بوكتشين، أوجلان وجدلية الديمقراطية* 1/3

 جانيت بيل**
ترجمة: عدنان بدرالدين
مابين 3-5 شباط – فبراير- لعام 2012 ، عقد في مدينة –هامبورغ- بالمانيا كونفرانس تحت عنوان “تحدي الحداثة الرأسمالية: المفاهيم البديلة والقضية الكردية”. النص التالي ألقي كخطاب أمام الحضور في الكونفرانس المذكور.
في شباط-فبراير- من عام 1999، عندما جرى إختطاف أوجلان في كينيا، كان – موراي بوكتتشين- يقيم معي في برلينغتون، فيرمونت. تابعنا معا عملية القبض عليه عبر التقارير الإخبارية المعروضة. كان بوكتشين يتعاطف مع محنة الكرد- وكان يشهر تعاطفه هذا كلما جاء الحديث على هذا الموضوع- لكنه كان يرى في أوجلان مجرد قائد حرب عصابات آخر من الطراز الماركسي-اللينيني، تحول لاحقا إلى المواقع الستالينية. كان موراي قد دأب، على مدى عقود، على إنتقاد مثل هذه الشخصيات، كونها تقوم بتضليل البشرعبرإستغلال إندفاعتهم للحرية لجرهم إلى موقع الخضوع للسلطة، وللعقائد الجامدة، وغرس قيم الدولاتية (ستاتيزم) فيهم إلى درجة قبولهم للرأسمالية.
كان بوكتشين نفسه، كفتى يافع، في ثلاثينات القرن المنصرم ستالينيا، لكنه هاجر الستالينية لاحقا خلال العقد ذاته، إلى التروتسكية. في ذلك الحين، كان التروتسكيون يعتقدون أن الحرب العالمية الثانية ستفضي، حال إنتهاءها، إلى قيام ثورات بروليتارية إشتراكية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، بذات الطريقة التي فتحت بها الحرب العالمية الأولى الطريق أمام قيام الثورة الروسية. لكن شيئا من هذا لم يحدث في عام 1945، مما أدى إلى إنهيار الحركة التروتسكية بعد أن تبين خطأ توقعاتها التي سوقتها كمسلمات. تخلى الكثيرون من أعضاء الحركة، إن لم يكن جلهم، عن الماركسية والسياسات الثورية عموما، ليصبحوا لاحقا، أكاديميين أو رؤساء تحرير مجلات، أي أنهم قبلوا، بدرجة أو بأخرى، العمل في إطار المنظومات السياسية القائمة.
بوكتشتين كان هو الآخر، من بين من تخلى عن الماركسية. فقد تجلى له بوضوح أن الطبقة العاملة، رغم كل شيئ، لم تكن ثورية، لكنه بدل أن يجاري التيار العام، أنجز هو ورفاقه، عملا فريدا حين ظلوا ثوريين إجتماعيين. وقد قاموا بتذكير واقع أن تروتسكي قبل إغتياله كان قد قال بأنه، وفي حال حدث ماهو غير متوقع البتة، وإنتهت الحرب إلى غير الثورة، فإنه سيكون من الضروري  حينذاك، إعادة التفكير بالعقيدة الماركسية ذاتها.
كان بوكتشين وصحبه لايزالون واثقين تماما من أن الرأسمالية بطبيعتها منظومة سيئة، تحمل في ذاتها بذرة موتها، ولكن، إن لم تكن البروليتاريا هي نقطة ضعفها، فماذا تكون إذن ياترى؟ أدرك بوكتشين مبكرا، في بدايات الخمسينات من القرن العشرين، بإن نقيصة الرأسمالية القاتلة هي أنها تدخل في صراع مع البيئة الطبيعية، وبكونها مدمرة للطبيعة ولصحة البشر على حد سواء. فقد صنعت (بتشديد النون) الزراعة، ولوثت المحاصيل وأبدان الناس عبر ضخها بمواد كيميائية سامة، وضخمت المدن بدرجة لاتطاق، ومن خلال عزل هذه الأخيرة عن الطبيعة، حولت البشر إلى آلات، ملحقة بذلك الضرر بأبدانهم ونفسياتهم. كما أنها تمارس الضغوط من خلال الدعاية النشطة على الناس العاديين لكي يهدروا أموالهم في شراء منتوجات غير مجدية يتسبب تصنيعها في إلحاق مزيد من الضرر بالبيئة، وعلى هذا، فإن أزمات الرأسمالية لاتنبع من إستغلال الطبقة العاملة، بل من اللاإنسانية المتغولة للبشر وتدمير الطبيعة.
