفع بلدانهم نحو التغيير واللحاق مع الركب لمواكبة التطور، كما يجدر بنا أن نذكر بفشل الليبراليين العرب في مسعاهم بسبب الأرضية غير المؤاتية حينها في تثبيت وترسيخ الديمقراطية في البلد، لتنفرد بالواقع السياسي أو السلطة قوى راديكالية من قومية أو يسارية أو إسلامية، فضلا عن قوى إسلامية متشددة ذاتها قادت شعوبها في المنطقة إلى الهلاك، تجربة الطالبان في أفغانستان..
إن من مقتضيات الإصلاح الإقرار بمبدأ المواطنة التامة أولا، والمساواة أمام القانون، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين، هذا الأمر بالطبع يشرعن للتعددية الفكرية، بعيدا عن ممارسة القسر والإقصاء والعنف، وتوسل السبل السلمية للنضال، فلا داعي حينها أيضا لحالات الطوارئ، مهما تذرعت السلطة من مبررات، ولا حاجة لحالات المراقبة والملاحقة والاعتقالات الكيفية.. إن معوقات الإصلاح الداخلي في العالم العربي عديدة، منها التخلف التاريخي، البنية الهشة للدولة العربية، العقلية القبلية السائدة، ونموّ روح الطائفية، ضعف التجربة وحداثتها بالنسبة للنظم العربية وافتقارها للتراكم، النظر إلى الغرب كعدو محض فحسب..! دون محاولة الاستفادة من بعض تجاربه، التنكر لحقوق الأقليات وبالتالي إخراجها من خانة المساواة والمواطنة الحقيقية، فشل التنمية في سائر المجالات (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية).. الفشل في مجالات الدمقرطة والحداثة، عجز النخب من تعبئة الجماهير خلف عمليات الإصلاح والتغيير، أو ربما اشتداد النظم من ملاحقة النخب، أو حتى احتوائها، إما بالتضييق أو الإخافة والملاحقة، أو ببعض المغريات.. إن الدعوة اليوم بالإصلاح، تأتي استجابة للدعوات الوطنية التي تجسدها الطبقات المكافحة الكادحة في المجتمع، وتنظر لها النخب الفكرية، وتدعو لها الحركات السياسية، ولا بد أيضا من تعبئة شعب البلد المعني خلف الشعارات المنادية بالإصلاح، والإصلاح عموما يتناول جوانب عديدة مهمة في حياة الناس، وهو بالتالي يعني التغيير، يعني الديمقراطية والحداثة، يعني التعددية وحرية الإعلام، يعني حرية تشكيل الروابط السياسية، يعني التنمية، وهذه الحزمة من الإصلاحات سيفضي بالنتيجة إلى التغيير حتما.. أما كيف السبيل إلى الإصلاح.! ثمة فريق استبد به اليأس من الإصلاح الداخلي، فينظر إلى الخارج كمعين له على محنته، فيبرر التدخل الخارجي، ويدعو له، بعد أن فقد الأمل في محاولات التغيير من الداخل، فريق آخر يدعو إلى الإصلاح والتغيير من الداخل بمشيئة وطنية، لكنه لا ينفي المعونة السياسية والمعنوية من خلال الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني أو سواها من الخارج بحدود ما، وهذا العون من الخارج تحدده الظروف وواقع البلد المعني بالتغيير، والقوى الداخلية، وأيضا الظروف الدولية.. علينا أخيرا أن نقول إن الإصلاح حاجة وطنية ضرورية، ولا بد لنا من الإقرار بأهميته واعتباره الطريق الحتمي الذي ينبغي علينا سلوكه، وعلينا أن نجيش له كل الطاقات المتاحة، وأن النظم مهما تجاهلت المسألة، فهي ستخضع لإرادة شعوبها في آخر المطاف، أما طرائق التغيير فهذي تخضع للظروف، في الوقت الذي نحبذ التغيير السلمي وبمشيئة وطنية…