المرأة الكردية.. الهروب نحو المجهول.

بقلم: صبيحة خليل
قدّم الإعلام الغربي المرأة السورية لمجتمعاته كإحدى الحلقات الضعيفة في راهن الحرب الدائرة، على هيئة ضحية تنهض من تحت الأنقاض والركام، أو كلاجئة مقهورة تعبر الحدود والبحار. وصولاً إلى النيل منها بما عرف بموجة جهاد النكاح. متجاهلاً في الوقت نفسه باقي الأنماط الاخرى من النساء السوريات الثوريات. المعتقلات. المغتصبات. ناشطات الحراك السلمي وغيرهن . أما المرأة الكردية. السورية . تم تقديمها على نقيض آخر. مقاتلة شرسة. تقهر أعتى التنظيمات الإرهابية. متحررة ومنطلقة. لاتهاب وغى المعارك والساحات. 
من جانب آخر عملت الجماعات الراديكالية الاسلامية على إنعاش الرواسب التاريخية المقيتة، وعرضت النسوة الكرديات .الإيزيدات. اللواتي  تعرضن للسبي  كسلع رخيصة في أسواق و مزادات النخاسة ضمن المناطق التي سيطرت عليها.  أقل ما يقال عن تلك الصورة أنها وضعت العالم أمام فيلم شيق. منسوج بعناية درامية فائقة المعالجة. كسرت الملل و قشرت الروتين الغربي الفاخر، و ثبتت نظريات التوحش و لوثات الجنس المتخيلة حول الشرق. 
هل هي الصدفة التي قادت المرأة الكردية للعب الدورين معا؟ صورة المرأة المدججة بالسلاح والعتاد من جهة، و من جهة أخرى  صورتها وهي تساق في أسواق النخاسة مكبلة بالأغلال والسلاسل. البطلة والضحية. أم أنها المصالح الدولية التي تكللت بتحويل الضحايا إلى أبطال. الذين لا يستحقون في أفضل الأحوال حسب مفاهيمهم البرغماتية سوى بعض الأوسمة المعدنية أو الأطراف الصناعية المبتورة في جحيم الحرب. 
تقول الحقيقة أن المرأة الكردية السورية عانت مثل غيرها من نساء سوريا المتطلعات إلى التحرر من سياسات الإقصاء والملاحقات الأمنية التي اتبعها نظام البعث. حيث تم محاربتها في تبوء الوظائف والعمل في الشأن العام، و في أحايين عديدة كانت تحتجز كرهينة بدلاً عن الزوج او الأخ الفار من عسف التوقيفات العرفية، و تعرضت الكثيرات منهن لتحقيقات تلك الأجهزة لمجرد الغناء باللغة الكردية أو ارتداء ازياء تراثية وفلكلورية.  
دفعت جملة هذه المضايقات المرأة الكردية إلى التراجع نحو الخطوط  الخلفية. نتيجة  النظرة المجتمعية التي كانت تجد في اعتقالهن عاراً يلحق الهزيمة بالعائلة أو يخدش حياء مفاهيم الذكورة. خاصة وأن المجتمع الكردي مفتوح على بعضه رغم انغلاقه الخارجي على الآخر المختلف. لذا كان تناقل أخبار اعتقال النساء تشبه الى حد ما قضايا الشرف. يتم التكتم عليها، وتغدو المعتقلة كوصمة عار في سجل العائلة. بالتأكيد الموقف يختلف جذرياً حيال اعتقال الذكور، يتحول الى شهامة وبطولة وتضحية يتوجب احترامه. 
هذا المشهد المرئي. الحيادي. هو الأقرب الى واقع المرأة الكردية في سوريا. رغم أن الصورة الخارجية للمجتمع الكردي تبدو ناصعة وبراقة لبعضنا المتحمس لقضايا الجندر ومفاهيم التحرر. حيث العادات والتقاليد التي تسمح باختلاط الجنسين في الحياة العامة. والحماس الكبير باتجاه دفع المرأة الكردية نحو التعلم والعمل. لكن كل هذا لم يجعل مثلاً مؤشرات جرائم الشرف في المجتمع الكردي أخفض من مثيلاتها، في الوسط الحلبي المحافظ. على سبيل المثال. تكاد تنعدم فيه مثل هذه الجرائم. بغض النظر عن  قسوة الأخيرة وتشددها في مواضيع حياتية كثيرة. وقد يعزى هذا إلى العقلية الريفية الكردية التي مازالت تتخبط في إرثها التقليدي المتوارث. حتى فيما يخص قضايا مثل الطلاق والميراث حيث تكون فيه المرأة جنحاً قاصراً. و مع أن قوانين الأحوال الشخصية السورية كانت تضمن لها حق الميراث، لكن النظرة المجتمعية كانت مجحفة وظالمة بحقها، بمجرد أن يرتفع صوتها لمطالبتها بحق مشروع ضمن سند قانوني.
وبالعودة الى صيرورة العقود الثلاثة الأخيرة نجد  المرأة الكردية رغم الخطوات الواسعة التي خطتها باتجاه نيل حريتها لم تستطع الإفلات من سطوة القوانين الذكورية المتحكمة في المجتمع الكردي، وهذا ما انعكس بدوره على ضعف انخراطها في الشأن العام و السياسي منه تحديداً. عدا عن جملة التسويفات والمبررات التي عرجت عليها في المقدمة، ورغم الانفراجات التي وسعت الساحة لانخراط المرأة السورية في الشأن العام بعد الثورة السورية، في منظمات المجتمع المدني والإعلام وصفوف المعارضة.  لكن ما زالت الذكورية مهيمنة على مفاصل نضالات الحركة الكردية السورية. حيث لا نجد طيلة العقود الخمسة الماضية . اي منذ انطلاقة تلك الحركة الكردية ضمن سياقات الحركات التحررية العالمية في خمسينيات القرن الماضي أية شخصية نسوية بارزة. في الوقت الذي احتكر فيه الرجال كل الساحات النضالية والثقافية وتركوا للمرأة عبء تحمل الأعمال النمطية المنزلية . 