من أجل بناء المجتمع البيئي (الآيكولوجي)، يتعين تحويل المدن إلى تجمعات لامركزية لكي يعيش البشر في نطاق أضيق، يمكنهم من حكم أنفسهم بأنفسهم، وزراعة المحاصيل الزراعية محليا، وإستخدام الطاقة المتجددة. ولن يسترشد المجتمع الجديد، بآليات السوق أو أوامر سلطة الدولة، وإنما بإرادة الشعب التي ستهتدي بدورها بالأخلاق على صعيد الكومونة الواحدة.
إنشاء مثل هذا المجتمع الآيكولوجي الرشيد يستوجب وجود مؤسسات قابلة للحياة أطلق عليها بوكتشين تسمية “أشكال الحرية”. إن كل من المنظمة الثورية ومؤسسات المجتمع الجديد يجب أن تكون تحررية حقا بحيث لاتمهد لظهور ستالين جديد، أو طاغية آخر بإسم الإشتراكية، ولكنها يجب أن تكون من القوة بما يكفي لهزيمة الرأسمالية.
أدرك بوكتشين أن هذه المؤسسات لايمكن إلا أن تكون مجالس ديمقراطية، إذ يجب القضاء على الدولة القومية القائمة ، ونقل سلطاتها إلى المواطنين في المجالس التي في مقدورها أن تتخذ قرارت أفضل من أرباب الصناعة، فيما يتعلق بالبيئة مثلا.  وحيث أن المجالس تعمل في بيئات بشرية محدودة، فإنه، ولتمكينها من العمل على نطاق أوسع، يجب أن تتحد مع بعضها البعض في كونفدرالية.
أمضى بوكتشين العقود اللاحقة في صياغة أفكار المجتمع الديمقراطي الآيكولوجي. ففي عام 1980، على سبيل المثال، قال بأن كونفدرالية مجالس المواطنين، ستغدو قوة مضادة لقوة الدولة القومية، أو موازية لها. وأطلق على برنامجه هذا إسم الكومونالية التحررية، ولاحقا الكومونالية. بعد ذلك، حاول إقناع اليساريين في أوربا وأمريكا بأهمية هذا المشروع، لكن جلهم كان مشغولا بإبداء الإعجاب بماو وهوشي منه وفيدل كاسترو. بوكتشين قال أن هؤلاء هم مجرد طغاة، لكن اليساريين لم يكونوا على إستعداد لسماع مثل هذه الإنتقادات، وردوا عليه بالقول أن النزعة البيئية والديمقراطية هي أفكار برجوازية صغيرة. الفوضيون كانوا المجموعة الوحيدة التي قبلت الإصغاء إليه، بسبب آراءه المعادية للدولة، وكان هو ذاته قد بدأ يعتبر وجها فوضويا مرموقا.
أخبر بوكتشين الفوضويين أن مشروعه في الكومونالية التحررية يعكس سياساتهم الطبيعية، ونظريتهم الثورية. كانوا مهيئين للإستماع إليه بإحترام ، ولكنهم أخبروه، إثر ذلك، بأنهم لايتقبلون الحكومات المحلية، بنفس القوة التي يناهضون بها أية حكومة أخرى، كما أبدوا إعتراضهم على فكرة الإنصياع لرأي الأغلبية، بإعتبارها تصادر حق الأقلية. كانوا يفضلون تجمعات كومونالية لاسياسية وتعاونيات ومكتبات لترويج الفكر الراديكالي وبلديات مستقلة. بوكتشين كان من جانبه لايعترض على ذلك، ولكنه كان يؤمن بأنه لكي تنجح في إشعال ثورة حقيقية يجب أن تمتلك قوة قانونية وسياسية ذات هيكلية ملموسة وراسخة. الكومونالية التحررية، برأيه، هي السبيل لتحقيق ذلك من أجل إيجاد موطئ قدم لمناهضة الدولة القومية.
تودد بوكتشين للفوضويين، تغزل بهم، ناشدهم، تملق لهم، توسل إليهم، عنفهم، فعل كل مافي وسعه عبثا لإقناعهم بأن الكومونالية التحررية هي الطريق نحو تحقيق أهدافهم. وبحلول عام 1999، عام إعتقال أوجلان، وجد نفسه أخيرا مجبرا على فض إرتباطه بالفوضوية.
 *     *       *
وبينما كان هذا كله يحدث، لم نكن قد قرأنا الكثير عن مرافعة أوجلان أثناء محاكمته بتهمة الخيانة: لم نكن نعرف، مثلا، أنه كان يمر بتحول كذلك الذي كان بوكتشين قد مربه قبل نصف قرن، وأنه بات يرفض الماركسية لصالح الديمقراطية، وبأنه كان قد خلص إلى أن الماركسية (هي نظرية) إستبدادية وعقائدية وغير قادرة على إجراء مقاربة خلاقة للمشكلات الحالية (1). “يجب علينا أن نستجيب لمتطلبات اللحظة التاريخية” قالها أوجلان أمام المحكمة. للمضي قدما إلى الأمام يجب “إعادة تقييم مبادئ وبرنامج وطريقة العمل” (2) هو شيئ كان بإمكان بوكتشين قوله في عام 1946.
اليوم، توجه أوجلان بكلامه إلى هيئة الإتهام التركية قائلا بأن الأنظمة الجامدة تنهار، وأن “المشكلات القومية والثقافية والعرقية والدينية، بل حتى المشاكل الإقليمية يمكن حلها من خلال توفير وتطبيق أوسع المعايير الديمقراطية.” (3). على حزب العمال الكردستاني، يقول أوجلان، التخلي عن هدف إقامة دولة كردية مستقلة، وإعتماد برنامج يخص تركيا ككل. الديمقراطية، برأيه، هي مفتاح (لحل) القضية الكردية وذلك لأن كل مواطن في ظل النظام الديمقراطي يتمتع بحقوق كثيرة بما في ذلك حق الإقتراع، كما أن بإمكان الجميع المشاركة بغض النظر عن عرقهم. هناك إمكانية لدمقرطة الدولة التركية بما يكفل إعترافها بوجود الشعب الكردي وبلغته وثقافته. (4) هذا لم يكن له علاقة بديمقراطية المجالس، التي كان يدعو إليها بوكتشين، بل أقرب إلى شيئ معاكس لها تماما، رأسه على الأرض وقدماه في الهواء، إذ أن “الهدف هو الجمهورية الديمقراطية”. أوجلان أشار أيضا إلى أن الديمقراطية هي المفتاح لمستقبل تركيا لأنها لايمكن أن تكون ديمقراطية حقا بدون الكرد. بعض البلدان الديمقراطية، يؤكد أوجلان، تمكنت من حل مشاكلها العرقية من خلال إستيعاب الجماعات التي كانت ذات يوم مهمشة، وقد ساعدتها هذه الإستيعابية والتنوع لأن تكون أقوى. في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وفي أماكن أخرى كثيرة تعاني من مشاكل أثنية أكثر تعقيدا من تلك التي تواجهها تركيا تم إحراز تقدم ملموس فيما يخص الإستيعابية الإثنية بشكل منح القوة للجميع. قبول الآخر حول في كل أنحاء العالم الإختلاف إلى قوة.
من الجائز أن تكون النيابة التركية قد فكرت بالرسالة، إلا أنها لم تهتم بقائلها، إذ أنها أدانته وحكمت عليه بالإعدام، الحكم الذي خفف لاحقا إلى الحبس الإنفرادي.
  للبحث صلة
* نص كلمة ألقتها الكاتبة أمام كونفرانس “تحدي الحداثة الرأسمالية: المفاهيم البديلة والقضية الكردية” الذي عقد في مدينة هامبورغ بألمانيا عام 2012. الترجمة مأخوذة من نصها الأصلي المنشور باللغة الإنكليزية في موقع – نيو كومباس- الإلكتروني. ويمكن قراءة النص الأصلي على الرابط التالي:
   http://new-compass.net/articles/bookchin-%C3%B6calan-and-dialectics-democracy
** كاتبة وناشرة ومصممة غرافيك أمريكية معروفة. عملت بيل طويلا مع موراي بوكتشين وروجت لأفكاره في أوساط الحركة الخضراء في الولايات المتحدة. أصدرت سلسلة من الكتب في هذا المجال، بعضها بالتشارك مع بوكتيشين. ورغم أن جانيت بيل لم تعد تعتبر نفسها مناصرة ل”حركة الآيكولوجيا الإجتماعية” فإن كتاباتها لاتزال تلهم مناصري هذا التيار. من أهم مؤلفاتها: إعادة النظر في السياسات الآيكوفيمينية (1991)، سياسات الآيكولوجيا المجتمعية : الكومونالية التحررية (1997)
(1). Abdullah Ocelan, Delclarion on Democratic Solution of the Kurdish Question, 1999, trans. Kurdistan Information Centre (Mesopotamia publishers, 1999);  hearafter Defense; P. 106.
(2). Ibid; p. 44.
(3). Ibid; p. 55.
(4). Ibid; p. 89-90.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…