استمرت هذه الحالة لحين ظهور حزب العمال الكردستاني الذي دأب على تصدير سياساته اليسارية المتشددة، وكان لكرد سوريا حصة الأسد من هذه الثقافة الوافدة. حيث انتشرت مفاهيمه المغلفة بسلوفان براق وجذاب، مما دفع بالمرأة الكردية السورية لركوب الموجة التي بدت الأقرب إليها لتحقيق هدفين متوازيين. الأول هو التحرر من السلطة الذكورية، والثاني تحقيق الطموح القومي الكردي الذي يعد في حقيقته حلم كل كردي،. فتحولت جبال قنديل خلال ثلاثة عقود ونيف إلى ملاذ آمن لكل النسوة الكرديات الحالمات بكسر قيود المجتمع. لكن المفاجأة هي أن الكثيرات ممن وجدن في بيئة العمال الكردستاني. خلاصاً وتحرراً. اكتشفن أنهن وقعن ضحايا للعبة أكبر. وأنهن ليسوا أكثر من وقود لمرحلة عابرة. وهذا ما نلحظه من تقاطعات اعترافات ممن هربن و تركن السلاح لملاذات آمنة لا تطالها التصفيات والاغتيالات انتهجها هذا الحزب. كسياسة. لدحر خصومه.
ومع تصاعد وتيرة الحرب السورية بعد تحولاتها الثورية ومفرزات المرحلة. برزت ظاهرة محاربة التطرف. كهدف أممي. تنطعت قوى ونظم محلية واقليمية للتصدي لتلك المهمة التي وجدت فيها طوقاً للنجاة من استحقاقات دفع فواتير المرحلة، وهنا تحديداً دخل حزب العمال الكردستاني المصنف على لوائح الارهاب العالمي وفصيله السوري اللعبة ، فلم يجد أفضل من ورقة المرأة لاستمالة الرأي العام العالمي. جرى تعويم المرأة الكردية لغسل الإرث الثقيل لذاك الحزب، من حروب واغتيالات وصفقات مشبوهة. تم الزج بها في خضم حروب ومعارك لا تجني منها بالنهاية سوى كلمات الإطراء والثناء. لم تكن في الحقيقة تلك المهزلة التي سال لها لعاب الغرب أكثر من اكسسوار لتزيين موائد الصفقات السياسية. 
و مع ازدياد الطلب على المزيد من النساء المقاتلات . السلعة التي تلقى رواجاً. ازدادت انتهاكات العمال الكردستاني. تجنيد القاصرات سواء خطفاً أو طوعاً. زج كل من يختلف معه في غياهب السجون أو تهجيره. تفاقم مشكلة الزواج المبكر خشية التجنيد. تراجع مستويات التعلم بشكل ممنهج ومدروس لتوفير أكبر قدر من المتسربات كمقاتلات قيد الاحتمال. 
تم التغاضي عن كل تلك الانتهاكات من قبل مكنات الاعلام الغربية. و تحولت بين ليلة وضحاها أنوثة نسوة مقهورات في بيئة من التعقيدات الاجتماعية والسياسية الى سلاح في مواجهة الارهاب العالمي. مفارقة عجيبة . 
على الضفة الأخرى لم تقدم باقي أطراف الحركة الكردية. كتلة أحزاب المجلس الوطني الكردي، و هو على نقيض وصراع مع سياسات العمال الكردستاني، لم يقدم أي جديد فيما يخص المرأة الكردية. رغم المحاولات الخجولة هنا وهناك و التي باءت أغلبها بالفشل. لكنه ظل يستثمر في المنظومة الذكورية التي تربى عليها وتعايش معها لعقود. وفياً للعقلية الكلاسيكية النمطية.
 أخيراً في المحصلة يمكننا القول أن كم الحيف والإجحاف الذي تعرضت له المرأة الكردية في سوريا لا يقل. سياسياً. عن كم مظالم العادات والتقاليد والموروث الاجتماعي الذي تعاني منه كل نساء المنطقة على مختلف مشاربهم القومية والدينية. ولكن ما يميز النسوة الكرديات اليوم أنه يتم استثمارهن في مزادات الحرب بما لا يختلف عن مزادات داعش وأخواتها، سوى أن الأولى تتم بما يتوافق مع سياسات ومصالح الدول العظمى أما الأخيرة فتبدو أنها الشر الوحيد المتربص باستقرار هذا العالم. وسط هذه المعادلة لا تجد المرأة الكردية مناصاً سوى أن ترمي بنفسها في جحيم الحرب كمحاولة للهروب نحو المجهول. 
——— 
تنويه: سبق وارسلت المقالة من قبل الكاتبة – صبيجة خليل – الى احدى محررات موقع “طلعنا عالحرية” لنشرها في الموقع المذكور، ولكن الكاتبة فوجئت بنشرها في موقع “كلنا سوريون” و باسم المدعوة ” د. خولة حسن الحديد ” … 
تتساءل الكاتبة كيف وصلت المادة الى يد المدعوة ” د. خولة حسن الحديد ” قبل نشرها في موقع آخر .
رابط المقال المسروق:

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…